هروب عبدالمنعم عبدالرؤوف
كان مقر البوليس الحربي وقتها في محطة مصر - رمسيس حاليا - وكان فيه سجن، وفي اليوم الذي قمت فيه بتسليم نفسي لهم، لا تتصور كيف قامت الدنيا لذلك الأمر.. وحدثت ضوضاء كبيرة، ووجدت هناك كل الضباط من الإخوان في ذلك الوقت؛ معتقلين، ومنهم عبد المنعم عبد الرؤوف، وأبو المكارم عبد الحي، وعبد الكريم عطية. ثم أخذوني لوزارة الداخلية، وكانوا معي في غاية الأدب والاحترام، ثم ذهبوا بي إلى السجن الحربي، وكانوا أيضا في غاية الأدب والاحترام، وهناك وجدت الأستاذ الهضيبي والإخوة الكرام.
وكان الأستاذ الهضيبي خائفا جدا من أن يقوم بعض الإخوان من أعضاء المكتب خارج السجن بتصرفات غير مسؤولة، أو أن يقدموا تنازلات للحكومة، فقلت له: يا فضيلة المرشد، أنا أحب أن أطمئنك أن الجميع في غاية الرجولة والالتزام، ولم يقبل أي واحد منهم - وعلى رأسهم عبد القادر عودة - أن يتفاوض مع الحكومة في غيبتك، فارتح واطمأن. ولم يطل الوقت بنا في السجن الحربي فقط 20 أو 25 يوما، وخرجنا جميعا في شهر آذار/ مارس عدا ضباط الإخوان، وبعدها فوجئنا بهروب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف من المحاكمة العسكرية (وكان قائدا لكتيبة في الجيش بفلسطين في ذلك الوقت) وكان إنسانا فاضلا، وعانى كثيرا؛ إلا أنه استطاع الهرب منهم في الطريق إلى المحكمة، فأخذته وظل معي، واستأجرت له فيلا في الهرم، وبيتا آخر في شبرا، وبيتا في إمبابة، بالإضافة إلى بيتنا في العزبة. وظل يتنقل بين تلك الأماكن، وكان معنا المرحوم أحمد عيد من خيرة المعاونين لي؛ في خدمة عبد المنعم عبد الرؤوف عند الهرب، وظل يعيش معي حتى قبض عليّ في أواخر شهر تموز/ يوليو 1954. وعلمت بعد حادث المنشية في تشرين الأول/ أكتوبر 1954 أنه تمكن من الهرب، هو وأبو المكارم عبد الحي، إلى خارج مصر.
أخذت عبد المنعم عبد الرؤوف خلفي على الدراجة البخارية، وانطلقنا على طريق روض الفرج إلى كوبري أبو العلا، ودخلنا إلى حي الزمالك متجهين إلى كوبري الزمالك، ومنه اتجهنا إلى ميدان الجيزة، فشارع الهرم، حتى وصلنا أمام إحدى الفيلات.
كان الطريق من شارع الهرم إلى الفيلا من طرقات الدرجة الثالثة، كثير المنحنيات، مظلما، تكثر فيه الكلاب لكثرة ما به من أراضٍ زراعية، وفيلات جميلة متناثرة، لذلك كان صوت محرك الدراجة البخارية واهتزازها أثناء السير يختلط مع نباح الكلاب، فيحدث ضجة مزعجة. وعند وصولنا إلى الفيلا، استقبلتنا زوجة البواب وكلابها عند المدخل الحديدي، وصعدنا نحن الاثنين إلى سطح الفيلا.
وتتكون هذه الفيلا من طابق واحد أرضي وسطح فسيح بغرفة مع دورة مياه بملحقاتها. وجدت في هذه الغرفة ستة مخادع مريحة، والمطبخ معد بكافة ما يلزمه من أدوات.
كانت هذه الفيلا تتمتع بكثير من المميزات الصحية من شمس، وهواء عليل، وروائح زكية، ومناظر خلابة، ومميزات عسكرية، إذ تشرف على جميع التحركات على طريق الهرم، وتطل على جميع الدور المجاورة والأراضي المزروعة القريبة. ولها بابان، كل منهما متصل بطريق فرعي يؤدي إلى شارع الهرم، فكانت مناسبة لكل الاحتمالات.
هنداوي دوير
في وسط هذا الظلام المتلاطم، فكر بعض الإخوان في اتخاذ موقف ضد عبد الناصر جراء ما يقوم به ضد الإخوان. وحينما نما ذلك إلى علم المستشار حسن الهضيبي، خشي أن ينجر بعض الإخوان للعنف، فرفض ذلك، وعنّف من يحاول أن يحول دعوة الإخوان إلى دعوة عنف.
في هذه الأثناء اعتقلت في أول آب/ أغسطس عام 1954م، بعدما عاد المرشد العام من رحلته بالخارج، وحدث لي العجب العجاب في الفترة التي سبقت حادثة المنشية. في السجن، سمعت عن المنشية وما حدث فيها، وعلمت ببعض الأحاديث منها.
شخصيا، كنتُ أرى هنداوي دوير شخصا متحمسا، لكن حماسه في كثير من الأمور في الاتجاه الخطأ. فقد كان - مثلا - متحمسا لقتل عبد الناصر بسبب ما اقترفه ضد الأمة، وحينما عرض النظام الخاص عليّ ذلك ليرافقني في مهمة تهريب عبد المنعم عبد الرؤوف، رفضت بشدة، حتى إنني لم أتعامل معه بعد ذلك؛ لأنني خشيت أن يكون حاله كحال المتحمسين، فيستغل حماسه في عمل شيء يجر على الجماعة الضرر الكثير.
سوف أفتح المطار بالقوة
قام المرشد العام بجولة في السعودية وسوريا ولبنان في شهر تموز/ يوليو 1954م، وكانت الأزمة بيننا وبين مجلس قيادة الثورة قد استفحلت؛ بسبب اعتراض الإخوان على معاهدة الجلاء بهذه الصورة، حتى إن المرشد العام كتب نقدا لهذه المعاهدة، ونشرته صحيفة بيروتية فقال:
1- كان من المفترض أن ينتهي أجل معاهدة 1936 بعد أقل من عامين، وإذ ذاك.. كان على بريطانيا أن تجلو عن القاعدة، وأن تتركها دون أساس قانوني يمكنها من العودة إليها فيما بعد. أما المعاهدة الجديدة، فتمنحها هذا الحق؛ باشتمالها على مادة تسمح بإعادة تشغيل القاعدة في حالة حدوث أي اعتداء على أي دولة عربية أو على تركيا.
2- المادة التي تسمح بإعادة تنشيط القاعدة في حالة الاعتداء على تركيا؛ تربط مصر والدول العربية بتركيا، وبالتالي تربطهم جميعا بالمعسكر الغربي.
3- الفقرة التي تسمح لبريطانيا بصيانة القواعد الجوية تمثل تهديدا لمصر، وهي على المدى الطويل أداة لدوام السيطرة.
4- المدنيون الذين ستناط بهم المساعدة في تشغيل المعدات؛ هم بطبيعة الحال شخصيات عسكرية في ثياب مدنية.
5- جددت الاتفاقية أجل معاهدة 1936 لفترة خمس سنوات أخرى، وسمحت بإجراء تشاور لمراجعة الموقف عند انتهاء فترة العمل بها، وهي نفس النوع من البنود التي تكفل في الواقع الاستمرار الدائم لمعاهدة 1936.
وقد طالب المرشد العام بأن أي اتفاقية بين مصر وحكومة أجنبية ينبغي أن تعرض على برلمان منتخب بإرادة حرة، يمثل إرادة الشعب المصري، وعلى صحافة متحررة من الرقابة، وتملك حرية المناقشة.
جلس الإخوان يفكرون: هل يعود المستشار الهضيبي أم يبقى في الخارج؟ لكن الجميع اتفقوا على عودته، فعاد في 22 آب/ أغسطس من نفس العام. وفي أثناء ذلك، نما إلى علم الإخوان أن المرشد العام مستهدف بالاغتيال، وفكر الإخوان بالذهاب للمطار، لكن لعدم الرغبة في الصدام مع النظام، اتفق الإخوان على انتظار المرشد العام في المركز العام، وكلفوني بالتوجه إلى المطار لاستقبال المستشار الهضيبي. وحينما اتجهت لمطار ألماظة (بصحبة الدكتور محمد خميس حميدة)، وجدت المطار قد تحول إلى ثكنة عسكرية من كثرة ما فيه من القوات، ووجدت أعدادا كبيرة من إخوان الأقاليم الذين لم يصلهم ما تم الاتفاق عليه من قادة الإخوان، وكنت قد أعددت سيارة غير سيارة المرشد، واستقبلناه، وركب السيارة بجوار الدكتور خميس، وركبت أنا في الأمام، لكنني فوجئت بمن يقول إن عربية المرشد العام هي التي ستخرج فقط من المطار، فوقفت وقلت: عربية المرشد العام ستكون آخر سيارة تخرج من المطار. فجاء مدير أمن القاهرة، أحمد صالح، وأخبرته بأنه قد تبقت دقيقتان، وإن لم يخرج الجميع، فأنا سأفتح البوابة بالقوة، ففتحوا البوابة، وقلت لجموع الإخوان: "لا تتوقفوا لأي سبب". حتى وصلنا إلى المركز العام، ووجدنا الأعداد الغفيرة في انتظارنا، وكان هذا هو السبب الرئيسي في الحكم عليّ بالإعدام، وليس ما قمت به نحو عبد المنعم عبد الرؤوف.
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (14)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (13)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (14)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (12)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (11)