احترقت القاهرة
كانت الأحداث متلاحقة. فقد كنت
مشغولا بتجهيز بعض السلاح للمجاهدين، وإعداد دفعة أخرى للقيام بحرب عصابات ضد
الإنجليز، لكن فوجئت بإخوان بالإسماعيلية يخبرونني بما حدث في الإسماعيلية، بين
الإنجليز وقوات الشرطة، حينما رفضت تسليم أسلحتها، وإخلاء مبنى المحافظة للقوات
البريطانية. ودارت بينهم معركة، أسفرت على وقوع شهداء من الجانب المصري. وارتبك
المشهد، خاصة أنني في حاجة لتوصيل السلاح والمتفجرات للمجاهدين في الإسماعيلية.
واستعنت ببعض الإخوة الذين لهم معرفة جيدة بالطرق، ونقلنا الأسلحة، لكن كانت
تنتظرنا مفاجأة، حينما وصلنا القاهرة، حيث شاهدتها تحترق كلها، وظننت أن المحتل
قام بعمل عدائي. فالتقيت بقادة النظام الخاص الذين لم يكن لديهم معلومة عن أسباب
هذا الحريق، ولا من يقف خلفه.
كانت الأحكام العرفية مفروضة،
والحكومة تبحث عمن أحرق القاهرة، والمظاهرات تجوب شوارع القاهرة تطالب بمزيد من
قتال ضد الإنجليز، والملك فاروق يدعو إلى مائدته جمعا من ضباط الجيش.. أضرم
مجهولون النار في بعض أماكن القاهرة، فأثاروا ثائرة الجماهير التي اندفعت تخرب
وتسرق وتقتل.. وقبض على كثيرين، وأعلنت الأحكام العرفية، ثم أقيلت وزارة الرئيس
مصطفى النحاس، وتوقفت تقريبا عمليات القتال بقناة السويس، ومنع التجول في القاهرة
ليلا، ونزلت قوات من الجيش إلى الشوارع.
قضاة في قلب الحرب
في السابع والعشرين من كانون
الثاني/ يناير 1952، أعلنت حالة الطوارئ، وحظر التجول بالقاهرة بعد السادسة مساء.
وفي هذا اليوم، كان من المقرر نقل كمية ضخمة من الديناميت إلى منطقة القنال لبعض
العمليات، خاصة لنسف قطار بورسعيد- القنطرة. لم أجد أمامي إلا الاستعانة بأحد ضباط
الجيش، وكان بكباشي اسمه "الكاشف"، وآخر مستشار يدعى فتحي عوض، وأخذتهما
معي في سيارة الديناميت هذه؛ لأنه كان هناك حظر تجول، فإذا اعترضني أحد يقوم
الضابط والمستشار بتسيير الأمر.
وظللنا نجول مصر الجديدة بحثا عن
محطة بنزين لنملأ السيارة، فلم نجد محطة واحدة، حتى أتى علينا موعد حظر التجول،
فقال لنا المستشار فتحي عوض: أحد أقاربي يسكن قريبا من هنا، فذهبنا وتركنا السيارة،
وكان نوعها "فوكس هول" (سيارة إنجليزية عريقة)، وكانت ملك البكباشي (وكانت
مملوءة بالديناميت) وصعدنا إلى المنزل وقضينا الليلة عند قريب المستشار فتحي عوض.
وفي هذه الليلة، أقيلت وزارة مصطفى
النحاس، وأعلنت حالة الطوارئ، وكان الأمر خطيرا بالنسبة لنا أن نتحرك بسيارة
مملوءة بالديناميت، ولكننا قمنا في الصباح، وأدينا مهمتنا بالتمام، وتم إرسال
الديناميت للقنال تمهيدا لتنفيذ العملية.
وانتهت الحرب وبدأت الثورة
عندما جاء علي ماهر رئيسا للوزارة،
طلب منا أن نوقف العمليات في القناة، وكان في هذا الوقت ما زال أمامنا عملية قطار
بورسعيد والقنطرة، فقلت له: أنا لن أوقف العمليات. فقال لي: نأخذ حكما بيننا،
فوافقت، فقال لي: الأستاذ الهضيبي؟ فوافقت على ذلك، وظللت أعطِّل الأمر حتى تمت
العملية، وتم نسف القطار وقتل 400 جندي إنجليزي.
وبعدها، صدر الأمر لنا من الأستاذ
الهضيبي بأن نتوقف، فتوقفنا عن العمليات، باستثناء معسكر الإسكندرية الذي رفض
قائده الدكتور محب الدين محجري أن يمتثل لهذا الأمر، فقاطعناه، فتوقف رغما عنه؛
لأننا لم نعد نساعده. بعدها بستة أشهر تقريبا، قامت الثورة، فقمت بتسليم المعسكر
إلى الصاغ كمال الدين حسين، وكان مشرفا على الحرس الوطني في ذلك الوقت.
بعدما انتهت الحرب بحريق القاهرة،
وإقالة حكومة النحاس باشا في 26 كانون الثاني/ يناير 1952م، بدأت المشاورات بين
الإخوان والضباط الأحرار، وعقدت الاجتماعات الكثيرة بينهم، وبالفعل جاءتنا الأوامر
بمساعدة الضباط الأحرار في ثورتهم، وتأمين المنشآت، والتصدي للإنجليز إذا حاولوا
التحرك لإنقاذ الملك.
وكلفت بمجموعة لتأمين مداخل
القاهرة، والتصدي لأي تحرك قد يفسد فرحة الانتصار. ورأيت تحركات عربات الجيش في
الوقت الذي أخبرني به قادة النظام الخاص، ولم أر في المكان المكلف به أية تحركات
غير تحركات الجيش المصري.
نجحت الثورة، لكن نكث عبدالناصر بالوعود
التي وعدها للإخوان، بإطلاق الحريات وعودة الجيش إلى ثكناته، وإجراء انتخابات حرة.
هل كان عبد الناصر من الإخوان؟
لكن دعونا نعود للخلف بعض الشيء
ونتساءل: هل كان عبد الناصر في الإخوان المسلمين؟
من المؤكد، وما أعرفه، أن الصاغ
محمود لبيب كان مسؤولا من قبل الإخوان بمتابعة التنظيم الخاص في وحدات الجيش، وكان
يعاونه عبد المنعم عبدالرؤوف، وأبو المكارم عبد الحي، ثم انضم جمال عبد الناصر
وكمال الدين حسين، حيث استطاعا أن يجذبا عددا من أقرانهما في الجيش للالتحاق
بالنظام الخاص، مثل حسين الشافعي، وخالد محي الدين، وغيرهما، حيث أقسموا على
المصحف والمسدس. وقد تأكدت من ذلك من الصديق كمال الدين حسين؛ لأنني كنت في ذلك الوقت
مسؤولا لقسم الطلبة بجماعة الإخوان، وكان كمال الدين حسين مسؤولا عن التعليم، حيث
كانوا يجتمعون قبل الثورة في منزل حسني عبد الباقي، وكان اسمهم تنظيم وحدات الجيش،
قبل أن يغيروا الاسم، ويسموا أنفسهم الضباط الأحرار، خاصة بعدما حدثت مشكلة مع عبد
المنعم عبدالرؤوف، وتم فصله من التنظيم لرغبته في أن يظل التنظيم إسلاميا، لكنهم
رفضوا.
وما أعرفه عن اتفاقات تمت بين رجال
الثورة والإخوان؛ هو قسمهم على المصحف بأن يعيدوا الحريات، ويطبقوا شرع الله إذا
نجحت الثورة وتقلدوا مقاليد الحكم، وكان حاضرا في هذا الاجتماع؛ حسن العشماوي،
وفريد عبد الخالق، وحسني عبد الباقي، وقادة الإخوان، بالإضافة لرجال الثورة.
الإخوان ودورهم في الثورة
حرسنا الثورة عن طريق التصدي
لمحاولات الإنجليز إذا أرادوا مساندة الملك، ولذا وقفنا على طرق الإسماعيلية
والسويس نترقب أي تحرك للإنجليز، في حين كانت هناك مجموعات مسؤولة عن تأمين البلد،
وحماية المنشآت. لكن الإخوان المسلمون عموما هم من قاموا بهذه الحراسات، وليس
التنظيم الخاص فقط؛ لأنه كان قد انكشف أمره، وكذلك كان عدد أفراده قليلا، ولذا
كانت جموع الإخوان هي من نزلت لمساندة الثورة.
لكن لي رأي آخر: هذه الثورة لم يقم
بها رجال الجيش والإخوان فقط، بل الشعب بأكمله؛ لأنه رضي بها وحماها بعد ذلك. وما
كانت انقلابا بالمعنى المعروف، لكن تحرك الجيش بمعاونة الإخوان ورضي الشعب بطرد
الملك، وتقبل حكم العسكر الذي سانده الإسلاميون.
وكان الشعب يستشعر فساد الملك في
فترة حكمه الأخيرة، ولذا ضاق به ذرعا، وتمنى الخلاص منه.
رفضت مقابلة الملك
ومن الأمور التي حدثت معي شخصيا
أثناء تدريبي للفدائيين في الجامعة، أن اتصل بي يوسف رشاد يطلبني لمقابلة الملك،
فرفضت، خوفا من أن "يلبسني" تهمة؛ لأنني كنت طالبا، فكيف بطالب يذهب
لمقابلة الملك؟ وأخبرته أنه يوجد مرشد عام للإخوان، فإذا أراد مقابلة أحد، فليطلب
المرشد العام، وليس طالبا في الجامعة. وحدث هذا الأمر لحسن دوح قائد معسكرات جامعة
فؤاد أيضا، فرفض.
وبدأ الصدام
حاول كمال
الدين حسين أن يستغل طلاب الإخوان ضد الشيوعيين، لكنني رفضت. وكان الوسيط بين رجال
الجيش والإخوان هو الأستاذ عبد القادر عودة.
كنا نرى بين الحين والآخر، وفي كل
حفلة، ضابطا صغيرا يأتي باسم مندوب القيادة، فتكلمت مع عبد الناصر في هذا الشأن،
كما تكلمت معه حول غاية قطار الرحمة الذي انطلق بعدد كبير من الممثلات والممثلين
من القاهرة للصعيد يجمع الأموال، وقابلته وقلت: لماذا لا نفكر في سمو الهدف
والتنفيذ.. هل سنجمع المال بهذه الطريقة التي تخالف الشرع؟
وطلب مني توفيق عابد، مسؤول تدريب
الطلاب في الجامعة، أن أنضم إليهم في هيئة التحرير وتربية الشباب، فرفضت، وقلت له:
أنا مسؤول أكبر قسم في جماعة الإخوان، فهل أتخلى عنه، وأذهب لهيئة التحرير؟
بدأت العلاقة تسوء بيننا وبين جمال
عبد الناصر، حتى أننا صدمنا فيه؛ لأنه تربى وسطنا، وكان واحدا منا، لكنه نكص على
عقبيه فيما وعد وفيما قاله، وبدأ الخلاف يدب وسط الإخوان.
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (10)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (9)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (10)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (9)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (6)