يعد علماء السياسة في مواقفهم درجات متعددة، ولكن من المهم أن نشير إلى أن هؤلاء الذين انخرطوا في العلوم
السيسية ليسوا هم فقط المسؤولون عن أزمة العلوم السياسة وأدوارها الحقيقية التي يمكن أن يقوم بها العلماء؛ في النهوض بالمجتمع والإسهام في عملية التغيير الحقيقي. ونؤكد في هذا الباب أن خطر علماء السياسة ليس فقط في انخراطهم أو في كتاباتهم أو حديثهم في عملية نفاق للمستبد وصاحب السلطة، حينما يقومون بالتبرير والتزوير كما سبق وأشرنا إلى ذلك، إلا أن هؤلاء الصامتين الذين لا يتحدثون عما يجري في المجتمع، وعن اغتصاب السياسة من المستبد وزبانيته، إنما يدخلون في نطاق المسؤولية الكبرى عن هذا الفعل الساكت الذي يمكن للمستبد، فلا يعقبون على أفعال استبداده ولا لسان طغيانه، فيمكنون بهذا السكوت له ولكل ما يتعلق بتكريس العلاقة الفرعونية في سياساته ومواقفه وخطاباته. ولا شك أن هذا السكوت إنما يشكل حلقة أخرى في إحكام وضع المستبد واستفراده بشعبه؛ يفعل به ما يريد متى أراد وأنى شاء.
صمت هؤلاء العلماء فترة من الزمن على صنعة المستبد، حينما قرر أن يقيم "مؤسسات كأن"، كأن لدينا حكومة، وكأن لدينا برلمانا وكأن لدينا أحزابا وكأن لدينا تنمية.. صمت هؤلاء صمت القبور، لم يعقبوا ولم يكتبوا عن تلك الحالة الصورية التي تمكن لـ"دولة كأن" ضمن سياسات ديكورية ومؤسسات زينة ليس لها أية قدرة على الفعل أو التفعيل أو الفاعلية، وكأن السياسة زيف يسير بين الناس وقناع يخفي كل ما يتعلق بشأن السياسة والحكم. لم يجرؤ هؤلاء على أن يكشفوا هذا الزيف، فاستمر من الأعوام عقودا عدة وأدى ذلك إلى موقف شديد الخطورة، وكأن عالم السياسة يعيش في مجتمع غير المجتمع ويتحدث عن شعب غير الشعب، وكأن هذه السياسات لا تمس الكل في الصميم. عالم السياسة قانع بتدريس كلام نظري ويحاول توقيعه على واقع مزيف ومزور يعيشه كليا. صار بالجملة عالم السياسة من فِرط سكوته، وكأنه لم يمارس جوهر وظيفته يوما، وصار بالجملة "عالم كأن" فصار "عالم سياسة كأن".
أخطر من ذلك أن يقوم هؤلاء بإلقاء الدروس على طلبتهم، متغافلين ومتجاهلين ليس فقط الحديث حول "دولة كأن"، ولكن "دولة الضد"، ذلك أن هذا السكوت المريب على تلك الحالة الزائفة شجع المستبد على حالة باطشة أسوأ من سابقاتها. فالمستبد في سلسلة استخفافه بهذا الشعب ونخبته لم يعد يجتهد في تقديم حالة ديكورية أو مؤسسة زينة، بل إنه بدا يصنع دولة الضد. المؤسسات تقوم على عينه بوظائف الضد.. الأجهزة الأمنية لم تعد تحفظ الأمن، بل هي التي تنشر الترويع في كل مكان وتروج حالة من التفزيع في كل أرجاء الوطن، والمواطن هو من فئة العبيد ليس إلا راحلة في قطيع، يقوم الأمن بضد مقصوده لا ينشر الأمن والأمان، ولكن ينشر الخوف والترويع. وكذلك الإعلام لم يعد مُعلِما، ولكنه صار مزورا يقدم خطاب إفكه كل يوم، يقوم بغسيل المخ الجماعي ليل نهار. فلم يعد الإعلام مجرد إعلان فحسب، ولكنه جهاز يبث خطابات الإفك والكذب والافتراء.. والقضاء لم تعد مهمته إقامة العدل يحاول من خلال سياساته الظالمة أن يتم حالة الترويع والتفزيع، اتهامات بتهم ملفقة وتحقيقات مزورة وأحكام باطلة، ينشر كل وقائع الظلم والإجحاف، بدلا من إقامة أصول العدل وحقائق الإنصاف.
يطول بنا المقام لو عددنا مظاهر دولة الضد التي سكت عنها علماء السياسة، وقد يخرج علينا البعض أن الذي اعتلى عرش السلطة قد وضع قواعد لعبة جديدة للتعامل بها مع المعارضة. وهو في حقيقة الأمر لا يهتم بالقواعد، إنما يمارس بلطجة المستبد الذي صار يحكم من خلال سدنته، عصابة تمكنت من هذا الشعب واختطفت هذا الوطن، فما لعلماء السياسة لا يتكلمون ولا يدرسون، بل إنني في دهشة عجيبة.. ماذا يقول هؤلاء لطلبتهم داخل قاعات الدرس؟ هل يحدثونهم عن مستبد استخف بهم فحوّل دولة الزيف "كأن" إلى دولة الضد الظالمة التي لا يقيم فيها وزنا أو حساب لشعب أو وطن؟ هل يدرسون ذلك توعية لطلابهم بتلك الظواهر الشائكة والزائفة التي ترعى في ربوع هذا الوطن؟ هل يتحدثون عن اغتصاب السياسة الذي لم يعد هناك ممارسة لسياسة في أرجاء هذا البلد ومجالاته العامة التي صودرت أو تكاد؟ تزداد الأسئلة ويخيم صمت القبور، عالم السياسة ليس هنا، عالم الساسة يقول كلاما لا أثر له، ويدرس أمورا لا واقع لها، هو لا يستطيع ولا يقوى على نقد هذا الواقع أو نقضه، إنه في جملة من رُوع وجَبُن، فما كان منه إلا صمتا مطبقا وسكوتا مخيما.
إذن، فإن هؤلاء الذين نافقوا أو زيفوا أو صمتوا هم أهم طرف في تشويه مفهوم السياسة بممارستهم.. هم الذين أبقوا على ممارسة الدنس، وجعلوا من مفهوم السياسة نجاسة، بانخراطهم أو بنفاقهم. إن نفاق المستبد أو السكوت على كل ظواهر أو مظاهر طغيانه أهم باب يدخل منه تآكل وظيفة عالم السياسة الذي وقع في حلقة مفرغة بين شبق للسلطة وحب الاستوزار (عبده مشتاق)، وبين حب الظهور والدخول إلى جوقة النفاق، مستغنيا عن قيمته الأكاديمية ليكون مقدما لبرامج تافهة وخائبة، ينتظر من ضابط يوجه الإعلام أن يملي عليه الكلام. صدق أو لا تصدق، هذا هو الواقع.. يقوم أستاذ جامعي في علم السياسة ويقبل أن يكون مجرد سكرتارية لمستبد جاهل، فيقوم بخدمته وطوع بنانه، ويخلع على المستبد ألقاب الحكمة وأشكالا من الاحترام والتقديس، وهو لا يفعل إلا كل خبيث.
لو أردنا أن نعدد النماذج لرأينا صنوفا وأشكالا كلها ضد الساسة بمعانيها الحقيقية ووظائفها الجوهرية، وأدوارها التغييرية والنهضوية.. رضوا الدنو والدونية. هم ضد السياسة بستر عورات المستبد وسوءاته، يمررون كل أمر نعرفه باسمه في فصول السياسة فيقلبون الأسماء والمعاني، بل يدعمونه في إفكه وافترائه، بل هو محتقرهم حينما يحتقر السياسة التي يعملون بها. يقول المستبد الطاغي: "أنا مش سياسي.. بتاع كلام".. مؤسف حقا أن ينظر لهم المستبد هذا النظر المستخف، وهم يضفون عليه تقديسا بدلا من أن يستحق رجمهم. علماء السياسة فرطوا في السياسة وشوهوا معانيها، ومرروا "سياسة كأن" وسياسة الضد، فعملوا ضد السياسة وبرروا اغتصابها، وأكملوا عملية وأدها ودفنها. ظلموا علمهم وظلموا أنفسهم، وباتوا دكاترة للسلطان، تارة بانخراطهم، وتارة أخرى بنفاقهم، وتارة أخيرة بسكوتهم وصمتهم.