صدر قرار من مجلس الأمن يطالب بوقف فوري لإطلاق النار دون ربط ذلك بأي مسألة أخرى كالإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين. وهذا القرار الذي يحمل الرقم 2728 يعتبر تطوراً إيجابياً في الموقف الأمريكي على وجه الخصوص حيث منعت الولايات المتحدة ثلاث مرات صدور قرار بوقف إطلاق النار عن مجلس الأمن الدولي منذ بداية الحرب على
غزة مستخدمة حق النقض «الفيتو».
واليوم، تغير الموقف الأمريكي بالامتناع عن التصويت والحديث صراحة أن القرار ينسجم مع موقف إدارة الرئيس جو بايدن، وأن ما جعل واشنطن لا تصوت لصالح القرار بالإيجاب هو أنه لا ينص على إدانة حركة حماس. وبالرغم من بعض الثغرات الواردة في القرار مثل أنه ينص على وقف إطلاق نار في شهر رمضان، إلا أنه يشكل بداية تحول جدي في الموقف الدولي.
غضب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين
نتنياهو على تصويت واشنطن مفهوم فهو يدرك أبعاد هذا التحول، الذي وصفه بأنه تراجع في موقف الولايات المتحدة، ويمس بالعمليات العسكرية ويؤثر على الجهود لإطلاق سراح المحتجزين حسب ما صدر عن مكتب نتنياهو، الذي اتخذ قراراً بعدم إرسال الوفد الإسرائيلي الرفيع لمناقشة موضوع العملية البرية في رفح، والذي كان سيتم بناء على طلب الرئيس بايدن.
موقف نتنياهو ورد فعله تجاه الإدارة الأميركية فاجأ الكثيرين وقوبل بالكثير من الانتقادات في إسرائيل والولايات المتحدة. فبعض القيادات الإسرائيلية المعارضة اتهمت نتنياهو بالإضرار بالعلاقة الاستراتيجية مع أميركا لأسباب شخصية. وتحدثت شخصيات أميركية رفيعة مع موقع «واللا نيوز» العبري عن أن نتنياهو اختار خلق أزمة مع الولايات المتحدة لدواعٍ سياسية داخلية. واعتبرت أنه من الغريب جداً التعامل بهذا الشكل مع دولة حليفة قدمت لإسرائيل هذا الحجم الكبير من الدعم.
لكن لو عدنا للقرار، فالذي يغضب نتنياهو والكثير من الإسرائيليين منه ليس أنه سيطبق فوراً، فالولايات المتحدة قالت عنه، إنه غير ملزم على خلاف غالبية دول العالم التي تعتبر قرارات مجلس الأمن ملزمة وواجبة التطبيق، بل إنه يفتح الباب أمام تغيرات سلبية جداً في وضع إسرائيل على الساحة الدولية. فلو تجاهلت إسرائيل القرار سيعود مجلس الأمن للاجتماع واتخاذ قرارات أشد وطأة وأكثر حدة تتحول مثل كرة الثلج. والقرار يعزز عزلة إسرائيل دولياً ويشجع دولاً كثيرة على اتخاذ عقوبات ضدها من قبيل إيقاف توريد الأسلحة والذخائر ومراجعة أشكال التعاون مع إسرائيل. بمعنى أن هذا القرار سيفتح الباب أمام ضغط دولي كبير على إسرائيل التي باتت على طرف نقيض من المجتمع الدولي وينظر لها كدولة مارقة.
كما أن حكومة إسرائيل ترى أن القرار سيشجع «حماس» على تصليب مواقفها وعدم تقديم تنازلات في المفاوضات، فإذا كانت ستحصل على وقف إطلاق نار بشكل مجاني فهذا يعني زيادة شروط التفاوض أو الإصرار على المطالب التي تقدمت بها وخاصة إنهاء الحرب والانسحاب الإسرائيلي وعودة النازحين والإفراج عن عدد مهم من الأسرى والمعتقلين. وموقف نتنياهو بعدم إرسال رئيس مجلس الأمن القومي ووزير الشؤون الاستراتيجية لواشنطن لمناقشة استكمال الحرب معناه أن نتنياهو لا يريد التنسيق مع واشنطن حول مسألة رفح وقد يقدم على اجتياحها أيضاً بسبب تعثر المفاوضات حول الإفراج عن المحتجزين والأسرى. وهذا يعني أزمة كبيرة مع إدارة بايدن سيترتب عليها تبعات وربما عقوبات أميركية.
قد يستفيد نتنياهو من تصعيد الأزمة مع واشنطن وحتى من الضغط الدولي بتسويق نفسه كأنه المحافظ على مصالح إسرائيل والقادر على الصمود أمام الضغوطات والإملاءات الدولية بما فيها تلك القادمة من الحلفاء والأصدقاء، ولكن الصدام مع الإدارة الأميركية سيحدث شرخاً في الائتلاف الحاكم حيث يرفض بيني غانتس عضو مجلس الحرب ورئيس «المعسكر الرسمي» هذه السياسة، وشرخاً أكبر في المجتمع الإسرائيلي وسيزيد حدة المعارضة والمطالبات بإسقاط حكومته والذهاب لانتخابات جديدة على وجه السرعة.
والمشكلة الأخرى ذات البعد الاستراتيجي هي تعميق الشرخ والخلاف بين حكومة إسرائيل وبين اليهود في الولايات المتحدة الذين يرون في نتنياهو خطراً على فكرة الدولة «اليهودية الديمقراطية»، وينظرون للتحالف مع الولايات المتحدة باعتباره أحد أعمدة بقاء إسرائيل وصمودها وقوتها وتفوقها العسكري والاقتصادي.
نتنياهو يستطيع المناورة وهو خبير في إدارة الأزمات ولكن ما تمر به إسرائيل يحمل مخاطر وجودية وهي تخسر حربها في غزة بسبب هذا الحجم الكبير من أعمال القتل والإبادة والدمار، وبسبب رفع سقف أهدافها وعدم القدرة على تحقيقها بوسائل الحرب. كما أنها تخسر بفقدانها وضعها الدولي الخاص وتتحول كنظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا قبل سقوطه بفعل العقوبات والعزلة الدولية. وفي لحظة معينة، قد يخونه ذكاؤه ويجد نفسه الخاسر الأكبر على المستوى الشخصي وينتهي إلى غير رجعه، والمتسبب في هزيمة كبرى لإسرائيل على الساحة الدولية بحيث تصبح الحياة في إسرائيل غير مقبولة على قطاعات واسعة من الإسرائيليين. وتفقد الدولة تلك الهالة الكاذبة التي نسجتها أجهزة الدعاية الصهيونية والغربية التي تصور إسرائيل كواحة للديمقراطية والمعايير والقيم الغربية. وهذه العملية قد بدأت فعلاً في أوساط الرأي العام الدولي. فحرب الإبادة الجماعية في غزة فضحت إسرائيل وكشفت زيفها.
(الأيام الفلسطينية)