كتب

رحلة حوارية في عوالم جعيط الشخصية والفكرية.. قراءة في كتاب

 يضم هذا الكتاب (الحوار) فصلا كاملا يركز فيه المحاور على" ثلاثية السيرة النبوية" الذي يعتبره جعيط أهم كتبه، وهدف فيه، بحسب ما يقول، إلى تأمل فكرة كيف "تكوّن دين حول شخص (الرسول صلى الله عليه وسلم)..
يضم هذا الكتاب (الحوار) فصلا كاملا يركز فيه المحاور على" ثلاثية السيرة النبوية" الذي يعتبره جعيط أهم كتبه، وهدف فيه، بحسب ما يقول، إلى تأمل فكرة كيف "تكوّن دين حول شخص (الرسول صلى الله عليه وسلم)..
الكتاب: هشام جعيط، حوار في الفكر والتاريخ والسيرة
المؤلف: كارم يحيى
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


هذا الكتاب هو حصيلة حوار أجراه الصحافي والباحث المصري كارم محمود مع المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط، على مدى ثلاثة أشهر في العام 2018، قبل ثلاث سنوات على وفاته بعد تجاوزه الثمانين من عمره. وهو يلخص رحلة غنية في جوانبها الإنسانية والفكرية، وجديرة بالتأمل، وزّعها كارم محمود على ثلاثة محاور؛ يعرض الأول للأفكار والمواقف العامة التي يحملها جعيط بعد رحلته البحثية والفكرية الطويلة، ويستكشف الثاني سيرته الذاتية ومصادر تكوينه الاجتماعي والثقافي، بينما يركز المحور الثالث على منتجه الفكري الأبرز المتمثل في ثلاثة كتب هي " الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي"، و"أوروبا والإسلام"، و"أزمة الثقافة الإسلامية"، وصولا إلى ثلاثيته في" السيرة النبوية".

في تقديمه للكتاب يلفت خالد زيادة، أستاذ التاريخ الاجتماعي، إلى أن الانتشار الذي عرفته مؤلفات المثقفين المغاربة لدى قرائهم في المشرق يعود إلى المنهجيات والمرجعيات التي ميزتها، وإلى الأسئلة الإشكالية التي طرحتها، ما دفع هؤلاء المثقفين أمثال جعيط، ومحمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، إلى الكتابة بالعربية مباشرة بعد أن كانوا يكتبون بالفرنسية ثم تتم ترجمة أعمالهم.

ورغم أن جعيط كان الأقل غزارة في الإنتاج مقارنة بآخرين، فقد حافظ على وتيرة متمهلة، وكان أقل استجابة لما يطلبه القراء، بل وأقل اتباعا للموجات الثقافية الرائجة من حيث أسلوبه في معالجة الموضوعات التي يختارها، بحسب زيادة.

رحلة إلى التاريخ

بعد تخرجه من المدرسة "الصادقية" في تونس، وهي مدرسة تتبع نظاما حديثا في التدريس على عكس "الزيتونة"، انتقل جعيط إلى فرنسا لمتابعة تحصيله الدراسي، وكان لا يزال بعد في الثامنة عشرة من عمره. وقد "تأرجح" بين اختيار دراسة الفلسفة التي يحبها ودراسة التاريخ، وكان أن اختار الأخير لأنه يبعده عن "إشكالات علاقة الدين بالفلسفة". يقول:" أنا من عائلة متدينة ـ (والده شيخ زيتوني، وعمه كان مفتيا للجمهورية) ـ وكنت في شبابي متدينا.. ولمّا قرأت في مجال الفلسفة شعرت باغتراب".

في الماجستير والدكتوراة ركز جعيط على التاريخ الإسلامي، وأولى اهتماما خاصا بالفترة الأولى منه، لأنه يرى أن ما كتب عنها لم يكن كافيا، واستخدم، بحسب ما يقول، كل المصادر المتاحة، عربية وغير عربية. ورغم أن المستشرقين يعتبرون أن ما يخص الإسلام الأول (عهد الخلفاء وأوائل الفترة الأموية) لا يمكن كتابته تاريخيا لأن مصادره متأخرة، نظر جعيط إلى هذه المسألة بطريقة مختلفة، ووجد أنه يمكن "نقد التواريخ القديمة، واستخلاص المعنى المعقول منها." ويقول إنه لو تم الالتزام بما يريده المستشرقون حتى اليوم من تزامن المصادر مع التاريخ الذي تكتب عنه" لما أمكن أن يكتب كثير من المؤرخين الغربيين أنفسهم عن التاريخ الروماني. مثلا مصدر كتيتوس ليفوس هو أساسي في الكتابة عن الرومان.. وقد عاش في فترة الإمبراطورية قبل المسيح بقليل وكتب عن القرون الثلاثة السابقة على المسيح.. وفي التاريخيين العربي والإفريقي يلعب النقل الشفوي من جيل إلى آخر دورا كبيرا بالنسبة للعصور الأولى".

المثقف النقدي

يسأله كارم يحيى عن سبب كتابته لمعظم أعماله في التاريخ والفكر بالفرنسية فيجيب جعيط أنه فعل ذلك بتأثير من وجوده في باريس، لافتا إلى أن كتبه الفكرية الأولى “تهم القارئ الفرنسي كالعربي، وهي أيضا تهم المغاربة ونخبتهم التي ظلت تفضل القراءة بالفرنسية على العربية حتى الثمانينيات". لكنه يضيف:" حتى وأنا أكتب باللغة الفرنسية كنت متجاوزا للقارئ الفرنسي، وكلما كتبت بالفرنسية حرصت على ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية". علما أن كل كتب جعيط المترجمة إلى العربية نشرت في المشرق العربي وليس في تونس، وهو ما يبرره جعيط بالقول:" تونس كانت مغلقة، وأنا أعرف إذا نشرت كتابا هنا في تونس لن يخرج منها. جمهوري هو القراء العرب، وحتى المسلمون المتحدثون بالعربية.. الكتاب التونسي ظل وإلى ما بعد الثورة التونسية لا يتجاوز حدود البلد".

الانتشار الذي عرفته مؤلفات المثقفين المغاربة لدى قرائهم في المشرق يعود إلى المنهجيات والمرجعيات التي ميزتها، وإلى الأسئلة الإشكالية التي طرحتها، ما دفع هؤلاء المثقفين أمثال جعيط، ومحمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، إلى الكتابة بالعربية مباشرة بعد أن كانوا يكتبون بالفرنسية ثم تتم ترجمة أعمالهم.
ويعود يحيى ليسأله عن نظرته لعلاقة المثقف المبدع والسلطة وتحديدا في تونس، فيقول إن الجمهورية التي أقامها الزعماء التونسيون تشكلت بالأساس من أشخاص مثقفين، وليس من العسكر كما كان الحال في العديد من الدول العربية، وهم نعم متأثرين بالثقافة الفرنسية، لكنهم لم يكونوا متفرنسين، فمعظمهم من خريجي المدرسة "الصادقية" ولديهم معرفة جيدة بالثقافة العربية. ويضيف:" لكن يبقى مفهوم المثقف المبدع المفكر شيئا آخر.. هذا الرجل الذي يتجاوز اختصاصه العلمي ويفكر في واقع بلاده سياسيا واجتماعيا.. الأغلبية من المثقفين التونسيين كانوا من المتخصصين فقط، انصاعوا للحاكم ودخلوا إلى الحزب، وأغلبهم لم يقوموا بأعمال المفكرين، ليسوا من طراز المثقف النقدي". لكن جعيط يستدرك على ذلك ويقول أن شعب تونس اليوم لم يعد هو نفسه شعب الستينيات، وهناك الكثير من المثقفين النقديين.

في سياق الحديث عن الإشكالات التي أفرزتها الثورات العربية، لا سيما تلك الانقسامات التي أثيرت حول الهوية، يرى جعيط أنه "لم يقع بحث في تونس ومصر عن أسس الهوية الوطنية بشكل جدي أو برؤية للدولة/الوطن/ الأمة، كما حدث في أوروبا القرن التاسع عشر." وبالنسبة لتونس فإن الشعب منقسم أصلا، بحسب جعيط، قسم "تأورب بفعل الاستعمار والسياسة البورقيبية وما بعدها" والآخر تمثله الفئات الشعبية التي تأثرت ب"الدعاية الإسلامية" منذ عقد الثمانينيات. ويرى أن الفكرة الرائجة بيننا كانت أننا شعوب مسلمة قبل كل شيء، "ولذا كانت الفكرة الوطنية بعد الاستعمار والاستقلالات موجهة ضد الآخر المستعمر الأوروبي. أي كان تعريف الوطنية بالضد وبالمحتوى السلبي، وليس الإيجابي".

مراجعة ذاتية

في الحوار حول ثلاثية جعيط الفكرية، التي صدر كتابان منها في سبعينيات القرن الماضي والثالث في مطلع العام 2000، يسأل كارم يحيى عما يستحق المراجعة فيها "اليوم"، فيقول جعيط إن ما تجب مراجعته اليوم، لا سيما في كتابه الأول "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي"، هو اعتقاده السابق بأن "المشرق والمغرب فوق الدولة والوطن والشعور بالانتماء للوطن الضيق"، فقد ساد عنده الشعور بأن العالم العربي "كله شخصية جامعة" عربية وإسلامية. لكن ما يراه الآن هو أن الفكرة القومية تراجعت، "كما أن الإسلام الشعبي أخذ اتجاهات أخرى".

ويرى جعيط أن كتابه الأول في هذه الثلاثية يتسم بشيء من عدم النضج والتشتت، فقد تضمن، بحسب ما يقول، اهتمامات عديدة بدون وحدة أساسية، لكنه مع ذلك، وبشكل إيجابي، كان متجاوزا للتخصص (التاريخ الإسلامي).

في هذا الكتاب يدعو جعيط إلى "تخليص المجتمع من سيطرة الدين أو المحتوى المؤسساتي الإسلامي المرتبط بعصر معين" وإلى "علمانية غير معادية للإسلام". ويوضح جعيط ذلك بإن ما يقصده هو "علمانية توافقية.. فلا يمكن للمجتمع العربي إلا أن يتبع التيار العقلاني في العالم، ويأخذ بالأفكار الحديثة على أصعدة مؤسسات الدولة والتشريعات". وأما أنها علمانية غير معادية للإسلام فهو يرى أن الشعوب العربية ستظل متشبثة بالدين، وهذا "لأن الإسلام ضروري لتماسك هذه المجتمعات. ولأن القيم الدينية مترسخة في تاريخنا...فتماسك المجتمع عندنا مرتكز على هذا الإرث الديني والحضاري". ولا يمكن تغيير ذلك بين عشية وضحاها. لكنه يرى مع ذلك أن ثمة ضعف واضح في الإيمان مقارنة بما كان عليه في الماضي، تسبب به التوظيف السياسي "غير المعقلن" للدين، الذي أدى إلى ابتعاد الدين عن جوهره. ويعتقد جعيط أن على الدولة أن ترعى الدين، لأنه "بدون مراقبتها للمؤسسات الدينية سنسير إلى التعصب والعنف" لكن ليس لها أن تتدخل فيه، بمعنى أنه لا ينبغي لها أن تشرع تشريعات مخالفة للدين.

يرفض جعيط أن يوضع في خانة من يقولون بفساد الاستشراق والمستشرقين، بالكلية، ومناوأتهم للإسلام.
أما حول كتابه "أوروبا والإسلام" الذي صدر في طبعته العربية مضافا إليه عنوان فرعي "صراع الثقافة والحداثة" فيرى جعيط أن الكتاب في واقع الأمر هو "كتاب عن أوروبا، وعما سمي حوار الثقافات، ويلعب فيه الإسلام دورا صغيرا". ورغم أن الكتاب فيه الكثير عن نقد الاستشراق والمركزية الأوروبية، يرفض جعيط أن يوضع في خانة من يقولون بفساد الاستشراق والمستشرقين، بالكلية، ومناوأتهم للإسلام. وقد صدر كتابه هذا في العام نفسه الذي صدر فيه كتاب" الاستشراق" لإدوارد سعيد، ما دفع كارم يحيى لسؤاله عن تقييمه لكتاب الأخير، حيث أشاد بثقافة سعيد الواسعة، لكنه أشار إلى أن نظرته العامة للكتاب نظرة سلبية.

وقال إن "سعيد لا يعرف الإسلام كدين وحضارة، ولا يعرف الكتابات الاستشراقية الحقيقية، أو عرفها معرفة سطحية.. وهو يورد مقتطفات وفقرات بخصوص برنارد لويس ويستنتج استنتاجات لا معنى لها." مضيفا أن " العرب صفقوا للكتاب لأنه مكتوب من أميركي لا أكثر ولا أقل". وأن ما قاله سعيد عن وجود جزء كبير من المستشرقين عندهم نظرة استعمارية تحقيرية "يدخل في النظرة الأوروبية العامة للعلم والمعرفة... هو نسي أن علماء أوروبا أرادوا من بداية القرن العشرين إعادة استكشاف حضارة الإسلام بالمعرفة العلمية. تماما مثلما فعلوا مع حضارات الصين والهند، وهذا مجهود كبير لأوروبا. مجهود علمي. يجب ألا ننسى هذا".

إلى ذلك يضم هذا الكتاب (الحوار) فصلا كاملا يركز فيه المحاور على" ثلاثية السيرة النبوية" الذي يعتبره جعيط أهم كتبه، وهدف فيه، بحسب ما يقول، إلى تأمل فكرة كيف "تكوّن دين حول شخص (الرسول صلى الله عليه وسلم)، وكيف سيصبح هذا الدين عالميا؟". كما ضم الكتاب نقاشا لمجموعة من المقالات المنشورة لجعيط في ستينيات القرن العشرين.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل