يُقال في بعض وسائل الإعلام "الغربية"، بما فيها وسائل الإعلام الأميركية إنّ صدور هذا القرار بهذه الصيغة يخدم الرئيس جو بايدن في تحسين صورته الانتخابية التي تشير كلّ التقارير التي جمعتها نواة أو خليّة الحملة الانتخابية إلى أنّ الوضع الإنساني الكارثي في قطاع
غزة، واستمرار الحرب بهذه الهمجية، وعدم اتخاذ أميركا مواقف حازمة من أجل وقفها أو توقُّفها لأسباب إنسانية على الأقلّ تمثّل نقطة الضعف الكبرى في هذه المرحلة، وأنّ من شأن استمرار بايدن في تأييد استمرارها دون تدخل وضغط حقيقي سيؤدّي حتماً إلى خسارة الانتخابات.
ويُقال، أيضاً، إنّ نتنياهو من خلال "افتعال" خلاف دراماتيكي مع الإدارة الأميركية حيال هذا الأمر بالذات إنّما يمثّل مصلحة خاصة له شخصياً في الظهور بمظهر المدافع "الشرس" عن استقلال دولة إسرائيل فيما يتعلّق بأمنها وأنّها ــ أي إسرائيل ــ ليست من جمهوريات الموز، وهي الأجدر بتحديد مصالحها "الوطنية".
وبهذا المعنى فإنّ هناك من الإيحاءات ما يكفي بأنّ المسألة هنا، ليست سوى تقاسمٍ للأدوار ليس إلّا، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة نفسها قد سارعت إلى الإعلان عن أنّ هذا القرار ليس له صفة الإلزام، وأنّ صدوره ربما يساعد فقط على التوصل سريعاً إلى صفقة للتبادل كنتيجة لوقف إطلاق النار الذي يدعو له القرار.
لا يستطيع أحد أن ينفي بالكامل بعض الجوانب الصحيحة في هذه الإيحاءات مقابل أن لا أحد يستطيع أن ينفي بأنّ ثمة خلافات واختلافات جدّية بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول الأسلوب الأنجع لإدارة الحرب، بعدما وصلت سمعة الأخيرة إلى الحضيض، وبلغت عزلتها مستويات قياسية وغير مسبوقة، وأصبحت تقترب يوماً بعد يومٍ من صورة الدولة القاتلة والمارقة والشرّيرة والهمجية، وبعد أن تفاقمت أزمة بايدن بسبب تنامي معارضة الحزب الديمقراطي لسياسته على هذا الصعيد والتي باتت تهدّد تماسك الحزب في مواجهة منافسه المرشّح دونالد ترامب، الذي لا يبدو ضعيفاً في سباق الانتخابات، ولا يبدو أنّ "التهم" التي وجّهت وستوجّه له ستؤثّر جوهرياً على البقاء قوياً في هذا السباق.
الحقيقة أنّ مسألة تقاسم الأدوار ليست جدّية، وليس لها أيّ أساس في ما نشهده من أزمةٍ مهما كانت عابرة أو مؤقّتة في العلاقة الأميركية الإسرائيلية، وذلك لأنّ نتنياهو هو المهدّد باستلام الولايات المتحدة لإدارة الصراع في الإقليم، وبايدن هو الرابح الأكبر إذا تسنّى له مثل هذه الإمكانية.
أي أنّ الأزمة ليست بين أميركا وإسرائيل، لأنّ هذه العلاقة ثابتة ومستقرّة ومصيرية حتى الآن، ولن تتخلّى أميركا أو تغامر بها من واقع حرصها على هذا الدور المنوط بها.
الأزمة في العلاقة بين الإدارة الأميركية الحالية، وأي إدارة أميركية أخرى، ونتنياهو وحكومته وائتلافه وكلّ زبانيته، بدليل أنّ ترامب نفسه أصبح يطالب بوقف الحرب، بل أصبح يلمح بإنهائها في خطوة تبدو أبعد من موقف بايدن وفريقه وحزبه.
هنا بيت القصيد.
فباستثناء هوامش من الجناح "اليميني"، وجلّه من عُتاة المتصهينين في الإدارة والحزب الديمقراطي، وباستثناء هوامش "يمينية" عنصرية سافرة في الحزب الجمهوري من المحسوبين على "المحافظين الجدد"، ومن ذوي التابعية العمياء لـ"الصهيونية المسيحية" لا توجد تعبيرات سياسية فعّالة في كلا الحزبين، فمن لا يخاف على مستقبل إسرائيل، ومن لا يقلق على دورها ومكانتها في الإقليم، وبالتالي، وتبعاً للروابط المصيرية معها من لا يخاف ويقلق على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، وعلى دورها ومكانتها في هذا الإقليم الخاص والحسّاس على هذه المصالح في عالم اليوم، وفي متغيّرات هذا العالم.
الوضع لم يعد يحتمل البهلوانيات الإعلامية والاستعراضية التي يتصرّف بها عُتاة الطواقم التي تحيط بنتنياهو، والأمر، حتى وإن أوحت بعض التقاطعات بأنّ ثمة ما يوحي من خلالها بنوعٍ من الخلاف الهامشي البسيط، وأنّ المسألة قد تنطوي على نوعٍ من تقاسم الأدوار، حتى وإن بدت الأمور على هذا النحو، إلّا أنّ المسألة أكبر من ذلك، وأخطر من ذلك، وأبعد كثيراً وعميقاً من ذلك.
أميركا لاحظت وقرأت جيداً اللهجتين الروسية والصينية عندما أسقطتا معاً مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن، وكان يكفي "فيتو" واحد لإسقاطه، والتي تميّزت بارتفاع كبير في حدّة الخطاب والتحذير، وفي التأكيد على الدور التخريبي لأميركا في منع ممارسة المجلس لدوره المطلوب، وفي التمترس خلف الإجرام والإبادة الإسرائيلية.
تدرك أميركا أنّها هُزمت في أوكرانيا، وتعثّرت في معركة تايوان وتحويل هذه الأخيرة إلى أوكرانيا صغيرة، وتدرك أنّ ثمة تكاملاً جديداً ينطوي عليه عالم اليوم في معادلته الدولية.
يستمرّ الدور الصيني بالتمدّد والاختراق الاقتصادي مع الاستمرار والثبات برفع كفاءة القدرات العسكرية الصينية، ويستمر الدور العسكري المتفوّق لروسيا على كلّ الصعد الاستراتيجية مع الاستمرار برفع كفاءة الاقتصاد الروسي.
وتستمر الدولتان العظميان معاً في بناء وإعادة بناء العلاقات الدولية على أُسس جديدة من التعاون والشراكة، وليس على أُسس الإكراه والسيطرة والتحكُّم، وهو ما يجعل من "الشرق" وُجهة جديدة للعالم بعد أن ثبت تراجع "الغرب" على كلّ الصعد بما في ذلك الصعيد القيمي والأخلاقي والثقافي.
أقصد أنّ أميركا وإلى جانبها بريطانيا ــ أحياناً خلفها، وأحياناً أمامها ــ وقبلها أدركت أوروبا أن الأمور لم تعد تسير كما خُطّط لها في الدوائر الأميركية، وكما التحقت أوروبا خلفها بصورةٍ تبعث على أعلى درجات الاستحذاء والاستخذاء، أدركوا جميعاً أنّ السير وراء الهَوَس الإسرائيلي سيؤدّي بهم إلى كوارث سياسية جديدة، وإلى الدخول في ورطات لا تخدم إلّا عُتاة "اليمين" المجنون في إسرائيل، وأن ليس لأميركا ولا لبريطانيا، ولا للجزء الأكبر من بلدان "الغرب" الأوروبي مصالح مباشرة في هذا السير، ولا في هذا المسار كلّه.
وجاء التفجير الأخير في موسكو ليزيد الطين بلّة.
إذ تُدرك أميركا أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينتظر تفاصيل التحقيقات، وقد يتأنّى قبل التحقُّق من أدقّ الحقائق، وأن توضع على طاولته كلّ خيوط وملابسات التفجير، وكلّ ارتباطات المنفّذين وتبعيتهم ليتخّذ القرارات المناسبة.
من المؤكّد أنّ "الغرب" كلّه يعرف أنّ هذا التفجير سيكون نقطة تحوّل حاسمة في الحرب الأوكرانية التي اختلف مسمّاها الروسي، وأصبحت تسمّى الحرب وليس العملية العسكرية الخاصة، وهو أمر يعرف "الغرب" معناه ومغزاه ومحتواه، وكذلك تبعاته ونتائجه.
"الغرب" بات ملزماً من زاوية خوفه على مصالحه بأن لا يسمح لـ"اليمين" الفاشي بجرّ الإقليم إلى المجهول، وأن يتمّ تدارك ما يمكن تداركه قبل فوات الأوان.
قرار مجلس الأمن الأخير ليس ثانوياً ولا هامشياً، ليس مجرّد "نزوة" سياسية للإدارة الأميركية حتى وإن كانت هذه الإدارة ستتّبع أعلى درجات الحذر في خلافها مع نتنياهو، وذلك لأنّ نتنياهو صاحب نفوذ قوي في الإدارة نفسها، ولديه من الوسائل ما يكفي للضغط بها على هذه الإدارة بالمقابل.
وسيأتي يوم، وهو قريب سيكون على "الغرب" أن يضحّي بنتنياهو لأنّ البديل عن ذلك كلّه هو اهتزاز أوضاعهم بأكثر ممّا هي عليه من اهتزاز وصولاً إلى السقوط نفسه.
نتنياهو يعرف ذلك، ويدرك ذلك، وأظنّ أنّه لن يسلّم مطلقاً مهما كان الأمر لأنّ الغريق لا يخشى من زيادة البلل.
"الغرب" بات في أتون معركة جديدة، هي قديمة قليلاً في الواقع، ولكنّها أصبحت الآن على جدول الأعمال، إنّها معركة إنقاذ إسرائيل الدولة، وإسرائيل المشروع من نفسها وبسرعةٍ فائقة، أيضاً.
(
الأيام الفلسطينية)