قامت الدنيا ولم تقعد في
مصر على وزير العدل المستقيل محفوظ صابر عندما عبر عن واقع الحال وقال إن ابن عامل جمع القمامة لا يمكن أن يصبح قاضيا، معتبرا أن القاضي لا بد أن يكون منحدرا من وسط مناسب لهذا العمل.
وتعرض الوزير لحملة هائلة قادتها مواقع التواصل الاجتماعي وعكسها الأعلام، فاضطر على إثرها للاستقالة في تصرف لم يعتد عليه المصريون ولذلك هلل له الكثيرون واعتبروه من مظاهر التغيير.
المثير أن بيان مجلس الوزراء اعتبر أن صابر قدم استقالته احتراما للرأي العام، مؤكدا أن ما صدر عنه هو مجرد زلّة لسان، وهو ما لم يرق للوزير على مايبدو حيث أكد في تصريحات صحفية تمسكه بتصريحاته مؤكدا أن هذا رأيه الشخصي، قبل أن يضيف أن ما عبر عنه هو أمر واقع في
القضاء والشرطة والجيش.
ما قاله الوزير هو لبّ المشكلة، فالواقع هو عين ما قال حتى لو كان مستهجنا أو مثيرا للاشمئزاز، وبالتالي فاستقالة الوزير أو إقالته ليست هي مربط الفرس ومصدر السعادة كما بدا للبعض بل المشكلة الحقيقية في واقع يبدو مستعصيا على التغيير حتى الآن.
ورغم أن العدالة الاجتماعية كانت في قلب أهداف ثورة يناير 2011، إلا أن كل الأنظمة التي توالت على حكم مصر منذ ذلك الحين لم تفلح في تحقيق أي اختراق في هذا الواقع الذي يجعل الوظائف المرموقة غالبا بعيدة عن منال عامة المصريين وبسطائهم، بل وحتى أبناء الطبقة الوسطى منهم.
والمؤلم أن يكون مرفق القضاء المسؤول عن تطبيق العدل، في مقدمة المؤسسات التي تعتمد التمييز في اختيار منتسبيها، وهو أمر يعرفه المصريون من قديم، وإن بدأ الحديث عنه يأخذ صفة العلانية ويجد طريقه إلى وسائل الإعلام في الأعوام القليلة الأخيرة.
ولم يكن وزير العدل المستقيل أول من جاهر بهذه التصريحات فقد سبقته شخصية قضائية بارزة هي رئيس نادي القضاة أحمد الزند الذي دافع علنا عن منح الأولوية لأبناء القضاة للتعيين في السلك القضائي حتى لو كانوا ممن حصلوا بالكاد على الشهادة الجامعية في الحقوق عبر تقدير مقبول الذي يمنح لمن يحصل على 50% فقط من الدرجات أو أكثر قليلاً.
الزند اعتمد صراحة رآها البعض أقرب إلى البجاحة عندما اعتبر أن ابن القاضي حتى لو حصل على تقدير مقبول افضل من غيره ولو حصل على تقدير ممتاز، بدعوى أن الأول يمتاز بأنه "تربى في بيئة قضائية"، ولم يكتف بالدفاع عن هذا المنطق بل اعتبر أن من يهاجم تعيين أبناء القضاء هم الحاقدون والكارهون وأن هذا التعيين سيستمر ولن توجد في مصر قوة "تستطيع أن توقف هذا الزحف المقدس إلى قضائها".
ما يحدث في القضاء يتكرر بشكل أو آخر لدى القبول في كلية الشرطة أو الكليات العسكرية، والوزير المستقيل نفسه اعترف بالأمر ومع ذلك ظلت المشكلة لدى الكثيرين قاصرة على تصريحات الرجل وليس الواقع المرير الذي عبرت عنه التصريحات.
هذا الواقع لا يخفى على أي مصري، بل ولا على من زارها من غير أهلها، حيث أصبحت مصطلحات مثل "الواسطة" و"المحسوبية" ملء السمع والبصر، تدعمها آلة من السلوكيات والعادات المستقرة بل وحتى الأمثال الشعبية التبريرية من قبيل "الميّه ما تطلعش في العالي" و"اللي له ظهر ما ينضربش على بطنه".
فمتى يكون للمصري البسيط ظهر يحميه، ومتى يقتنع هو نفسه بأن من حقه أن يكون كالآخرين من علية القوم.