حين
كنت طالبا في جامعة القاهرة، زار العاصمة
المصرية صحفي فرنسي وأجرى لقاءات صحفية
مع عدد من طلاب الجامعة وكنت واحدا من هؤلاء؛ حول الأنشطة الجامعية والأوضاع
العامة في البلاد. وبعد انتهاء المقابلة سألته عما إذا كان سيعود لفرنسا بعد
انتهاء رحلته أم سيزور دولا أخرى؟ فقال إنه سيذهب إلى إسرائيل. فطلبت منه أن
يعطيني رأيه من دون مجاملات في مسألة القضية الفلسطينية وكيف نشأ وتربى حول هذه
القضية. فقال: بصراحة نحن نشأنا أن فلسطين ومعظم دول الشرق الأوسط هم أناس فلاحون
غير متحضرين، تحاول إسرائيل أن تعلمهم الحضارة والتقدم ولديهم ممانعة شديدة في
ذلك.
هذا
المنطق الذي لخصه الصحفي الفرنسي هو ذاته مضمون مرافعة إبراهيم الهلباوي، ممثل
النيابة عام 1906، في محاكمة ظالمة أقيمت في قرية
دنشواي التابعة لمركز الشهداء
بمحافظة المنوفية والتي حوكم فيها مصريون وأعدموا وسُجنوا على يد
الاحتلال
الإنجليزي. إذ ركز في مرافعته على أفضال الاحتلال الإنجليزي على البلاد والعباد، وهو
ذات المنطق الذي يستخدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابة للغرب
تبريرا لوحشيته في
غزة، زاعما دفاعه عن الحضارة والتقدم.
غرور المحتل وغطرسته لم تتغير منذ 1906 وحتى عام 2024، وكذلك النظرة الدونية للآخر الواقع تحت الاحتلال، كما لم تتغير فكرة العدالة الانتقائية والصورية لتبرير الجرائم وخير دليل عليها موقف إسرائيل من محكمة الجنايات الدولية، وكذا التبريرات ذات المسوح الوطنية لجريمة الاحتلال الإنجليزي التي جسّدها قاضي المحكمة بطرس باشا غالي وممثل النيابة إبراهيم الهلباوي
نموذج
المشانق الذي يقع في ساحة متحف قرية دنشواي الآن على الأرض ذاتها التي شهدت هذه
الحادثة الشهيرة يذكر بالإرث الاستعماري الثقيل عام 1906 للاستعمار البريطاني؛
الذي نفذ مذبحة وحشية بمحاكمة صورية لفلاحين أبرياء وصل صداها لأروقة الإمبراطورية
البريطانية وكانت كفيلة بإقالة المعتمد البريطاني آنذاك اللورد كرومر. وهو نموذج
صغير جدا لما يحدث في غزة حاليا بعد أكثر من مائة عام، وإن لم تتغير الأدوات
والقواسم المشتركة.
دنشواي
كانت ولا تزال قرية صغيرة وسط الدلتا أوائل القرن الماضي، في وقت لم تكن هناك
وسائل إعلام بالشكل الذي نعرفه اليوم. ولكن وحشية الاحتلال الإنجليزي وغطرسته جعلت
من القرية وقتئذ أيقونة ومثالا استفز الضمير العالمي وخاصة في بريطانيا، وهي إمبراطورية
مترامية الأطراف، كما حفز الكتّاب والمفكرين الإنجليز على التنديد بها. ولم تكن
هناك جاليات عربية ومسلمة في الغرب تشارك في فضح وحشية الاحتلال، غير أن جهود
شخصيات وطنية شابة مثل الزعيم مصطفى كامل كانت ذات تأثير كبير، حيث سافر وكان يكتب
في الصحف ويقيم الندوات يعرض فيها لتفاصيل وحشية الاستعمار في التعامل مع أبناء
القرية.
إن
غرور المحتل وغطرسته لم تتغير منذ 1906 وحتى عام 2024، وكذلك النظرة الدونية للآخر
الواقع تحت الاحتلال، كما لم تتغير فكرة العدالة الانتقائية والصورية لتبرير
الجرائم وخير دليل عليها موقف إسرائيل من محكمة الجنايات الدولية، وكذا التبريرات
ذات المسوح الوطنية لجريمة الاحتلال الإنجليزي
منطق الأمور كان يفيد بأن ما يحدث في بقعة صغيرة في العالم يبقى داخل هذه البقعة، ناهيك عن أن تكون هذه البقعة قرية صغيرة وسط الدلتا بعيدة عن وسائل الإعلام أو في قطاع محاصر منذ سبعة عشر عاما وسط تواطؤ إقليمي وتآمر دولي، غير أن الوحشية كانت كفيلة بأن تعبر بها الحدود لتوقظ الضمير العالمي
التي جسّدها قاضي المحكمة بطرس باشا غالي وممثل
النيابة إبراهيم الهلباوي؛ اللذين كانا أدوات الاستعمار في تنفيذ المذبحة.
منطق
الأمور كان يفيد بأن ما يحدث في بقعة صغيرة في العالم يبقى داخل هذه البقعة، ناهيك
عن أن تكون هذه البقعة قرية صغيرة وسط الدلتا بعيدة عن وسائل الإعلام أو في قطاع
محاصر منذ سبعة عشر عاما وسط تواطؤ إقليمي وتآمر دولي، غير أن الوحشية كانت كفيلة
بأن تعبر بها الحدود لتوقظ الضمير العالمي.
الفارق
الأبرز بين دنشواي 1906 وغزة 2024 أن حاكم مصر المحتلة آنذاك كان الخديوي عباس
حلمي الثاني، الشخصية الوطنية التي لم يمنعها الاحتلال الذي ورثه من التصدي
للمستعمر ودعم التيارات الوطنية والتحالف مع السلطان عبد الحميد الثاني ضد الإنجليز،
حتى دفع ذلك ثمنا غاليا وهو خلع الإنجليز له عام 1914 وهو خارج البلاد، وظل في
منفاه حتى توفي في سويسرا عام 1944.
x.com/HanyBeshr