كانت السنوات الأخيرة من حياة حسن البنا حافلة بمراجعاته ومراجعات من حوله لأداء الجماعة على جميع المستويات، وفي عام 1948م بدأت مجموعة من شباب
الإخوان توجه انتقادات وتقابل البنا في ذلك، وتشرح له ما تلاحظه من أخطاء تودي إلى تأخر مشروع الجماعة، وكان أول من تقدم بهذا
النقد المرحوم الأستاذ محمد أحمد أبو شقة، مؤلف كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) في ستة أجزاء، وقد كان أبو شقة في التنظيم الخاص، وفي أسرة واحدة مع مرشد الإخوان الراحل الأستاذ مصطفى مشهور، ولاحظ أبو شقة أن عضو التنظيم الخاص يعزل تماما عن كيان الجماعة العام، فمهمته تتطلب منه ألا يكون معروفا، وألا يظهر في لقاءات الإخوان العامة، والتي من أهمها: حديث الثلاثاء، الذي كان يلقى أسبوعيا في المركز العام للإخوان، وفيه زاد ثقافي مهم لهم.
ومعنى ذلك أن الرافد الثقافي والديني لديهم صار قليلا، مع التدريب على السلاح واستخدامه، فيترتب على ذلك خطورة، إذ يصبح تنظيما عسكريا كأي تنظيم آخر غير إسلامي، وقد يؤدي إلى انحراف البعض في التصرف، إذا لم ينل قسطا مهما من الثقافة الشرعية، تجعله يحسن التصرف، ولا يخالف الشرع، فذهب أبو شقة بنقده لحسن البنا، وأقره تماما على ملاحظاته.
ونتج عن ذلك تكوين لجنة رسمية في الإخوان بأمر من حسن البنا، سميت: (لجنة المشروع)، تكونت من عدد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ممن لهم اهتمام بالفكر، ولهم القدرة على النقد المنهجي، وكان من أعضائها: أ. محمد عبد الحليم أبو شقة، ود. جمال الدين عطية، ود. عبد العظيم الديب، ود.محمد فتحي عثمان، وغيرهم. وقد رأيت بعض الأفكار التي دونها أبو شقة رحمه الله في نقد الإخوان المسلمين، أيام البنا، وبعده، وللأسف لم تنشر، وليت أبناءه يعجلون بنشرها، فالرجل صاحب قلم وفكر وعطاء كبير، وقد لمس مواطن مهمة للخلل في جماعة الإخوان، من حيث التنظيم والفكرة والأداء.
وعملت لجنة المشروع على نقد مشروع الجماعة على عدة مستويات، سواء على مستوى الأفكار، أو مستوى المشاريع التي تقوم بها، فلاحظوا ما لاحظه أبو شقة في التنظيم الخاص، وهو نفس ما لاحظه عبد العزيز كامل، فجلب للتنظيم الخاص بعض المحاضرين الكبار ليشبع عندهم هذا الجانب، فطلب من الشيخ محمود شاكر إلقاء محاضرات عليهم في مخيمات في منطقة المقطم، وحدث صدام بينه وبين أفراد التنظيم الخاص فصد عنهم وصدوا عنه، في قصة شهيرة ذكرها الأستاذ عبد العزيز كامل في مذكراته ( في نهر الحياة).
وبدأ حسن البنا يعوض ذلك بإرسال عدد من أفراد الجماعة إلى صالونات المفكرين والمثقفين في
مصر لينهلوا من ثقافتهم، ويستفيدوا منهم، وقد لقيت أحد من أرسله البنا لصالون العقاد، بغرض التزود من ثقافته الفكرية والأدبية، ويرسل آخرين إلى مجالس العلم الشرعي عند العلامة الراحل الشيخ أحمد شاكر، وأخيه محمود شاكر، والجمعية الشرعية.
وعلى مستوى المجال الفكري، لاحظت (لجنة المشروع) قلة إنتاج الإخوان الفكري، وأن إنتاجهم على قلته ليس عميقا بالعمق الكافي لشرح الفكر الإسلامي، في ظل وجود تيارات فكرية أخرى تنازعه، فاتجهت أنظار اللجنة صوب المفكرين الإسلاميين في مصر وخارجها، وبدأت تنشر بعض الكتب والرسائل باسم (لجنة الشباب المسلم)، وبدأت بنشر بعض رسائل وكتب الأستاذ أبي الأعلى المودودي، وأبي الحسن الندوي، ونشروا كتابا مهما جدا في السيرة النبوية وهو (الرسالة المحمدية) للعلامة الهندي سلمان الندوي، وهو من أهم كتب السيرة في العصر الحديث، فهو لا يتعرض لأحداث السيرة بل دراستها من حيث مصادرها، ومميزاتها، في ثمان محاضرات.
تركز عمل لجنة المشروع بعد ذلك في نقد الجانب الفكري لمشروع جماعة الإخوان، وتصويبه وتسديده، ومعالجته، تارة بالرسائل، والكتابات المهمة، وأحيانا بتبني نشر كتابات في هذا المجال، وقد كان هذا المجال مدخلا لدخول سيد قطب الإخوان وتعرفه عليهم، وتعاونه معهم، فقد نشروا له كتابه (معركة الإسلام والرأسمالية)، وعاونوه في إصدار مجلة أخرى. ونتج عن ذلك بروز علماء ومفكرين عن هذه اللجنة، صاروا جميعهم أعلام كبار في تخصصهم، وقد قاموا بدورهم على أحسن ما يكون، وتوقف دورهم فيما بعد لأسباب نذكرها إن شاء الله عند حديثنا عن: لماذا يغيب النقد عن جماعة الإخوان المسلمين، ومتى؟
(رجاء): هذه المقالات سوف تجمع إن شاء الله في كتاب، فمن لديه تعقيب أو تصويب للمعلومات الواردة فيها فليتفضل مشكورا.
[email protected]