تواجه مطبعة سامي الخانجي مشكلة العثور على الورق. فنقص
الدولار والقيود المفروضة على الاستيراد يفرزان شح المعروض. الأسعار ترتفع، والأرباح تنخفض، وضبابية مصير العملة
المصرية تخيم على خطط الاستثمار.
وقال الخانجي وهو يحتسي القهوة بمكتب في مصنعه بغرب القاهرة: "يريدون خفض الواردات، لكن في البلد مصنعي ورق فقط والجودة رديئة.
"نشتري الورق المستورد من التجار. يعانون لتدبير الدولار، ويرفعون السعر من أسبوع لآخر... لتثبيت السعر الآن يحتاجون إلى الدولار، لكن من معه دولارات؟"
ولا يماري أحد بمجتمع الأعمال في مصر في أهمية مسعى الحفاظ على الدولارات الشحيحة عن طريق تقليص
العجز التجاري، لكن كثيرين يقولون إن عددا من السياسات التي أعلنت في الأشهر الأخيرة فرضت على نحو متعجل، وقد تقوض النمو
الاقتصادي الذي تحتاجه مصر لتوفير فرص العمل لسكانها الذين تتزايد أعدادهم.
وتعاني مصر من نقص في العملة الصعبة منذ انتفاضة 2011، التي أطاحت بحكم حسني مبارك، وأعقبتها سنوات من القلاقل التي أدت إلى عزوف المستثمرين الأجانب والسياح مصدري النقد الأجنبي الضروري لتمويل شتى وارداتها من القمح إلى السلع الاستهلاكية.
وتراجعت الاحتياطيات الأجنبية أكثر من النصف منذ 2011 إلى 16.53 مليار دولار في شباط/ فبراير، بما لا يغطي واردات أكثر من ثلاثة أشهر.
وفي ظل التراجع الحاد للاحتياطيات وانهيار الأسواق الناشئة العام الماضي، خفضت مصر قيمة الجنيه نحو عشرة بالمئة، لكنها رفعت قيمة العملة بعد ذلك بمقدار 20 قرشا إلى 7.73 جنيه للدولار في تشرين الثاني/ نوفمبر، وهو السعر الذي حافظت عليه منذ ذلك الحين.
وبغية القضاء على السوق السوداء التي انتعشت في أجواء عدم التيقن، فرض البنك المركزي قيودا على حركة النقد الأجنبي، ما امتص السيولة الدولارية من السوق، وزاد صعوبة فتح خطابات الائتمان وتخليص الواردات التي تكدست في الموانئ.
ولاحتواء الطلب على النقد الأجنبي الذي يقول إنه يضيع على سلع غير ضرورية، يريد البنك خفض الواردات بمقدار الربع هذا العام.
وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة فحسب، فرضت مصر قواعد تلزم المستوردين بتسجيل مصانع المنشأ وتقديم وثائق استيراد من البنوك الأجنبية ودفع ودائع نقدية بكامل القيمة في خطابات الائتمان. وتقرر رفع الرسوم الجمركية على أكثر من 500 سلعة تعدّ كمالية، مثل التفاح ومزيل رائحة العرق.
لكن المصنعين والمستوردين -على حد سواء- يقولون إن القاعدة الصناعية لمصر عاجزة عن تلبية الطلب الاستهلاكي في سوق حجمها 90 مليون نسمة. ويقولون إن السياسة الجديدة ستؤدي في أحسن الأحوال إلى الحد من الاختيار والمنافسة، وفي أسوأ الأحوال إلى نقص السلع وتضخم الأسعار وإجبار الشركات الصغيرة على التوقف.
وقال تيموثي قلدس من معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط: "كانت سياسة إحلال الواردات رائجة خلال فترة القضاء على الاستعمار... إنها واحدة من تلك السياسات التي تبدو جيدة من الناحية النظرية، لكنها غير ناجحة.
"أشياء كثيرة يجري استيرادها؛ لأنه لا يوجد بديل، ولكن أيضا لأنها أرخص من البدائل المحلية. هناك واردات كثيرة يعتمد عليها الفقراء. حتى لو كان من الممكن نظريا أن يعوض الإنتاج المحلي النقص، فإن الأمر سيستغرق وقتا، وقد نرى في غضون ذلك تراجعا حادا في التوظيف."
لا مكونات للمصنعين
يقول المصنعون إن رعاية الصناعات والصادرات غاية أمانيهم، لكن القيود المفروضة على الصرف الأجنبي أداة فظة تضر بالقاعدة الصناعية في ظل معاناة الشركات الكبيرة والصغيرة لتدبير الدولار من أجل استيراد المواد الخام.
عندما فرضت القيود قبل عام تقريبا، سمح للشركات بإيداع ما لا يزيد على 50 ألف دولار شهريا في البنك لفتح خطابات الائتمان، مع إعطاء الأولوية للسلع الغذائية الأساسية والدواء والوقود والمواد الخام. وفي كانون الثاني/ يناير تقرر رفع الحد الأقصى إلى 250 ألف دولار للمنتجات الضرورية فقط.
يقول المصنعون إن تعريف الضروري ضيق، فهو لا يشمل القهوة على سبيل المثال، بينما يكافحون لإقناع البنوك بإعطاء الأولوية لبعض المكونات.
وعطلت المشكلة الإنتاج ببعض الشركات، لاسيما في قطاع السيارات.
فقد أوقفت جي.بي أوتو أكبر شركة مصرية لتجميع السيارات مدرجة، ويعمل بها عشرة آلاف شخص الإنتاج 20 يوما خلال العام الماضي؛ بسبب تأخر تخليص بعض المكونات المستوردة.
وقالت منة الله صادق، مديرة الاستثمار في جي.بي أوتو: "تريد الحكومة وقف واردات السلع غير الضرورية التي يمكن تعويضها محليا، لكننا أحد المنتجين المحليين.. المكون المحلي 50 بالمئة في السيارات التي نقوم بتجميعها."
كانت جنرال موتورز أوقفت الإنتاج لأسبوع الشهر الماضي لأسباب مماثلة، ما دفع البنك المركزي إلى السماح للمصدرين بما يصل إلى مليون دولار شهريا إذا أودعوا مبلغا مماثلا بالعملة الصعبة في غضون ثلاثة أشهر.
وتقول الشركات متعددة الجنسيات العاملة في مصر إنها ما زالت ملتزمة بالعمل في البلد وتتطلع إلى الأجل الطويل. فمصر أكبر أسواق المنطقة في وقت تعاني فيه دول شتى من ليبيا إلى العراق من القلاقل.
وسعى البنك المركزي إلى تعزيز السيولة الأجنبية عن طريق عدة عمليات استثنائية في الأشهر الأخيرة، لكن الضغوط سرعان ما كانت تتصاعد من جديد.
وفي مقابلة تلفزيونية الشهر الماضي، لم يبد طارق عامر محافظ البنك المركزي تعاطفا يذكر مع كبار مصنعي السيارات الذين قال إنهم يحققون أرباحا ضخمة في مصر حتى إنهم تجاهلوا لسنوات التصدير وكسب العملة الصعبة.
ضربة قوية للشركات الصغيرة
أقسى ما يكون الألم على صغار رجال الأعمال، مثل وليد رياض الذي يعمل في استيراد وإعادة بيع أجهزة الطباعة المستعملة، لكنه توقف منذ شهرين؛ بسبب عدم قدرته على استيفاء قواعد الاستيراد الجديدة أو تدبير العملة الصعبة.
وقال: "حظروا عمليا تلك المنتجات"، ملوحا بقائمة لسلع من العصائر إلى مستحضرات التجميل تسري عليها القواعد الجديدة.
وتبدو شركة الخانجي متوسطة الحجم قادرة على تدبر أمرها؛ لأنها تصدر أكثر من نصف إنتاجها. لكن الخانجي لا يقدر على سحب أكثر من 30 ألف دولار يوميا يقوم بتحويلها في السوق السوداء لدفع أجور عامليه البالغ عددهم 320 شخصا، والباقي يمول به مزيدا من الواردات.
العقود مع العملاء المصريين مقومة بالجنيه، لكن العملة انخفضت أكثر من عشرة بالمئة في السوق السوداء في الشهر الأخير فحسب، ما ينال من هوامش أرباحه.
تلك هي المشاكل التي تواجهها شركات عائلية كثيرة.
وتستورد انترفود البن والتوابل. تراجعت وارداتها من البن إلى حوالي 2500 طن العام الماضي من أكثر من أربعة آلاف طن قبل ذلك بسبب
الأزمة.
وقال باسم حسين مدير المبيعات: "في يوم تجد قرارا بخصوص الدولار ثم بخصوص شيء آخر، وفي يوم آخر عن الواردات. لا يوجد استقرار. التخليص الجمركي كان يستغرق خمسة أو ستة أيام. الآن يستغرق 15 أو 20 يوما.
"رفعنا أسعارنا بين 15 و30 بالمئة؛ بسبب مخاطر سعر الصرف زائد تكاليف الاستيراد. إجراءات البنوك تستغرق من عشرة أيام إلى 15 يوما. هذا جنون."