كلّ قنبلة من هذه القنابل أشدّ فتكاً من الأخرى.
القنبلة الأولى، هي القرارات التي يمكن أن تصدر عن المحكمة
الجنائية الدولية، والتي تتوقّع إسرائيل ألا يتأخّر موعد صدورها عن عدّة أسابيع في أقصى الحدود.
وصف بعض الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية هذه القرارات المرتقبة بأنّها «تسونامي» سيجرف من أمامه كلّ شيء، إذا لم يتدخّل الرئيس الأميركي جو بايدن بكلّ ما يملك من طاقة وتأثير لمنع صدورها، أو للتخفيف من وطأتها إذا تعذّر منعها، بالإضافة إلى الحملات المحمومة التي يقوم بها بنيامين نتنياهو على هذا الصعيد.
تبدو الصورة على هذا المستوى أبعد من مجرّد القلق، لأنّ من شأن صدورها أن يُحدث اضطراباً سيجتاح الحالة الإسرائيلية، وذلك بالنظر إلى أنّها ستطلب اعتقالاً فورياً ومباشراً للثلاثي: نتنياهو/ رئيس الحكومة، غالانت/ وزير الجيش وهليفي/ رئيس الأركان، إضافة إلى بعض الأسماء السياسية والعسكرية الأخرى.
ويُقرأ من بين السطور «الخبيثة» أنّ بايدن قد «لا يتدخّل بكلّ طاقته وتأثيره لاعتبارات تتعلّق بهذه القنبلة، وبالقنبلتين الثانية والثالثة، نظراً لما يمكن أن يمثّله هذا «الموقف» من فرصةٍ نادرة لبايدن لإحداث «التغيير» المطلوب في الحالة الإسرائيلية نحو خلق البيئة المناسبة للتوجّهات الأميركية بعد «انتهاء» الحرب على قطاع غزّة.
لا أُشاطر هؤلاء رأيهم بأنّ بايدن يمكن أن يستثمر في مثل هذه الفرصة؛ لأنّ الجانب الصهيوني في شخصية بايدن هو الأقوى من جانب براغماتيته المفترضة، ولأنّ الإدارة التي اختارها بمحض إرادته ورغباته أصبحت وتحوّلت في ظروف هذه اللحظة الدقيقة إلى قيدٍ إضافي ضاغط عليه.
وفي الخلاصة التي تتعلّق بهذه القنبلة، فإنّ حالة من الاضطراب ستسود الواقع الإسرائيلي إذا صدرت تلك القرارات، وستترك آثارها العميقة في السلوك الإسرائيلي القادم بدءاً من الانتخابات المبكّرة، ومروراً بالحرب، وانتهاءً باشتعال الشوارع الإسرائيلية على اختلاف توجهّاتها.
أمّا القنبلة الثانية، فهي «انتفاضة الجامعات الأميركية».
بعجالةٍ يمكننا أن نسجّل، لغايات تتعلّق بتكثيف وتلخيص قراءة هذه «الانتفاضة»، أو بـ»ربيع الجامعات في الولايات المتحدة»، النقاط الرئيسة الآتية:
أوّلاً، ليس صحيحاً، ولا دقيقاً أنّ هذه «الانتفاضة» قد ظهرت فجأة لأنّ إرهاصاتها كانت تتفاعل، وتختمر في سياق انكشاف الطابع الإجرامي للحرب على القطاع، وانكشاف الدور الأميركي في المشاركة المباشرة فيها، إشرافاً، وقيادة، وتسليحاً، وتمويلاً، ودعماً سياسياً ودبلوماسياً سافراً وصلفاً بما يتجاوز كلّ الحدود.
صُدمت أوساط واسعة من الرأي العام الأميركي بالكمّ الهائل من الأكاذيب وبالكمّ الهائل من التغطية الرسمية الأميركية لهذه الأكاذيب، وقد أشارت عدّة استطلاعات إلى أنّ مؤشّر التعاطف والتضامن مع الحق الفلسطيني كان متصاعداً بصورةٍ ملحوظة ومتسارعة حيث تجاوزت نسب هذا التضامن والتعاطف الـ 60% من بعض الفئات العمرية الفتيّة.
وليس صحيحاً أنّ هذا الصعود المتسارع كان معزولاً، أو غريباً، أو منفصلاً عن حالة مبهرة من نشاط الجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية، وعن حالة «وعي» جديد اجتاحت قطاعات واسعة من المجتمع المدني الأميركي.
لو رجعنا إلى [تصويت ميتشغان] فقط، والذي تجاوز عشرة أضعاف الحجم المستهدف في حينه، والذي نزل على رأس الإدارة الأميركية كالصاعقة لأمكننا ملاحظة أنّ شيئاً نوعياً جديداً يتفاعل في المجتمع المدني الأميركي، وأنّ الأكاذيب الرسمية الأميركية حول سمات وطابع ومبرّرات الحرب على القطاع قد وصلت إلى مرحلة الفضيحة الكاملة، وهذا ثانياً.
أمّا ثالثاً، فإنّ الإبادة الجماعية التي تمّت على الهواء مباشرة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي كانت تنقل مباشرة الصوت والصورة والمشاهِد المروّعة قد حَفرت عميقاً في وعي الفئات التي تتفاعل مع وسائل الإعلام، وهي جزء فاعل ونشط من تفاعلات وسائل التواصل، وطلبة الجامعات هم الفئة الأكثر قرباً والتصاقاً، بل انصهاراً مع هذا الوعي الجديد.
أخيراً ورابعاً، وهذا هو الأهمّ فإنّ هذا الوعي الجديد قد نقل وانتقل إلى حالةٍ نوعية جديدة عندما بدأ يربط ما بين المشاركة الأميركية في حرب الإبادة، والتغطية على الجرائم الإسرائيلية وما بين السياسة الأميركية التي تدعم الحروب، وتؤيّد القتلة والفاسدين، بل حتى الفاشيين، خصوصاً في أوكرانيا وإسرائيل.
وبدأ هذا الوعي ينقل «الصراع» الداخلي بين أوساط واسعة من المجتمع المدني الأميركي وبين مؤسّسة الحكم الرسمية من مجرّد الحق بالتضامن والتعاطف مع قضايا حقوق المظلومين في العالم كلّه إلى محاسبة القائمين على هذا الظلم من مؤسّسة الحكم القائمة.
وخطر هذه القنبلة على الإدارة الأميركية، وعلى إسرائيل مرعب وخطير؛ وذلك لأنّ الخوف الحقيقي هو أن تنقل «عدوى» «ربيع الجامعات الأميركية» إلى أوروبا، وإلى دول كثيرة كبيرة ومؤثّرة، ويتحوّل المجتمع المدني العالمي من مجرّد متظاهر ضد الحرب، ورافض لها إلى عمل شعبي واسع ومنظّم، وله مؤسّسات قيادية تقود هذه المجتمعات نحو تحرّر اجتماعي جديد تحت قيادة جديدة، واعية ومنظمة، ويستحيل على مؤسّسات الحكم «الغربي» التغافل عن مطالبها، أو الوقوف في وجه هذه المطالب.
وإذا ما قدّر لهذا «الربيع الجامعي» أن يتحوّل إلى «ربيع جامعي عالمي» فإنّ تحولاً هائلاً يكون قد طرأ على خارطة الصراع العالمي، بأبعاد ليس فقط سياسية ــ وهذا هو الأهمّ الذي أشرنا إليه للتوّ ــ وإنّما بأبعاده الاجتماعية والثقافية التي ستعني بالضرورة الحفر العميق بالأبعاد الاقتصادية لاحقاً.
وإذا ترافق أو تلازم هذا المشهد النوعي الجديد مع تراجعات «الغرب» وخساراته المتواصلة في إسرائيل وأوكرانيا وتايوان، ومناطق أخرى في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية سنكون حتماً أمام تبدُّلات وتغيُّرات انقلابية في المشهد العالمي وتوازناته، وربما دراماتيكية، أيضاً، وستكون تفاعلات وتبعات هذه القنبلة طامة على إسرائيل، تماماً كما ستكون طامة كبرى على حُماتها ورُعاتها وأسيادها الحقيقيين.
وباختصار شديد، فإنّ قنبلة «الربيع الجامعي الأميركي» هي نذير شُؤم ما بعده شُؤم لبايدن، ولنتنياهو على حدٍ سواء.
القنبلة الثالثة، هي «موّال
رفح» و»الصفقة».
أقول موّالاً لأنّ هناك في إسرائيل من تفتّقت عبقريته فألّف الموّال، وهناك من لحّنه، وهناك من بدأ يُغنّيه.
وأصل حكاية هذا الموّال أن انتهاء غزو خان يونس بعد قرابة ثلاثة أشهر من البدء به، وكان الحديث في أقصى حدوده آنذاك يدور عن عدّة أسابيع فقط، لم يثمر عن أيّ متغيّرات حقيقية على صعيد الأهداف لهذا الغزو، ولهذه الحرب الدموية كلّها، وقامت قيادة الاحتلال بسحب الكثير من القطاعات العسكرية، وخصوصاً بُعيْد الكمين الشهير، وزعمت هذه القيادة في حينه أنّ الوضع في جنوب لبنان، يحتاج إلى نقل «قوّات النخبة» والألوية المتخصّصة إلى هناك، وأنّ القوّات المتبقّية بالقطاع ستقوم بالعدوان على رفح و»الانتهاء» من أربع أو خمس كتائب لحركة حماس لكي يتمّ الإعلان عن «النصر» الكامل هناك، ومن هناك.
ولأنّ نتنياهو يعرف مسبقاً أنّ غزو رفح سيُطرح على جدول الأعمال مسألة مئات آلاف المدنيين، وأنّ «التعهّد» بإجلائهم سيحتاج إلى عدّة أسابيع، وربما إلى عدة شهور، فقد أخذ يتلاعب بهذه الورقة علّ «حماس» وفصائل المقاومة «تشتري» منه هذه الورقة، وعلّ دول الإقليم تساعده في «التسويق»، وعلّ الولايات المتحدة تستخدمها لإعادة ترتيب بعض الأوراق المبعثرة.
سقطت لعبة الورقة بعد الموقف الغربي الأوروبي، والموقف الإقليمي، وسقطت عندما تجاهلتها فصائل المقاومة، وظلّت مشدودة لشروطها لوقف إطلاق النار.
وعند درجة أسوأ لنتنياهو من أيّ وقتٍ مضى أصبح يُقايض «غزو رفح» الآن، وبدأ بمحاولة «إدخالها» في شروط ومساومات وتفاصيل «الصفقة».
هنا انكشفت اللعبة، خصوصاً أنّ الذهاب قُدُماً بالحديث عن أنّ جيش الاحتلال جاهز، وأنّه ينتظر الأوامر لاجتياح رفح سيعني الآن أنّ نتنياهو يتخلّى علناً عن «الأسرى» الإسرائيليين، وأنّ هذا سيعني حتماً الصدام المباشر مع مئات آلاف الناس في الشوارع.
لا يوجد شيء اسمه تأجيل أو تعليق غزو رفح إلّا في ذهن الولايات المتحدة للمساومة، وفي ذهن الوسطاء العرب للضغط باتجاه «إنجاح» «الصفقة»، وغزو رفح لن يخوضه نتنياهو وفريقه إلّا إذا كان عدم خوضه سيعني خطراً عليه، وعلى حكومته، وعلى كلّ ائتلافه الفاشي أشدّ من خطر خوضه، وفي كلا الحالتين هو يدخل مغامرته الأخيرة، بل مقامرته التي ستحسم نتيجة الحرب، وهي نتيجة لم يعد في إسرائيل من لا يعرفها (إذا كان ما زال يمسِك برأسه، ولم يُصَب بالجنون).
إمّا «صفقة» وإمّا «رفح» هي معادلة صيغت في مكتب نتنياهو أصلاً، وصدّقها كلّ المسؤولين عن الإخفاق الكبير، و»يصدّقها» البعض الآخر لأسباب انتخابية محضة، لأنهم جميعاً يعرفون الأمر وما فيه هو درء الهزيمة، بدل الإعلان الرسمي عنها، وهو أصل الحكاية، وهذه القنبلة، أيضاً، من أشدّها فتكاً.
أمّا إذا ذهب «مجلس الحرب» إلى «رفح» وقرّر المغامرة بكلّ شيء، والمقامرة بآخر الأوراق فإنّ صفقة التبادل ستتبخّر إلى الأبد، وأهالي الأسرى ومن معهم سيحسمون خيارهم في معركة نهائية مع الحكومة، وإذا ما وقعت المجازر المنتظرة، والتي يتم التحذير منها أوروبياً، وإقليمياً، وحتى أميركياً فإنّ النتيجة لن تقلّ عن توسيع الحرب، وتوريط الإقليم، والدخول إلى مرحلة ليس نتنياهو، ولا طواقمه، ولا حكومته وائتلافه الفاشي لديهم «التأهيل» السياسي والعسكري والأمني للدخول بها، أو ضمان أيّ نتيجة «إيجابية» لهؤلاء جميعاً من ورائها.
إسرائيل كذّبت كذبة من صناعة نتنياهو، وقد تصدّق نفسها، لكنّ الأمر كلّه لن يختلف عن غزو «الشمال» و»الوسط»، وعن غزو خان يونس إن لم تكن نتائجه عسكرياً على دولة الاحتلال أسوأ بكثير من كل هذا الغزو، وذلك لأنّ نتنياهو إن ذهب إلى رفح فالسبب معروف لكلّ متابع وهو أنّه سيذهب صاغراً تحت طائلة سقوط الحكومة.. وهذا كلّ ما في الأمر.
(الأيام الفلسطينية)