مع بدء العملية العسكرية الإسرائيلية على
قطاع
غزة، نشطت الاستشرافات الاستراتيجية التي تحاول أن تقترب من محددات
الاستراتيجية الإسرائيلية وأهم الأهداف التي تروم تحقيقها، ووقع التركيز في
المراحل الأولى على المعلن في خطاب الجيش الإسرائيلي، وكذا في تصريحات المستوى
السياسي (الحكومة الإسرائيلية)، أي هدف تقويض بنية حماس التنظيمية وضرب قدراتها
العسكرية واسترجاع الأسرى والرهائن، وإنهاء حكم حماس وسلطتها على قطاع غزة.
لكن مع الانعطافة الخطيرة لجيش
الاحتلال
لاستهداف المدنيين، بما في ذلك النازحين منهم، وضرب المؤسسات الاستشفائية والخدمية
والتعليمية ودور العبادة، فضلا عن الاستهداف المقصود لكل البنيات الأساسية التي
يتوقف عليها عيش المواطن
الفلسطيني في القطاع، بدأ الحديث عن سياسة إسرائيلية
ممنهجة تستهدف احتلال قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين منه، وتوسيع سياسة الاستيطان
فيه.
الوقائع على الأرض، كما الخطاب الإسرائيلي، يشير بأن وعود الشرق الأوسط الجديد، والصورة الخضراء التي نشرها رئيس الوزراء الإسرائيلي في خطابه بالجمعية العامة للأمم المتحدة، تقف دونها المقاومة على الأرض، التي استطاعت أن تكشف نيات العدو التوسعية، وتقنع الدول العربي، بضرورة التفكير في مشروع عربي إسلامي إنساني واسع، يمانع هذا المشروع، ويعرقل تنفيذه.
الخلافات التي تفجرت بين الإدارة الأمريكية
ورئيس الوزراء الإسرائيلي حول أهداف العملية العسكرية في غزة، وسياسة إسرائيل
الإبادية والتهجيرية للمدنيين، أظهرت أن هناك فقرا استراتيجيا لدى القيادة
الإسرائيلية، وأنها - وعلى مدى شهور- لم تكن تمتلك أي جواب أو مجرد تقدير موقف لما
يسمى إسرائيليا بـ"اليوم التالي"، وتواتر في انتقادات المعارضة السياسية
الإسرائيلية فضلا عن كثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية لاسيما بعد الفشل في تحقيق
أهداف
الحرب وإعادة الأسرى والمخطوفين، تلخيص الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية في مجرد
مصالح سياسية شخصية لرئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأنه لا يملك أي أجندة واضحة المعالم، يمكن أن
يتقاسمها بين مكونات الطيف السياسي، أو أن يقنع من خلالها المستوى العسكري بجدوى
العملية العسكرية.
الخروج من المأزق بالنسبة لرئيس الوزراء
الإسرائيلي، بعد بروز مؤشرات الانقسام داخل الجبهة الإسرائيلية الداخلية على مستوى
أهداف العملية العسكرية في غزة، كان هو التوجه إلى الجبهة اللبنانية، إذ كان من
الواضح، أن بنك الأهداف الذي وفرته الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية (تفجير
اللاسكلي واغتيال قادة حزب الله وأمينه العام)، من شأنه ليس فقط تهدئة الجبهة
الداخلية، ولكن أيضا رفع مستويات تماسكها وتأييدها للعملية العسكرية في الجبهة
الشمالية، ورفع أسهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
لكن، بعد تحقيق الانتصارات التكتيكية على
حزب الله من خلال تفجير أجهزة اللاسلكي واغتيال قادة حزب الله، وأمينه العام، فضلا
عن بعض قيادته العسكرية، ودخول إسرائيل في حرب من سبع جبهات، أعيد من جديد طرح
سؤال الاستراتيجية، وهل تتجه تل أبيب في كل ساحات المواجهة التي فتحتها وفق رؤية
استراتيجية، أم أنها تساير سياسة تنفيذ ما وفرته الأجهزة الاستخباراتية من بنك
أهداف، دون النظر إلى المسارات التي يمكن أن تترتب عن سياسة الاغتيالات من جهة،
وسياسة فتح الجبهات المتعددة من جهة أخرى؟
من القضاء على حماس إلى القضاء على أذرع
محور الشر
ليس ثمة أدنى شك أن الدمار الذي خلفته
إسرائيل بقطاع غزة هائل، ولا يمكن بحال أن يتغافل عنه عند الحديث عن حصيلة المعركة
العسكرية في غزة والتي تجاوزت السنة، والمؤكد أن التقييم الموضوعي لمآلات الوضع،
لا ينبغي أن تقتصر على الحديث عن فشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه العسكرية، وذلك
لسبب بسيط، أنه ليس ثمة مؤشرات قطعية تكشف بأن المعلن عنه هو ما كان يشكل بالفعل
كل خطوط الاستراتيجية الإسرائيلية، فإسرائيل، إلى جانب سعيها لتقويض قدرات حماس
وتفكيك بنيتها التنظيمية والإفراج عن أسراها والمحتجزين من مستوطنيها لدى فصائل
المقاومة، لا يمكن أن تنفك عن ثوابت
عقيدتها العسكرية في الأمن القومي، أي خلق مناطق عازلة، تمكنها من تقليص مستوى
الاستهداف او تحييده، فإذا كانت قد فشلت في مختلف أهدافها العسكرية في حماس، وفشلت
في أن تجد سندا دوليا لرؤيتها لما بعد حماس، ولقيت معارضة شديدة لسياسة التهجير،
فإنها ـ وعلى الرغم من إعلان منطقة غزة ساحة حرب ثانوية ـ لا تزال تعمل على قطع
شمال غزة عن جنوبها، ومن ثمة محاولة تشكيل منطقة عازلة بها.
المؤشرات الميدانية، لا تعطي أي صورة واضحة
عن إمكان نجاح هذه العملية، فالمقاومة الفلسطينية تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر
كبيرة، وبوتيرة متزايدة وأكثر حدة، والحاجيات التي تفرضها الجبهة الشمالية، تضعف
الجبهة في غزة، ولا تساعد بالمطلق على تحقيق هذا الهدف.
أما على مستوى الجبهة الشمالية، فثمة جدل
كبير حول دواعي فتح هذه الجبهة، وهل كانت مدرجة ضمن نسق تراتبي في الرؤية
الاستراتيجية الإسرائيلية، أم كان ذلك فقط استجابة للضغط الذي يشكله النازحون من
مستوطني المناطق الحدودية مع لبنان؟ أم أن توفر بنك معلومات لدى الأجهزة
الاستخباراتية الإسرائيلية وحاجة نتنياهو إلى رص الجبهة الداخلية ورفع أسهمه هو ما
أملى تحويل البوصلة لاتجاه هذه الجبهة، مع إدراك الجيش الإسرائيلي أن التحديات
والتهديدات التي سيواجهها ستكون أكبر بكثير مما كان عليه الأمر في ساحة غزة؟
بعض المحللين الإسرائيليين، يرون أن تحول
الجيش الإسرائيلي إلى جبهة لبنان أملاه سببان، الأول، أن بنك الأهداف في غزة قد
فرغ، ولم يعد هناك من جدوى للاستمرار في جعل هذه الساحة رئيسية بعد أن انتهت
المراحل الثلاث، وتم إعادة نشر قوات الجيش في بعض المناطق لثلاث مرات، دون التمكن
من القضاء على قدرات المقاومة العسكرية، والثاني، أن إصرار الأمين العام لحزب الله
لرفض فك مسار غزة عن مسار لبنان، والضغط الذي شكله النازحون على رئيس الوزراء
الإسرائيلي، مع توفر بنك معلومات نوعي، فرض على نتنياهو أن يفتح هذه الجبهة
ليستفيد من عائداتها التكتيكية في إنهاء الانقسام الداخلي، ورفع مستويات تماسك
الجبهة الداخلية، وفي الآن ذاته الرفع من أسهمه الانتخابية.
خطاب نتنياهو في الجمعية العامة للأمم
المتحدة يقول شيئا آخر، فهو يحاول الإقناع بوجود رؤية استراتيجية إسرائيلية شاملة،
لا تقدم الجواب فقط عن كيفية التعامل مع تهديدات حماس أو تهديدات حزب الله، ولكنها
تقدم تصورا لشرق أوسط جديد، تشكل فيه إسرائيل منطقة المركز، إلى جانب الدول
العربية المطبعة معها.
الصورة الخضراء التي كشف عنها نتنياهو في
كلمته، وفي مقابلها الصورة السوداء، أظهرت أن الاستراتيجية الإسرائيلية، تمتد
لتغطي مساحة جغرافية جد واسعة، فالأمر يتعلق بمحو فلسطين كلها من الخارطة، والقضاء
بالكلية على محاور المقاومة التابعة لإيران، وبناء تحالف في المنطقة تقوده
إسرائيل، وتؤثثه الدول المطبعة (مصر والأردن والإمارات والبحرين..) أو التي في طور
التطبيع (السعودية).
بعض المحللين ممن تابعوا خطاب رئيس الوزراء
الإسرائيلي، بدؤوا يراجعون أوراقهم، ويتحدثون عن مسارات متتابعة بشكل متدرج في
الاستراتيجية الإسرائيلية، بدءا من غزة، ثم لبنان، تتلوها سوريا، ثم العراق، إلى
أن يصل الأمر إلى قاعدة محاور المقاومة
ومركزها وحديقتها الخلفية، أي إيران.
لكن، في الجوهر، لا شيء يبعث على الاعتقاد
بوجود استراتيجية إسرائيلية، تملك مفاتيح إعادة صياغة الشرق الأوسط، فمثل هذا
الاعتقاد يتطلب أولا تقييم حصيلة الأهداف في قطاع غزة، ومدى القدرة على تحقيق
الأهداف في لبنان، قبل المرور إلى الجبهات الأخرى، هذا دون أن نأخذ بالاعتبار
تداعيات الضربة العسكرية الإيرانية للعمق الإسرائيلي، وإمكان تغييرها لهذه
التراتبية بالكامل، فتل أبيب التي قررت أن ترد على إيران ردا واسعا، وأخبرت
الولايات المتحدة بذلك، ونالت على ما يبدو موافقة على ذلك، ستدخل في حالة الرد إلى حرب إقليمية شاملة، لن
تترك لها فرصة ترتيب الجبهات، والمرور إلى التالية بعد الانتهاء من السابقة، فالرد
الإسرائيلي على إيران، لا أحد يمكن أن يتصور تداعياته بما في ذلك
الولايات المتحدة الأمريكية التي تتحسس مصالحها وقواتها وقواعدها العسكرية في
المنطقة.
ولذلك، لا شيء يعزز الاعتقاد بوجود
استراتيجية إسرائيلية، ولا بوجود قدرة على صياغة الشرق الأوسط، ولا حتى لعب دور
مركزي في صناعة تحالف في المنطقة إلى جانب الدول العربية، فتل أبيب، كما تظهر ذلك
سياستها، تسير بتقديرات سياسية وأمنية آنية، وتجيب عن كل تهديد بآخر، دون أن تضرب
حسابا للآتي، لسبب بسيط، وهي أنها تقوم بالمتعين عليها القيام به لحماية أمنها
القومي، وتترك الباقي على واشنطن، من خلال مناوراتها الدبلوماسية والسياسية، وقوة
ردعها العسكري.
الوقائع السابقة تثبت ذلك، ففي اللحظة التي
اغتالت فيه إسرائيل إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس بطهران، أطلقت واشنطن
مبادرة وقف إطلاق النار بغزة، في محاولة لإقناع طهران عبر الوسطاء أن ردها على تل أبيب سيجهز على مبادرة وقف الحرب، ثم تبين لاحقا أن واشنطن لم تكن تريد
أكثر من تجميد الضربة الإيرانية على تل أبيب، وفي اللحظة التي تم فيها توجيه ضربات
لحزب الله عبر تفجير جهاز اللاسلكي واغتيال قيادات في نخبة الرضوان العسكرية
التابعة لحزب الله، أطلقت واشنطن وباريس مقترحا لوقف إطلاق نار مؤقت بلبنان لمدة
ثلاثة أسابيع قبله حزب الله، ثم تبين أن واشنطن كانت لا تفعل أكثر من إطفاء الحرائق التي أشعلتها إسرائيل، لكن
اغتيال الجيش الإسرائيلي للأمين العام لحزب الله، ضيق الفرصة على واشنطن ووضعها في
الحرج، فقررت سحب مقترحها.
برهان هذا التقييم، أن إسرائيل ردت على كل
محاور المقاومة، في اليمن، وسوريا، والعراق، وفتحت جبهة لبنان، وقررت الرد على
إيران، مع أنها تواجه تهديدات كبيرة على مستوى الجبهة اللبنانية، فتل أبيب في هذه
المرحلة، غير معنية بالمطلق بالتفكير في المآلات والمخاطر، فهذا الأمر متروك إلى
واشنطن، أما ما يشغلها بدرجة أولى وأساسية، فهي معاركها الرئيسة (الآن لبنان، بعد
أن عرفت غزة بكونها ساحة حرب ثانوية) والرد على كل تهديد يأتيها من محاور
المقاومة، مهما كانت العواقب.
جر إيران إلى فخ المواجهة
السياسيون في إيران وحزب الله، منذ وقت جد
مبكر، كانوا ينتجون خطابا يتحدث عن استراتيجية تل أبيب في جر إيران إلى فخ المواجهة،
وقد كان الجواب الإيرانيين هو : سياسة
"الصبر الاستراتيجي" لتفويت الفرصة على تل أبيب لجر إيران إلى المواجهة ضمن حرب إقليمية شاملة، كما
كان الجواب من حزب الله هو تسقيف المواجهة ضمن أطروحة :"توازن الردع"
وقد انعكست هذه الاستراتيجية حتى على المستوى العملياتي، فكان حزب الله يضع
مقابلات بين المدن، فضرب بيروت يقابلها ضرب تل أبيب، وضرب الضاحية، يقابلها على ما
يبدو ضرب حيفا، وضرب الحدود الجنوبية للبنان، يقابلها ضرب الحدود الشمالية لفلسطين
المحتلة، وضرب المدنيين، يقابل بضرب المستوطنين.
التحليل الاستراتيجي الذي رافق هذا
الاستشراف، أن إسرائيل تعبت من مواجهة محاور إيران في المنطقة، وأن معادلة استنزاف
هذه المحاور سيضعف من قوة إيران ويعولها في المنطقة، انتهت لصالح معادلة أخرى، هي
مواجهة إيران بشكل مباشر، على اعتبار أن توجيه ضربة قوية لها وإضعافها، سينهي
قدرتها على تمويل هذه المحاور، وسيجعل بالإمكان بتحالف مع خصوم إيران في المنطقة،
لاسيما دول الخليج والأردن ومصر، من صياغة منطقة شرق أوسط تنخفض فيها التهديدات ضد
إسرائيل بشكل كبير.
الرد الإيراني على تل أبيب أبان عن محدودية
هذا التحليل الاستراتيجي، وكشف بأن الإدارة ألأمريكية نفسها، غير متحمسة لضرب
إيران، وتتخوف بشكل جدي من تداعيات القرار الإسرائيلي، فالضربة الإسرائيلية على
إيران، لا تعني فقط رد فعل إيراني ثان، وإنما تعني وضع كل المصالح الأمريكية في
المنطقة في دائرة الخطر، ليس فقط العسكرية، ولكن أيضا الاقتصادية، وما يخص
بالتحديد مصادر الطاقة.
لا ندري على وجه التحديد ما دوافع
الإيرانيين إلى التزام سياسة الصبر الاستراتيجي لمدة طويلة، وهل الأمر يتعلق
بإزاحة سيناريو وضع إيران في محور المواجهة، أم أن استراتيجية طهران، كانت تتجه
لتأمين ديمومة اشتغال محاورها والإفادة من العائدات دون الدخول في مواجهة مباشرة،
لكن مؤكد اليوم، أنها وبعد أن أعادت النظر في عقيدها الردعية اتجاه إسرائيل، أضحت تعتبر أن دخولها إلى المواجهة أو التهديد
بذلك، صار يشكل ضرورة وجودية لأمنها
القومي، وفي المقابل، بين أن أطروحة جر إيران إلى فخ المواجهة، كانت مجرد
سردية، تم إنتاجها لتجنب المجهول، أو
تأمين اشتغال استراتيجية تفعيل عمل المحاور، لإبقاء إيران بعيدا عن المواجهة، وفي
الآن ذاته الإفادة من عائدات هذه المحاور في تحصين الأمن القومي وتحسين التموقع التفاوضي أيضا.
الشرق الأوسط الجديد وصراع الإرادات
مقولة صياغة الشرق الأوسط أو شرق أوسط جديد،
كما يفيد استقراء الخطابات السياسية والاستراتيجية الإسرائيلية، هو خطاب قديم،
ساهم رئيس الوزراء الأسبق شيمون بيريز في صياغة بعض مفرداته، وبلورت الإدارة
الأمريكية العديد من المبادرات لتنزيله، ومنها مبادرة صفقة القرن التي تعثرت على
صخرة عملية طوفان الأقصى، ولم يظهر على الأرض أي مؤشر يظهر تغير واقع الخارطة، بل
على العكس من ذلك، فمنذ انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة، ثم من جنوب
لبنان، تقوت قدرات المقاومة، وأضحت بعد حرب تموز 2006 وعملية طوفان الأقصى في
السابع من أكتوبر 2023 تشكل تهديدا جديا لأمن إسرائيل.
الظاهر اليوم بعد أكثر من سنة من الحرب على غزة، ثم أكثر من أسبوعين على انطلاق الحرب البرية على لبنان، ألا شيء تغير في معادلة الشرق الأوسط، وأن إسرائيل لا تزال تواجه حرب استنزاف طويلة، لم تقو فيها على استئصال المقاومة، ولا إجبارها على قبول صفقة تبادل بشروط إسرائيلية.
تحاول إسرائيل عقب أي اغتيال لإحدى قيادات
المقاومة أن تعيد إنتاج نفس الخطاب المتعلق بالشرق الأوسط الجديد الذي تلعب فيه
الدولة العبرية دورا مركزيا، وتختفي فيه محاور المقاومة (محور الشر حسب التعبير
الإسرائيلي)، لكنها تفاجأ على المستوى الميداني، بعدم القدرة على تحقيق حتى
الأهداف العسكرية القريبة التي كانت دائما ما تبشر بقدرتها على تحقيقها.
الظاهر اليوم بعد أكثر من سنة من الحرب على
غزة، ثم أكثر من أسبوعين على انطلاق الحرب البرية على لبنان، ألا شيء تغير في
معادلة الشرق الأوسط، وأن إسرائيل لا تزال تواجه حرب استنزاف طويلة، لم تقو فيها
على استئصال المقاومة، ولا إجبارها على قبول صفقة تبادل بشروط إسرائيلية.
الوقائع على الأرض، كما الخطاب الإسرائيلي،
يشير بأن وعود الشرق الأوسط الجديد، والصورة الخضراء التي نشرها رئيس الوزراء
الإسرائيلي في خطابه بالجمعية العامة للأمم المتحدة، تقف دونها المقاومة على
الأرض، التي استطاعت أن تكشف نيات العدو التوسعية، وتقنع الدول العربي، بضرورة
التفكير في مشروع عربي إسلامي إنساني واسع، يمانع هذا المشروع، ويعرقل تنفيذه.
قبل السابع من أكتوبٍر، استطاع الكيان
الصهيوني بدعم أمريكي أن يتوسع في مسار التطبيع، وأن يخلق الانطباع بأن هذا المسار
"الواعد" لن يتوقف، وأن محاور المقاومة ستجد نفسها معزولة في مواجهة
إسرائيل والناتو العربي الذي يدعمها في المنطقة، لكن بعد سنة على السابع من
أكتوبر، أضحت مصر والأردن مقتنعتين بضرورة وجود واستمرار المقاومة، وأن ذلك يعتبر
شرطا وجوديا في منظومة أمنهما القومي، وخرجت السعودية ترفض التطبيع، وترفض أي حديث
عنه ما لم يتم إقرار حل الدولتين وإقامة دولة فلسطين، بل أضحت تركيا البعيدة، عن
رقعة الصراع بالشرق ألأوسط، تعتقد أنها داخلة في دائرة التهديد الإسرائيلي، إذ ظهر ذلك في خطاب رئيس الدولة، وجلسة
البرلمان السرية بهذا الخصوص. والمثير في الموضوع، أن هذه الدول جميعها العربية
والإسلامية، أضحت معنية بتأسيس تحالف واسع يصد إسرائيل عن تحقيق نياتها التوسعية
في المنطقة.
في المحصلة، وأخذا بعين الاعتبار أن معركة
صراع الإرادات لا تزال مستمرة، وأن أحدا إلى الآن لم يحسم المعركة لصالحه، فإن
إسرائيل اليوم، لم تحقق أهدافها على الواجهة الميدانية، وخسرت كثيرا في ميزان
العلاقات الدولية، إذ أضحت معزولة كليا، وذلك حتى من بعض دول أوربا، إذ أضحت
الولايات المتحدة الأمريكية وحدها تحمل عبئ دعم هذا الكيان والتغطية على جرائمه،
وإيجاد المخارج له كلما ورطته سياسته التوسعية الحمقاء.
وهكذا يفيد هذا المشهد غير المكتمل بوجود
مسافة كبيرة تتباعد يوما عن يوم عن "بشائر الشرق الأوسط الجديد" بدور
إسرائيلي مركزي، وتقترب في المقابل صورة تهديد وجودي لدولة إسرائيل، يقر أغلب
المراقبين والمحللين بمؤشراته المتكاثرة.