في
الواقع لا تخلو الأهداف والمقاصد من وراء خيار التوجه إلى التخصص أو التمييز بين السياسي والديني من الزاوية المبدئية من جانب، من الوجاهة، لأسباب ثلاثة:
ـ الأول أن المقصد من خيار التخصص هو الالتزام
بالقانون المنظم لعمل الأحزاب السياسية من جهة والجمعيات المجتمعية من جهة أخرى
والاستجابة لمقتضيات هذا القانون.
ـ الثاني
هو ضرورة القطع مع الازدواجية الوظيفية والشمولية التنظيمية التي كانت تحكم مسار
الحركة قبل الثورة مع التأكيد على أن الشمولية المقصودة بالقطع معها ليست شمولية
الفكرة والرسالة والمشروع الإسلامي كمشروع نهضوي مجتمعي حضاري لا يفصل البتة بين
مكونات الحياة ومجالاتها ولا يفصل بين الدين والسياسة وإنما هي الشمولية التنظيمية
والوظيفية التي تجمع بين الحزبي والديني في قيادة الأحزاب ومسؤولياتها التنفيذية
المباشرة، وهو ما يحقق في نفس الوقت متطلبات الانعطافة الاستراتيجية التي دعا
اليها المؤتمر العاشر ولوائحه الأساسية.
ـ الثالث
يتعلق بالجدوى والنجاعة في انتهاج خيار التخصص الذي من المفترض أن يؤدي إلى
مردودية أفضل ونجاعة أعلى وإلى تفعيل الطاقات وتنمية المهارات وتطوير الكفاءات
داخل الحزب وداخل المجتمع.
فالتخصص
المنشود هو الذي يستجيب لتلك الدواعي والمبررات ويرفع تلك التحديات ويحقق
الانعطافة الاستراتيجية ويحفظ الوحدة الفكرية والمرجعية الإسلامية للحزب ويرفع من
مردودية الأفراد وكفاءتهم الوظيفية ويخدم بالتالي المشروع الإسلامي المظلة الجامعة
لكل الأوعية والهياكل.
كما
يمكن النظر إلى هذا التخصص المنشود من زاوية شرعية ومقاصدية حيث أنه في حقيقة
الأمر يفترض ألا يكون سوى منهجية في تنزيل الأفكار وتحقيق الأهداف ولا يمس بجوهر
مضمون تلك الأفكار ولا بخصوصية تلك الأهداف. فهو تخصص وظيفي عملي لا يعني البتة
المس من شمولية الإسلام وعلاقته بكافة المجالات السياسي منها والاجتماعي والثقافي،
الفردي منها والجماعي. وبهذا المعنى يسهل التأصيل الشرعي لهذا الخيار سواءً
انطلاقا من النص القرآني أو السيرة النبوية أو الاجتهاد الفقهي.
فالنص
القرآني يشير في العديد من المواضع لأهمية معنى التخصص وتعدد المقاربات والمداخل
ودورها في تحقيق الأهداف وبلوغ المقاصد، كقوله تعالى على لسان يعقوب مخاطبا بنيه
الذين أرادوا دخول مصر لاستجلاب الطعام "يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد
وادخلوا من أبواب متفرقة" (يوسف/67)، وهو ما يعني أن بلوغ الأهداف وتحقيق
المقاصد يمكن أن يتم بمداخل متعددة وجهود متنوعة فما بالك بتحقيق أهداف مشروع
نهضوي حضاري شامل ومتكامل فمن باب أولى أن تتعدد الاختصاصات وتتنوع المقاربات
وتتكامل الجهود والمناشط لتصب في نفس الوعاء وعاء المشروع. وقوله تعالى أيضا
"فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين" (التوبة/122)، وهو
ما يشير إلى معنى التخصص الوظيفي في التفقه في الدين قبل ممارسة الدعوة. وكذلك
قوله تعالى" ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات" (البقرة/148) ما
يعني تعدد وجهات وسبل الخير والعمل الصالح وخدمة مشروع الإسلام، وقوله تعالى
" فاسأل به خبيرا" (الفرقان/59)، وقوله " ولا ينبئك مثل خبير"(فاطر/14)
. وهي درجة عالية من التخصص أي اكتساب الخبرة والمهارة في مجال من المجالات.
وفي
السنة أيضا قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه عند استشارته في منزل نزلوه بواقعة
بدر" انتم أعلم بأمور دنياكم" (مسلم 2363) ولا شك أن تنزيل المهام
والتخصص الوظيفي من الأمور الدنيوية التي يفسح فيها مجال الاجتهاد وتوخي مختلف
المسارات للوصول إلى نفس الأهداف. واأضا قوله صلى الله عليه وسلم "أنت على
ثغر من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قبلك" وثغور الإسلام هي أبواب العمل في
سبيله.
كما
يزخر التراث الحضاري الإسلامي بالعديد من الاجتهادات التي تؤكد أن الإسلام رفع
عاليا نهج التخصص وتبرز تنوع سبل العمل الإسلامي وتوثيق عراه من خلال تعدد
المؤسسات والهياكل التي تخدم نفس الهدف مثل مؤسسة التكافل الاجتماعي ومؤسسة الأوقاف
ومؤسسة الزكاة والقرض الحسن وغيرها وهي كلها تشير إلى أهمية معنى التخصص الوظيفي وحسن
آداء المهام.
فالتخصص
بهذا المعنى تخصص إيجابي يسهم في حسن تصريف المشروع ويدعم تأمين المناشط الأخرى
الدعوية والتربوية والحقوقية والنقابية والثقافية والعلمية وغيرها من خلال الفضاء
السياسي والمشاركة في السلطة إلى جانب تطوير دعائم المشروع عبر تنمية الخبرات
والمهارات في كل مجال من مجالات العمل الداعمة للمشروع وتحقيق الكفاءة بمعنى
التخصيص الأمثل للموارد والطاقات وتأهيلها للقيام بأداء أفضل.
إن اتخاذ القرارات دون السعي إلى سلامة تنزيلها فضلا عن ممارسة سياسة الاحتواء والتوظيف لها من شأنه أن يسهم في نسف الحزب والمشروع في نفس الوقت وهدر المكاسب والمنجزات التي تحققت طيلة عقود. وهو ما يحتاج إلى بناء جديد للمفاهيم والأفكار والأفراد التي يقوم عليها أي مشروع.
هذا
من الناحية النظرية ما يوفره خيار التخصص إذا ما تم النظر إليه من زاوية إيجابية.
أما من الناحية العملية، فإن حصيلة
التجربة، وإن كانت في الواقع لم يتم تقييمها لحد
اليوم وفق دراسة علمية ميدانية لكي نخلص إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع وتحديد انعكاسات
ذلك على المستويين السياسي والاستراتيجي، لكن ذلك لا يمنع من إبداء بعض الملاحظات
والاستنتاجات الأولية:
ـ
خيار التخصص أريد له أن يساهم في إحداث انعطافة استراتيجية في مسار حركة النهضة التي
عرفت به في السابق وتحددت ضمنه هويتها الحركية والسياسية باعتبارها حركة سياسية
اجتماعية إسلامية شاملة. ولكن هذه الانعطافة لم تكن في الاتجاه المرسوم، فهي
انعطافة في اتجاه التفويت في فضاءات المشروع وتكريس غلبة السياسي وهيمنته والتخلص
من أعبائه بدل تخليصه من المكبلات التي تحول دون انطلاقته. وبدل أن تمكن الحزب من
التموقع في الوسط الاجتماعي العريض كحزب سياسي ديمقراطي مدني ذا مرجعية إسلامية، فإن
حصيلة التجربة من خلال مجمل المحطات الانتخابية طيلة عشرية الثورة ساهمت في إحداث
الانعطافة في الاتجاه المعاكس عبر عنها التراجع الملحوظ في شعبية النهضة وحتى في
حضورها السياسي. ربما تكون العوامل التي تقف وراء ذلك متعددة ولكن لا يمكن استبعاد
أثر سلبي لخيار التخصص الذي تم إقراره دون فسح المجال لتنزيله في الواقع وتركه
معلقا في الفضاء بحجة تحرير المبادرة دون توفير شروطها.
ـ
التخصص من حيث المفهوم والمضمون لا يزال بحاجة إلى مزيد من التوضيح والبلورة حتى
لدى بعض القيادات الذين يختزلونه في العلاقة بين السياسي والدعوي بينما هو منهج
يشمل كافة الأبعاد والفضاءات والمجالات التي لا تندرج ضمن الوظائف الأساسية لحزب
سياسي وبهذا المفهوم ينطبق التخصص على مجالات أخرى مثل النقابي والحقوقي والتربوي
والعمل الخيري وغيرها وهي مجالات لا تزال ملتصقة بنشاطات الحزب وهياكله.
ـ ذهب
التفكير لدى البعض أن التوجه نحو التخصص يعني التنكب عن المرجعية الإسلامية التي
لازمت الحزب أو على الأقل التخفيف من صورتها وعدم إبرازها وأن الانكباب على
السياسي لا يتطلب بالضرورة التمسك بتلك المرجعية في الأفكار والتصورات والبرامج
وبالتالي يمكن الاستعاضة عنها بمرجعية جديدة ـ هي نفسها ضبابية وفضفاضة وبحاجة إلى
تأصيل ـ وهي "المحافظة" كما ذهب إلى نفس الاتجاه الحزب الجديد "حزب
العمل والإنجاز" الذي يطمح أن يكون معبرا عن شرائح واسعة في المجتمع، في حين
تتطلع تلك الشرائح الاجتماعية إلى مشروع إصلاحي شامل لا يفصل بين
السياسة والدين وإن
كان يميز بين العمل السياسي الحزبي والعمل الاجتماعي المرتبط بمرجعية إسلامية. ومن
ذلك ضرورة تقيد الحزب في برنامجه ومقترحاته بمقتضيات هذه المرجعية والالتزام
بضوابطها في المواقف الاقتصادية والتنموية والمواقف السياسية ونصرة القضايا
الإنسانية العادلة والإسلامية خصوصا، والاجتماعية مثل تبني الحلول الإسلامية
المناصرة للفئات الاجتماعية الضعيفة.
ـ
ومما زاد الطين بلة كما يقال، غياب الربط بين الخطاب والممارسة في العمل السياسي
من قبيل رفع بعض الشعارات والوعود التي تلامس الحس الديني في المجتمع في الحملات
الانتخابية مثل مكافحة الفساد والتعهد بمحاربة الفاسدين وتفعيل نظام الزكاة وأن العدل
أساس العمران، وربط السياسة بالأخلاق، والنكوص عن ذلك مباشرة بعد ذلك من خلال
التحالف مع رموز الفساد والتواطؤ مع البعض الآخر بذريعة إكراهات السياسة وضغوطات
الواقع. بل إن الجهود التي بذلت في اتجاه استصدار بعض التشريعات والقوانين التي
تصب في خانة المرجعية الإسلامية (قانون الصكوك وقانون الصناديق الاستثمارية وقانون
التأمين التكافلي وقانون منتجات الصيرفة الإسلامية) ظلت على حالها دون متابعة حبرا
على ورق إلا ما ندر منها.
ـ من
المحاذير والمخاطر المرتبطة بالتنزيل الخاطئ لهذا الخيار ـ التخصص ـ الوقوع في مطب الفصل بين السياسة
والدين وإخراج الدين من مسرح الحياة العامة فضلا عن " علمنة" السياسة
والدين في آن واحد. وهو ما يتطلب العودة إلى بناء المشروع الإصلاحي الشامل ـ
والسياسي جزء منه ـ والتزام كافة الروافد والفضاءات بالمرجعية الإسلامية التزاما
حقيقيا وليس التزاما صوريا أو شكليا. ومن علامات هذا الالتزام الحقيقي ارتباط مجمل
الأفكار والمقترحات والبرامج التي يطرحها السياسي بالمرجعية الإسلامية وذلك في
كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها إلى جانب انشغاله
بالشأن الديني (دون اشتغاله به) وتبني قضاياه وحمل همومه والدفاع عن كل ما يمس
بحقوق الناس في ممارسة شعائرهم الدينية دون تردد ودون توظيف حزبي وكذلك تبني قضايا
الأمة الإسلامية وحقوق الإنسان طبقا لما تتطلبه مرجعية الإسلام. وكذلك التصدي لكل
شكل من أشكال العلمنة في السلوكيات والأفكار والمحافظة على المعادلة الدقيقة بين
الطبيعة المدنية والمرجعية الدينية والسمت الأخلاقي والقيمي العام الذي يجب أن
يطغى على مجمل تلك السلوكيات والمواقف.
يتطلب خيار التمايز حدا أدنى من التنسيق بين الهيئات وهو ما دعا التجربة المغربية إلى إبرام ما سمي بعقد "شراكة" بين جناحي الحركة الإصلاح والتوحيد من جهة والعدالة والتنمية من جهة أخرى، بينما يفرض منهج التخصص الاستقلالية التامة بين المجالات ولا يكون الالتقاء بينها إلا التقاء موضوعيا في خدمة المشروع الإسلامي والوطني العام.
ـ إن
التخصص بهذا الفهم يختلف عن بعض المفاهيم الأخرى المرتبطة بإحياء المشروع الإصلاحي
الشامل مثل مفهوم التمايز والتكامل الذي انتهجته الحركة الإسلامية بالمغرب الذي
ربما يشكل خطوة منهجية نحو خيار التخصص، حيث تبدأ هذه الخطوة التمهيدية بالفصل بين
الفضاءات وتوخي الاستقلالية الإدارية والهيكلية للمؤسسات القائمة عليها وتحقيق
التمايز على مستوى الرموز المشرفة على تلك الفضاءات والهيئات في المجالات
المختلفة، بينما التخصص يشكل الصيرورة النهائية للتمايز من حيث تكريس الاستقلالية
التامة بين المجالات وتمليك المجتمع من الهم المجتمعي والشأن الديني والثقافي
والتربوي والخيري وغيرها. ويتطلب خيار التمايز حدا أدنى من التنسيق بين الهيئات
وهو ما دعا التجربة المغربية إلى إبرام ما سمي بعقد "شراكة" بين جناحي
الحركة الإصلاح والتوحيد من جهة والعدالة والتنمية من جهة أخرى، بينما يفرض منهج
التخصص الاستقلالية التامة بين المجالات ولا يكون الالتقاء بينها إلا التقاء
موضوعيا في خدمة المشروع الإسلامي والوطني العام.
ـ إن
اتخاذ القرارات دون السعي إلى سلامة تنزيلها فضلا عن ممارسة سياسة الاحتواء
والتوظيف لها من شأنه أن يسهم في نسف الحزب والمشروع في نفس الوقت وهدر المكاسب
والمنجزات التي تحققت طيلة عقود. وهو ما يحتاج إلى بناء جديد للمفاهيم والأفكار
والأفراد التي يقوم عليها أي مشروع.
*اقتصادي وباحث في الفكر الإسلامي
اقرأ أيضا: الحركة الإسلامية في تونس.. جدلية الحزب والمشروع (1 من 2)