للمرة الثانية، ننعي أحد أهم وأشرف الوطنيين في
مصر، والذي اتخذ لقبا لم يتخذه أحد من قبله: "الرئيس المدني المنتخب الوحيد". يُعد الرئيس الدكتور محمد
مرسي علامة ورمزا للصمود في قضية مصر الكبرى، في مواجهة عصابة مستبدة فاشية.. فالنظام الانقلابي أراد أن يجعل من انقلابه أمرا مشروعا ومقبولا بكل الحيل الاستبدادية المتعارف عليها في كتب الاستبداد، ولم يكن صمود الرئيس مرسي إلا علامة واضحة لشعب بأسره، ويكشف هذه السلطة الغادرة المستبدة ويفضحها. فالشعب يفرق بين ثورة يناير التي أرادت التغيير، وأحداث 30 حزيران/ يونيو التي آلت إلى استبداد عسكري فاشي.
وعند رؤيتنا لقيمة هذا الرجل وصموده، فإنك لا يمكن أن تراها في إعلام ذلك المستبد الذي يسبح بحمده، رغم استخفافه بالأرواح والنفوس وقيامه بتكميم الأفواه ومصادرة الكلام ومنع التظاهر، بل وتجريمه، إلى جانب دعواه الزائفة التي يتمسك بها ذعرا؛ بأن ما حدث في ثورة يناير لا يمكن أن يعود وأنه لن يسمح به مرة أخرى. لا يفهم هذا المستبد الطاغي والطاغية الفاشي أن "الثورة ليست بسماحه"، وأن الشعوب حينما تقول كلمتها لن يستطيع لها كائن من كان صدا أو ردا. في حقيقة الأمر أن هذا الموقف المعبر عن إرادة ثورة وعن مطالب شعب؛ لم يكن ليجد له طريقا أو سندا إلا من صمود رئيس لم يخضع ولم يخنع، وأكد بصموده هذا أن للتغيير حجية لا يمكن إنكارها، وأن الثورة لا زالت تعتمر في نفوس الناس.
ومن جهة أخرى، تكشف النقاب من أن الفاشي قد يبدو متمكنا، ولكنه في حقيقة الأمر لا يستند إلا إلى استقرار زائف ورضا كاذب يشكله بأجهزة إعلامه وإفكه وخطابها الفج والفجر، مستخدما غسيل المخ الجماعي الذي تمارسه هذه الأجهزة ببجاحة منقطعة.. أراد هؤلاء أن ينكروا حدثا كبيرا وعظيما في صمود هذا الرجل وموته شهيدا؛ يدافع عن هذه القضية حتى آخر نفسٍ في حياته، فلم يعلن للمستبد عن استبداده، وأصر على عدم استرحامه، وظل مواجها له صامدا في مقامه، رغم أنهم قد نكّلوا به من خلال محاكمات انتقامية انتقائية ملفقة، لا أصل لها ولا سند، إلا فُجر نظام انقلابي حاول أن يفرض عملية اختطاف كبرى تمثلت في اغتصاب للسلطة الشرعية ومقدرات الوطن وكافة المؤسسات، حتى يجعلها تحت قدميه؛ يستفحل بها ظلمه ويدير من خلالها استبداده.
منذ البداية خافوا في هذه المنظومة الانقلابية هذا الرئيس وتوجسوا منه، وحاولوا بكل شكل وضع العراقيل في طريق توليه وتنصيبه. أرادوا بذلك أن يضعفوا مكانته ووظيفته بإعلانات لا دستورية مكبلة؛ لا يهدفون منها إلا ممارسة استبدادهم تمهيدا لانقضاضهم المباشر لاختطاف المؤسسات، هذا الخوف المروع والفزع الكبير جعلهم يواجهون شهادته وسرديته، وشهوده وصموده، بهذا الإنكار الخطير الذي يؤكد أن في مصر رجالا، وأن أهلها لا يمكن أن تكتمل حلقة استعبادهم؛ لأن رمز الصمود حينما يترجم إرادة شعب ومواجهة عصابة مستبدة فإنه يؤكد أن معركة الثورة لا بد أن تستثمر وأن تستمر.
حاولوا أن يطمسوا سردية ثانية يحملها الرئيس حول هذا الانقلاب الفاشي، فلفقوا له التهم غير المقبولة وغير المعقولة؛ وبدا لهم بعد ذلك ألا يكتفوا بسجنه، ولكن وضعوه في قفص زجاجي يكتم صوته ويمنع كلمته؛ لأنهم يرتعبون منها ومن أثرها، ليمنعوا تلك السردية التي يحملها الرئيس بين أنحائه ومكنونه والتي عبر عنها أكثر من مرة؛ حينما أكد أنه يحمل أمانة يريد أن يؤديها إلى أصحابها ويملك أمورا خطيرة يريد أن يحيكها، وأنه طلب المرة تلو المرة مقابلة دفاعه كحق أساسي له ليمارس حقه في الدفاع عن أمة وارادة شعب، ويكشف كل ما يتعلق من فعل تلك العصابة المجرمة التي اختطفت الوطن ومقدراته ملوحة بسلاحها، مدعية أنها تواجه إرهابا محتملا؛ اصطنعته وطلبت التفويض بالقتل على قاعدة افتعاله، حتى تروع الناس وتفزعهم، وتكرس أركان جمهورية الخوف تحت نظرها، وبحماية قوى أمنها، مع التلويح بالسلاح الموجه لصدر الشعوب.
أتعرفون لماذا قام هؤلاء بالتنكيل بالرئيس.. في محاولة لثني صموده وكسر إرادته؟ لأنه مثّل رمزا كأول رئيس مدني منتخب، وانتخابه كان حقيقيا نزيها أمينا باعتراف القاصي والداني، ولكنهم في هذه المرة يتغوطون بكلامهم من خلال زبانية إفكهم؛ بأنه لم يكن إلا رئيس الصدفة، في محاولة منهم للتشكيك في انتخابه، معتبرين أن انتخاب الشعوب والتعبير عن إرادتها ليس إلا مصادفة، فأرادوا أن يشوهوا التجربة، وأرادوا ألا تتكرر، نكّلوا بمدنيته ولانتخابه الحقيقي، لتجرؤه على دخول قصر الرئاسة ممثلا لإرادة شعب. ذلك أنهم يعتبرون هذا القصر ملكا خاصا بهم لا ينازعهم فيه أحد، حتى لو عبّر عن ارادة أمة وعن اختيار شعب.
خافوه حيا وارتعبوا منه ميتا.. مات الميتة الشريفة صامدا كبيرا عظيما شهيدا، ومن هنا نشروا قوات أمنهم ومنعوا جنازته، واقتصروا على بعض أهله في دفنه في جوف الليل، وكأنهم (بل هم كذلك على الحقيقة) يحاولون طمس جريمة كبرى ارتكبوها في حق هذا الشعب.. وكأنهم أرادوا بدفن الرئيس بهذه الطريقة أن يُدفن معه كل ما مثّله من رمزية تتعلق بهذا الشعب وخياره، وتمكن عصابة مجرمة لا تملك إلا قوة تستخدمها في مواجهة شعب أعزل في استراتيجيات تتعلق بالتفزيع والترويع والافقار والتجويع، واغتصاب سلطة شرعية بانقلاب عسكري.
ومن المؤكد أن عملية الإنكار هذه التي يمارسها هذا النظام الفاشي إنما تشكل أهم مؤشرا على الرعب الذي يعيشه هذا النظام، فيخاف من الكلمات الكاشفة ومن السردية الصادقة في مواجهة تلك الزائفة. ورغم أن هؤلاء يستندون في بقائهم لحلف دنيء مضاد للثورات والتغيير، فإن الثورات تهب من كل مكان عليهم وعلى أمثالهم من الطغاة والعسكر في السودان والجزائر، بعد أن استبعد هؤلاء أن تثور الشعوب وتعبر عن إرادتها وآمالها.. سيحيط بكم الرعب من كل مكان وفق معركة الصمود التي أسس لها صمود الرئيس مرسي؛ يعقبها معركة التغيير، والثورة الآتية لا محالة حتى لو استطاع هؤلاء أن يكمموا الأفواه فترة أو يطمسوا الاحتجاج والمقاومة زمنا؛ فالصمود مبدأ التغيير والشهود.
في هذا السياق، فإن هذا الحدث الكاشف قدم الكثير لهذا الشعب الصابر الثائر قدم له قصة صمود؛ وقدم أكثر لهذا السلطان الغاشم الطاغي، فاضحا إياه على رؤوس الأشهاد في قتله للرئيس قتلا ممنهجا.. حاول المنقلب وزبانيته قتله معنويا، فلم يفلحوا.. واجههم بصموده، فما كان منهم إلا أن نالوا من جسده المريض بكل عمل ممنهج للقتل البطيء، في عمل جنائي مروع؛ وهو ما يفرض على الجميع أن يواجهوا هذا النظام الفاشي الذي احترف القتل والاعتقال والمطاردة.. هذه الميتة الصامدة كشفت عن إرادة شعب، ولا بد أن تعبر عن كل ما يتعلق بأشواق التغيير والأمل لشعب يستحق عيشا كريما ووطنا عزيزا؛ ليتخلص من هذه العصابة الفاشية التي عبثت بمقدرات الوطن، وغدرت بالسلطة الشرعية، وقطعت الطريق على مسار ديمقراطي. فإذا كان الرئيس قد مات وهو يخوض معركة الصمود، فعلى هذا الشعب بأسره وقواه الحية الشريفة أن تلتئم اصطفافا وتماسكا وتمسكا؛ لخوض معركة النفس الطويل في تغيير منشود قادم يسترد كرامة المواطن ومكانة الوطن.
رحمك الله يا رمز الصمود، يا من أصبحت بهذا الصمود وباستشهادك أيقونة في حياة الناس.. صمود رئيس وميتة شريفة واستشهاد عظيم، ورمز لتلك الأمة التي ستستأنف معركة الأمل والتغيير.