لم تكن أم وسام مجبرة على العمل، وذلك قبل أن تشهد محافظة صلاح الدين التي تقطن بها عمليات عسكرية، لكن ظروف
النزوح المزرية حولت هذه
المرأة الخمسينية من العمر إلى معيلة لستة أطفال تجاهد في الليل مع النهار من أجل توفير لهم أبسط مقومات الحياة.
وتروي أم وسام حكايتها، ولا تخفي ألما وحزنا عميقا نال منها بعدما تخلى عنها الأقارب والأصدقاء، لتجد نفسها أمام وضع جديد، لم تختره عن رضىا وقناعة، بل ساقها إليه القدر وانعدام سبل العيش.
تقول أم وسام لـ"عربي 21": "بعد تدهور الوضع الأمني في مدينة سامراء توجهت إلى العاصمة بغداد، وهنا بدأت معاناتي، حيث لم يستقبلني أحد، فجلست أياما على قارعة الطرق محتارة أين أذهب، وكيف أطعم أطفالي، وهنا بدأت بالبحث عن عمل بلا كلل أو تعب، فقد سرت على أقدامي أياما طويلة أنتقل من مكان إلى آخر ومن دائرة لأخرى باحثة عن أي فرصة أجدها تكون بارقة أمل تشعرني بالاستقرار المالي، وبعد جهد جهيد وجدت عملا في إحدى الدوائر الرسمية، وهو عاملة نظافة بأجر يومي لا يتجاوز 20 دولارا أي مايعادل أقل 24 الف دينار عراقي، هذا المبلغ الذي لا يكفي أجور نقل المواصلات.
تضيف وهي تذرف الدموع: "ما زاد من وضعي قتامة وتعقيدا هو أنني أسكن في إحدى المدارس الحكومية بالعاصمة، ومهددة بالخروج منها في أي لحظة، بعد أن تركت منزلي في مدينة سامراء هربا من القصف وقذائف الهاون، وذلك بعد أن قتل زوجي قبل خمس سنوات على يد فرق الموت".
وتتابع: "فرق الموت اختطفت زوجي من منطقة التاجي شمال بغداد إبان الاقتتال الطائفي الذي شهده
العراق عامي 2006 و2007، وبعد شهور وجدت جثته في الطب العدلي، وأنا الآن مجبرة على العمل لأواجه مصيرا أرهقني لسنوات".
أم وسام ليست المرأة الوحيدة التي تكابد قساوة الحياة بسبب النزوح وغياب المعيل نتيجة الاغتيال أو الاعتقال أو عدم قدرته على العمل، فإن آلاف
النساء العراقيات كافحن معها لتلبية الحاجات اليومية لأسرهن، من خلال القيام بأدوار صعبة يتعرضن فيها للاستغلال والاضطهاد، ما ولّد لديهن شعورا بالسخط انعكس على حالتهن النفسية.
أما إسراء خليل، الشابة الثلاثينية النازحة من محافظة ديالى، فكانت أكثر حظا من أم وسام، حيث تقول: "عجزت أن أجد عملا يناسب عمري ووضعي كوني أنثى لا أتحمل ما يحتمله الرجال، ففكرت بمشروع لتأمين لقمة العيش لي ولإخوتي، فتبرع أحد الأشخاص بأموال مكتني من فتح بسطة متواضعة لبيع الخضار على قارعة الطريق".
وتضيف والابتسامة على وجهها، إنه "بالرغم من الصعوبات التي أواجهها في العمل، إلا أنه جعلني لا أحتاج أحدا، ووفر لي أيضا دفع إيجار منزلي الشهري وأشياء أخرى ما كنت أستيطع شراءها، والأهم أنه ساعدني على جلب دواء والدتي المصابة بمرض الشلل منذ عامين تقريبا".
لكن المفاجأة في قصة إسراء أنها حاصلة على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة ديالي قبل عام، إلا أن الواسطة والمحسوبية في المحافظة والعراق ككل لم تمكنها من الحصول على تعيين.
من جانبه يقول الناشط في حقوق الإنسان علي القيسي إن النزوح المتواصل قسرا، وفقدان المرأة العراقية المعيل، كان له تأثير اقتصادي ونفسي قاس على أغلب النساء العراقيات، وما فاقم من معاناتهن أكثر هو اضطرارهن للعمل بأعمال شاقة دون ضمانات أمان وسلامة وصحة وحفظ حقوقهن.
وأضاف أن هذا ما جعل بعضهن سلعة رخصية من قبل ضعاف النفوس، ومع شديد الأسف في الآونة الأخيرة اعتاد العالم أن يرى المرأة العراقية وهي تحمل أطفالها مع الحقائب، مثقلة بالهموم، متنقلة من محافظة إلى أخرى، وتسكن الصحاري والعراء، وتعاني شظف العيش، وأشار إلى أن ثلاثة ملايين امرأة عراقية تحولن إلى معيلات، خصوصا بعد عام 2005، بحسب إحصاءات منظمات حقوقية نسوية محلية ودولية، بسبب حملات الاعتقال التي كانت تنفذها الأجهزة الأمنية بحق الرجال، إضافة إلى سلسلة التفجيرات وعمليات الاغتيال، ما جعل الكثير منهن مسؤولات عن يتامى بعد فقدان الزوج عن الأطفال، يضاف إلى ذلك عمليات النزوح التي تعيشها وتلحق بها آلاما نفسية وجسدية.
ولم يعد غريبا في بغداد أن تلتقي صدفة بنساء من الموصل والأنبار وديالى أو حتى صلاح الدين، وهن يناشدنك بغيرة العراقي أن تجد لهن عملا، حيث يقلن لك أنهن لا يملكن الطعام الكافي لأطفالهن أو المال لدفع الإيجار الشهري.
ففي أحد أسواق بغداد القديمة، لا تبالي أم محمود وهي تفترش الأرض وسط جموع المتبضعين، وهي تنادي بأعلى صوتها لجذب أنظارهم لشراء ما تبيعه من أكياس خبز جاهزة، وتقول: "وجدت نفسي مضطرة إلى العمل لبيع أكياس الخبر التي أصعنها بنفسي، ولم أجد خيارا أو عملا آخر لكسب رزقي".
وتتابع: "منذ نزوحنا من مدينة تكريت أصبحنا نعاني من أزمة مالية جعلتني أترك العمل في المنزل والنزول للعمل في هذا السوق منذ ثلاثة أشهر، وما زلت مستمرة حتى الآن، لأن زوجي لم يعد قادرا على تلبية كل ما نحتاجه".