العنصرية في البحوث الطبية

ظل التمييز السلبي ضد شرائح معينة من المجتمع، وما زال، ممارسة مؤسسية في الكثير من الدول. ولا يتعلق الأمر فقط بألوان البشرة، بل بالجنس (أنوثة وذكورة) أو الدين، أو حتى اللغة.

وعرف التاريخ الإنساني المدون الاسترقاق منذ عهود الرومان والإغريق والفرس والعرب القديمة، ولكن استعباد البشر في تلك العهود السحيقة لم يكن تجارة، بل كان أسرى الحروب، ومعهم بعض مواطني الشعوب المنهزمة، يخضعون لنوع رحيم من الاسترقاق، بدليل أن العبيد في كثير من الإمبراطوريات القديمة، كانوا مقربين من القابضين على مقاليد الحكم، وصعدوا في مراقي السلطة، ودانت لهم الدول التي كانوا مستعبدين فيها.

وصفت شكلا من الاسترقاق بـ"الرحيم"، فقط من باب حنانيك بعض الشر أهون من بعض؛ لأن استعباد فئات من الناس أخذ أشكالا قبيحة في العصور المتأخرة؛ من بيع وشراء وسخرة وتعذيب وتنكيل، كما حدث لملايين السود الذين تم جلبهم من أفريقيا للعمل في الأمريكيتين.

بعد كفاح طويل، نال السود في الولايات المتحدة حقوقهم المدنية في ستينيات القرن الماضي، وصاروا - على الورق على الأقل - يتمتعون بنفس حقوق المواطنة التي يتمتع بها البيض، أي الذين وفدوا إلى أمريكا الشمالية هربا من الاضطهاد الديني (المسيحيون البروتستانت) أو طلبا لمستوى عيش أفضل.

بعد كفاح طويل، نال السود في الولايات المتحدة حقوقهم المدنية في ستينيات القرن الماضي، وصاروا - على الورق على الأقل - يتمتعون بنفس حقوق المواطنة التي يتمتع بها البيض، أي الذين وفدوا إلى أمريكا الشمالية

ولا يكون الإنسان أبيض البشرة، ما لم يكن يعاني من مرض جلدي يجعله "أمهق"، ولكن الأوروبيين بصفة عامة - وهم أول من استعبد الأفارقة بالجملة عبر الاستعمار - اختاروا للون بشرتهم اسم الأبيض؛ لأن البياض في أدبياتهم وأدبيات كثير من الشعوب يرمز للطهر والنقاء والصفاء والاصطفاء، ونقيض البياض هو السواد: سواد/ سوء الطالع والفأل والطباع، وإلى يوم الناس هذا نتكلم بالعربية عن حظ أسود ونهار أسود، وجعل سواد الريش الغراب طائر شؤم، ولم يجد التعيس عنترة العبسي؛ شيئا يعزي به نفسه عندما حرمه سواد لون جلده من الاقتران بالحبيبة عبلة، سوى أنه "لولا سواد الليل ما طلع الفجر".

ولأننا ببغاوات عقولها في آذانها، فقد تبنينا مفردات من قاموس الغرب، وصرنا نتكلم عن "الملونين"، وهي الصفة التي يطلقها الغربيون على الشعوب السوداء والسمراء؛ لتعزيز الاعتقاد بأنهم أصل البشر، ومن يخالف لونهم يصبح ملونا، أي شاذا ونشازا. واختار الغربيون لسكان شرق آسيا اسم الشعوب الصفراء، وكأنهم، وتعدادهم يربو على البليونين، يعانون من التهاب الكبد الصفراوي (اليرقان)، والصفرة من علامات الذبول.

تناولت في مقالي الأخير هنا في "عربي21"؛ سيرة الطبيب جون ماريون سيمز، الذي يعرف بـ"أبو طب النساء والولادة الحديث"، وكيف أنه بنى مجده المهني على فروج عشرات النساء المسترقات في الولايات المتحدة، حيث أشبعن قطعا وجرحا باليد وبالأجهزة التي كان يقوم بتجريب فعاليتها، دون استخدام أي نوع من التخدير لتخفيف وطأة الآلام عليهن؛ لأنه وغيره من الأطباء البيض كانوا يفترضون أن السود لا يحسون بالألم؛ بنفس الدرجة التي يحسه بها ذوو البشرة الفاتحة.

 

لأن تلك البحوث كانت متعلقة فقط برصد طرق انتقال المرض، فقد تم حرمان المصابين به الخاضعين للتجارب، من أي دواء أو مسكن للألم، وكانت النتيجة أن مات أكثر من مئة منهم

ويبدو سيمز هذا أقل عنصرية، عندما نقلب سجل البحوث الطبية الأمريكية، فنجد أن هيئة الصحة العامة في الولايات المتحدة بدأت في عام 1932 في دراسة مرض الزهري لتقصي طرق انتشار عدواه، فكان أن جاءت بأربعمئة امرأة سوداء مصابات بالمرض، ومئتي رجل لا يعانون منه، في مقاطعة ماكون في ولاية ألاباما، وطلبت منهم أن يتناكحوا ويتناسلوا مقابل حوافز مالية، وكان الأطباء يثقبون ظهورهم ويسحبون منها السوائل بعد إيهامهم بأنهم فقط يسحبون "الدم الفاسد".

ولأن تلك البحوث كانت متعلقة فقط برصد طرق انتقال المرض، فقد تم حرمان المصابين به الخاضعين للتجارب، من أي دواء أو مسكن للألم، وكانت النتيجة أن مات أكثر من مئة منهم.

كان القائمون على تلك التجارب يدركون أنها لاأخلاقية في نظر المجتمع الطبي الدولي، ومن ثم تكتموا عليها إلى أن فضح أمرها عامل غير طبي في هيئة الصحة العامة الأمريكية في عام 1974، (أي بعد أن ظل السود الأمريكان كفئران تجارب لواحد من أكثر الأمراض الجنسية فتكا بالإنسان طوال 42 سنة)، فكان أن صدرت ضوابط لاستخدام البشر في مجال البحوث الطبية.

 

آلاف الأطفال محتجزون في مراكز عزل في غرب الولايات المتحدة، بعيدا عن ذويهم، لا لجرم سوى أنهم من أصلاب لاتينية؛ لأن حكومة ترامب كانت بصدد التهجير القسري لعدة ملايين من اللاتينيين، تناسلوا وتكاثروا على الأرض الأمريكية، بزعم أنهم يحملون جينات الإجرام والفجور

وفي هذه اللحظة، وأنت تقرأ هذه الكلمات، هناك آلاف الأطفال محتجزون في مراكز عزل في غرب الولايات المتحدة، بعيدا عن ذويهم، لا لجرم سوى أنهم من أصلاب لاتينية، (أي من أمريكا الجنوبية والوسطى)؛ لأن حكومة دونالد ترامب كانت بصدد التهجير القسري لعدة ملايين من اللاتينيين، تناسلوا وتكاثروا على الأرض الأمريكية، بزعم أنهم يحملون جينات الإجرام والفجور (تراجع ترامب عن قرار التهجير، دون تقديم تبرير، كالعادة)، ولكن الأطفال ما زالوا أسرى في تلك المعسكرات.

ونحن أبناء وبنات الشعوب السمراء، تجاوزنا بفضل الله العصور الدموية التي عايشها أسلافنا، ولا يعرف تاريخنا الحديث على قتامته، عنصريين دمويين من شاكلة هتلر "الأبيض"، ولا دساتير تقسم الناس إلى "درجة أولى" وتوابع لهم، إلا على نطاق ضيق: السلطان وبطانته الصغيرة في جهة، وبقية الشعب في جهة أخرى، ولكنّ عزاءنا أن ذلك لا يكون على أساس اللون أو العرق في غالب الأحوال.