سياسة عربية

أسير محرر يروي شهادته عن جرائم الاحتلال بحق الأسرى قبل وبعد 7 أكتوبر

الاحتلال صعد انتهاكاته بحق الأسرى الفلسطينيين بعد 7 أكتوبر- الأناضول
الاحتلال صعد انتهاكاته بحق الأسرى الفلسطينيين بعد 7 أكتوبر- الأناضول
نشرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي تعمل على توثيق جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني بما في ذلك شهادات الأسرى في السجون الإسرائيلية، حلقة جديدة حول تجربة الأسير المحرر ياسر مناع خلال سجنه لفترة انقسمت ما بين قبل وبعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

وجاءت رواية الأسير الفلسطيني المحرر الذي اعتقل من بيته في أيار/ مايو عام 2023 وأفرج عنه في نيسان/ أبريل الماضي، ضمن عدة حلقات حملت عنوان "إذا لم تسجن بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فلا تظن نفسك أنك سُجنت قط".

وقال مناع في شهادته "عندما طُلب مني كتابة تجربتي في سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، شعرت كما لو أنهم يطلبون مني أن أفتح جرحا لم يلتئم بعد، وأن أنتزع كل حرف بألم. لكن كتابة هذه التجربة كانت ضرورية؛ كشهادة على معاناة الضحايا داخل ظلمات السجون الإسرائيلية، وهي نافذة سريعة تطل على عالم العذابات التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون، وخصوصا بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وشاهد على تعذيبهم المرئي والمخفي داخل الزنازين".

وتاليا نص الحلقة الرابعة من تجربة الأسير المحرر ياسر مناع داخل سجون الاحتلال:

العزل عن العالم الخارجي
في ظل هذه الأوضاع القاسية، تصبح الطريقة التي يقضي بها الأسرى وقتهم أمرا شخصيا يختلف من فرد إلى آخر، ولا يوجد جواب محدد عن كيفية قضائهم للوقت، حيث يتفاوت تصرف الأَسرى بناءً على مواقفهم الشخصية وحالتهم النفسية؛ فبعض الأَسرى يفضلون قضاء أوقات طويلة في النوم أو الجلوس على الفراش طوال اليوم، متجنبين الحديث كثيراً، وذلك ربما لتجاوز الواقع المؤلم، والمحافظة على طاقتهم النفسية في أوضاع العزل عن العالم الخارجي.

منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب، سعت إدارة السجون لعزل الأَسرى بالكامل عن العالم الخارجي. وتمثلت هذه الجهود في عدة إجراءات صارمة، منها منع تنقّل الأسرى بين الأقسام المتعددة، وقطْع محطات التلفاز، ومصادرة الأجهزة الإلكترونية؛ كالتلفاز والراديو. كما قامت الإدارة بنصب أجهزة لحجب إشارات البث الخليوي كإجراء احترازي لمنع استخدام الهواتف النقالة المهربة. وقد أدت هذه الإجراءات الصارمة إلى وضع الأسرى في عزلة حقيقية، وهو ما أثر في قدرتهم على التواصل مع العالم الخارجي ومتابعة الأحداث.

ويختار البعض التجول داخل الغرفة المكتظة لساعات طويلة – "الكزدرة" - فيقومون بهذا النشاط ربما للتخفيف من الضغط النفسي والإجهاد الذي يعيشونه بسبب الأوضاع القاسية داخل السجن. وبعد يوم طويل من التجول والنشاط، يصل المساء وجسدهم يكون منهكاً للغاية، وهو ما يجعلهم ينامون بسرعة.

كانت الكزدرة صعبة جداً ومزعجة في بعض الأحيان، وذلك لكون الغرفة مكتظة بصورة لا تُطاق؛ فعلى سبيل المثال، كان عدد الأَسرى في كل غرفة في سجن عوفر، قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، يصل إلى 6 أَسرى فقط، لكن العدد ازداد في بداية الحرب إلى 10- 12 أسيراً في الغرفة الواحدة. وفي مطلع شباط/ فبراير 2024، تم احتجازي في سجن مجدو، إذ كانت الغرفة تضم أكثر من 16 أسيراً، بينما كانت تتسع عادةً لـ 8 أسرى فقط.

اظهار أخبار متعلقة


وتقيد الغرف الضيقة والمزدحمة حركة الأَسرى، وتحرمهم الفضاء الشخصي اللازم، كما أنها تزيد من صعوبة المحافظة على النظافة الجيدة والصحة العامة، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم انتشار الأمراض بسرعة داخل السجون. في الواقع، إن الأَسرى يجدون صعوبة في الجلوس في أسرّتهم طوال الوقت، وهو ما يضطرهم إلى مشاركة المساحة الضيقة، الأمر الذي يمكن أن يتسبب في مشاحنات بينهم أحياناً.
وبالإضافة إلى الاكتظاظ الشديد داخل الغرف الضيقة في السجون الإسرائيلية، تطبق إدارة السجون سياسات تزيد من صعوبات الاعتقال وأوضاعها بصورة إضافية، ومن هذه السياسات؛ منع التنقل بين الغرف، والتباين في أعداد الأسرى بين الغرف المتعددة.

على سبيل المثال؛ يمكن أن تحتجز إدارة السجن عدداً معيناً من الأسرى في غرفة واحدة، كـ 7 أَسرى، بينما يتم وضع عدد أكبر، كـ 10 أَسرى، في الغرفة التالية. وهذا التباين في أعداد الأَسرى يمكن أن يؤثر سلباً في حالة الأَسرى، ويزيد الضغوط النفسية والتوترات داخل السجون.

بعض الأشخاص يفسرون التباين في معاملة الأَسرى بناءً على خلفياتهم الحزبية، إذ يعتقدون أن الأَسرى المنتمين إلى حركات كـ "حماس" أو الجهاد الإسلامي يتعرضون لمعاملة أكثر صرامة، أو يتم اعتقالهم بأعداد أكبر مقارنة بالأَسرى من الحركات الأُخرى. ومع أنني أرى أن هذا التفسير مخالف للواقع، فإن إدارة السجون تحاول إظهار ذلك، فعلى سبيل المثال؛ عند الخروج إلى المحكمة، يتم سؤال الأَسرى عن انتماءاتهم من جانب السجان، فإذا قال الأسير إنه ينتمي إلى تنظيم غير "حماس" أو الجهاد، يتم تقييده إلى الأمام، أمّا إذا كان منتمياً إلى أحد هذين التنظيمين، فإنه يتم تقييده إلى الخلف.

هذا بينما يختار البعض الإكثار من ممارسة العبادات والشعائر الدينية، كالصلاة، والتسبيح، وحضور الدروس الدينية، كوسيلة لتعزيز القوة الروحية داخل السجن، إلاّ إن إدارة السجون يمكن أن تمنعهم من ذلك، ويبررون ذلك بما يدعون أنه من المخاطر الأمنية، وخوفاً من التحريض. ومع ذلك، فإن هذه القيود تتجاوز الضرورة الأمنية المزعومة لتصبح وسيلة لإضعاف الروح المعنوية للأسرى.

وتتضمن القيود التي يمكن أن تفرضها إدارة السجون منع أداء الصلوات اليومية بصورة جماعية، وحظر صلاة الجمعة، ومنع المصاحف، والمسابح، وسجادات الصلاة، بالإضافة إلى منع الاحتفال بالأعياد الدينية.

ومنذ اللحظات الأولى للإقامة، تم إغلاق الأقسام، ومنع الأَسرى من الخروج إلى ساحات السجن، والتبليغ أن صلاة الجمعة ممنوعة. وعند نقلي إلى سجن النقب، تم إخطارنا بأن الصلاة الجماعية داخل الغرف ممنوعة أيضاً.

كذلك، مُنع الأذان، فعندما قام أحد الشباب بالأذان ذات مرة عند موعد صلاة الظهر، دخلت في هذه الأثناء الوحدة القسم بصورة همجية، واعتدت بالضرب على الأسير والغرفة بأكملها، وعند خروج ضابط الوحدة، سخر منا قائلاً: "الزلمة فيكم يأذن مرة ثانية"، وهذا ما زاد من صعوبة معرفة مواعيد الصلاة التي كنا نقدرها تقديراً، وكذلك الأمر مواعيد الصيام والإفطار في شهر رمضان.

أتذكر في وقت ما أننا تمكنا من تهريب مصحف ممزق، لكن تمت مصادرته خلال التفتيش. وفي أول أيام شهر رمضان، تم توزيع مصحف واحد صغير وممزق لكل غرفة، فحتى القرآن الكريم كان ممنوعاً، وكانت الغرف تتعرض للتفتيش بحثاً عنه، وأحياناً ننجح في تهريبه وإخفائه، وأحياناً أُخرى تتم مصادرته، وهو ما أدى إلى عقوبات؛ كحرماننا الاستحمام، أو سحب الأغطية والفرش من الغرفة. ومع بداية شهر رمضان 2024، تم توزيع مصحف واحد على كل غرفة في السجن، وكان هذا تحسيناً كبيراً بالنسبة إلينا، لأنه أصبح في إمكان الأَسرى الآن قراءة القرآن وأداء الصلوات بصورة أكثر انتظاماً.

ولا شك في أن الكثير من الوقت يُمضى في النقاشات والتحليلات بشأن الأخبار التي كانت تصل إلى الأَسرى. وإلى جانب ذلك، تنتشر الأخبار الكاذبة، سواء أكان بصورة عفوية، أم بصورة مقصودة، إذ يتنقل الخبر من أسير إلى آخر بطريقة مشوهة تعتمد على فهم الناقل، وتساهم في انتشار الشائعات.

كيف تأتي الأخبار؟ هذا من أكثر الأسئلة التي يطرحها الناس على الأسير المحرر. في الواقع، هناك أكثر من مصدر للأخبار داخل السجن:

الأَسرى الجدد: يُعتبرون المصدر الأولي والأكثر صدقية تقريباً، لأنهم القادمون من الخارج. ومع ذلك، فقد كان هناك عدد من الأَسرى الجدد الذين لا يعلمون أي شيء عن الأخبار.

الأسير الذي يخرج إلى المحكمة: يلتقي الأَسرى من الأقسام الأُخرى ويسمع منهم أخباراً، وربما يكون لديهم راديو مهرب. وبعضهم كان يسأل المحامي عن الأخبار، لكن المحامي في أغلب الأحيان يكتفي بالتلميح لأنه ممنوع من التصريح من جانب المحكمة.

الأَسرى الجنائيون: يمكنهم تقديم الأخبار في أثناء التنقلات والبوسطات، لكن معظم أخبارهم لا تكون دقيقة.

حينما كنت في معابر سجن الرملة، سألت أحد الأَسرى الجنائيين عن آخر الأخبار، فقال لي إنه تم الاتفاق على الصفقة، وإن الحرب قد انتهت، لكن تبين لاحقاً أن المعلومة غير صحيحة، وفي كل يوم كان يأتي خبر جديد يناقض الخبر السابق، وبعد فترة، أصابنا إحباط شديد، فكنا نشعر وكأننا نعود إلى نقطة الصفر مراراً وتكراراً، في إشارة إلى اقتراب إبرام صفقة التبادل.

أمّا بشأن كيفية تداول الأخبار بين الأَسرى؛ ففي البداية، كان ينادي بعضهم البعض الآخر عبر النوافذ الخلفية للغرف لتبادل الأخبار، لكن بعد تعرضهم للضرب عدة مرات بسبب هذه الطريقة، اضطروا إلى تغيير أسلوبهم، وأصبحوا يكتبون الأخبار على أوراق صغيرة مهترئة، ويتبادلونها بين الغرف في أثناء توزيع الطعام.

اظهار أخبار متعلقة


ومن ناحية أُخرى، تعمد إدارة السجون إلى بث الإشاعات بطريقة مقصودة، سواء أكان عبر المقابلات، أم عن طريق المتعاونين معها، وذلك لتعزيز الشعور بعدم الاستقرار والضغط النفسي. وكان الكثير من الأخبار واضح أنها مزيفة، ومصدرها إدارة السجن، وهدفها إحباط الأسير.

هذه الإجراءات أثارت العديد من التساؤلات بشأن تفاصيل عملية طوفان الأقصى، وكذلك فاعلية المفاوضات. على سبيل المثال؛ سمعت أسئلة كـ: منطلقات المقاومة من طوفان الأقصى؛ إلى أين سيأخذنا هذا الوضع؟ وماذا سيحدث إذا هُزمت غزة؟ وماذا سيحدث في حال النصر؟ هذه الأسئلة نابعة، في المقام الأول، من حالة عدم اليقين والجهل بما يحدث خارج أسوار السجون، وهو ما يزيد من معاناتهم النفسية ويعزز من سيطرة إدارة السجون عليهم، نتيجة عدم توفر إجابات شافية لهم.

ولك أن تتخيل الشعور بأن حريتك قريبة جداً، أو حتى على وشك أن تحدث، بناءً على خبر ما سمعته، وأنت تسبح في عالم الخيال متخيلاً طريقة الإفراج، وشكل لقاء الأهل، وكل تفاصيل هذه اللحظة المنتظرة، ثم فجأة، تدرك أن الخبر كان كاذباً، وهذا يتسبب بخيبة أمل عميقة. حينها، يبقى الأمل والتفاؤل بأن الحرب لن تنتهي إلاّ بصفقة تبادل للأسرى، وسيتم "تبييض السجون". 

المحاكم
ربما يتساءل البعض: "لماذا لا يلجأ الأَسرى الفلسطينيون إلى المحاكم الإسرائيلية، وخصوصا المحكمة العليا، للحد من ممارسات السجون؟".. في الواقع، يُحرم الأَسرى الفلسطينيون حقَهم في المثول أمام المحاكم والدفاع عن أنفسهم بصورة مناسبة، ويتعرضون للضرب المبرح في أثناء النقل من المحاكم وإليها، الأمر الذي يجبر العديد منهم على التنازل عن حقهم في المثول أمام المحكمة عبر التوقيع على وثائق إدارية من جانب سلطات السجون. وبالإضافة إلى ذلك، يُمنع المعتقلون الذين يحاكَمون من التحدث حتى مع محاميهم، ويتابَعون في جلسات المحكمة عبر نظام مكالمات الفيديو، بحضور السجانين حولهم.

وتتمثل إحدى المشكلات المهمة في عدم تسليم الأَسرى المستندات الرسمية المتعلقة بمحاكماتهم، أو قرارات الاعتقال الإداري، وهو ما يزيد من إحساسهم بالإحباط والتشتت، ويؤدي إلى توترات بينهم وبين محاميهم نتيجةً لصعوبات التواصل وقلة الفرص لمشاركة التفاصيل القانونية.

على سبيل المثال؛ حدثني عبد الله أنه تعرض لاستجواب من جانب الشرطة من دون معرفة فترة احتجازه، ثم نُقل إلى السجن من دون إعلامه بوضعه القانوني، وبعد أسبوعين من الاعتقال، عُقدت جلسة لتثبيت اعتقاله الإداري لستة أشهر. وفي كانون الثاني/ يناير 2024، انتهى تمديد اعتقاله الإداري من دون إطلاق سراحه، ولم يتمكن من الحصول على معلومات واضحة عن قرارات جديدة تجاهه، وهو ما زاد من تعقيد الوضع وعدم اليقين.

ويتعرض الأَسرى أيضاً للضرب والإهانة خلال زيارات المحامين، الأمر الذي يجبر العديد منهم على رفض تلك الزيارات بسبب التهديدات والمضايقات التي يتعرضون لها.

في مطلع شهر كانون الأول/ ديسمبر 2023، تلقيت استدعاء لزيارة المحامي، ولم أجرؤ على الخروج في ذلك الحين، إذ كنت خائفاً من التعرض للضرب. ومرت الأيام ببطء، وبعد نحو 25 يوماً، مع بداية شهر كانون الثاني/ يناير 2024، تشجعت أخيراً وخرجت لمقابلة المحامي، وكانت مشاعر الخوف تتملكني، لكنني كنت متشوقاً لسماع آخر الأخبار عن عائلتي.

وعندما دخلت قاعة الزيارة، وجدت المحامي جالساً ومبتسماً، فزف إليَّ الخبر السعيد في تلك اللحظة؛ لقد رُزقت بمولود أسميته قيس، فلم أستطع تمالك نفسي من السعادة، لكن المحامي لم يكتفِ بذلك، وأخبرني بسيل من الأخبار عن غزة، فتراوحت مشاعري بين الحزن والفرح. وعلى الرغم من الفرحة العارمة بقدوم طفلي، فإنني لم أستطع تخيل ملامحه، وظل هذا الشعور يرافقني حتى يوم الإفراج عني، حين تمكنت أخيراً من رؤية وجهه لأول مرة.

على الرغم من ذلك، فإن التوجه إلى المحاكم يعَد أمراً ضرورياً، إذ تستجيب لبعض الحالات القضائية، كقضية الشهيد ثائر أبو عصب. ومع ذلك، فإن الإجراءات القانونية والترتيبات المتعلقة بإدارة السجون تتطلب وقتاً طويلاً وتعقيداً للحصول على العدالة.
التعليقات (0)