في فجر الثالث
والعشرين من آذار/ مارس، عام 1983م؛ اقتحم أحد عشر ضابط استخبارات يوغوسلاڤيا مسكن علي
عزَّتبيغوڤيتش،
مسوقين بأمرٍ لتفتيش مسكنه واعتقاله. وقد انتزعوا كُتبه من فوق الأرفف، وألقوها
على الأرض في أكوام، وصادروا أكثر من مئة كتاب، جُلها لا علاقة له بالإسلام!
وقد أُرسِلَ المحامي عزَّتبيغوڤيتش إلى
مخفر الشرطة، بينما لا زالوا يفتشون مسكنه. وقد اكتشفوا أثناء هذا التفتيش أعداد
صحيفة سياسية كرواتيَّة، مما كان يصدُر في المهجر مُناهضا للنظام اليوغوسلاڤي. وحين
أُعيد الأستاذ إلى مسكنه بعد التحقيقات الأوليَّة؛ التقط له الضباط صورة وهو
يَحملُ الصحيفة "المعادية"! وقد استمرَّت التحقيقات الرسميَّة حوالي ستة
شهور، وانتهت إلى إدانة ثلاثة عشر مُتهما؛ كان علي عزَّتبيغوڤيتش على
رأسهم، وذلك بتهمة: "تشكيل تنظيم يهدف إلى ارتكاب أنشطة إجراميَّة مُعادية
للثورة، وتهديد السلم الاجتماعي اليوغوسلاڤي"!
وقد مُنعَ المتهمون من لقاء ذويهم، أو تلقي أي طعام من منازِلهم،
وذلك في بيئة السجون والمعتقلات اليوغوسلاڤية، التي كان المسلمون يُعاملون فيها
أسوأ معاملة؛ فيُقدَّم لهم لحم الخنزير، ويُسلَّط عليهم المسجونين الآخرين بسبب
ديانتهم. وكان الطعام النظيف، الذي يخلو من لحم الخنزير؛ يُدَّخرُ للمسلمين الذين "يتعاونون"
مع السلطة. كذلك، لم يكن يُسمح لهم بالنوم أكثر من ساعتين يوميّا، غالبا في وضع
الجلوس على مقعد غير مريح، حيث تتناهى إليهم أصوات صراخ من يُعذَّبون في الزنازين
المجاوِرَة. وقد عُذِّب بعض المتهمين، وقُتل بعضهم الآخر، وبدأت "العقوبة
الاجتماعيَّة" أثناء التحقيق وقبل المحاكمة؛ فجمَّدوا كل الحسابات البنكية لعزَّتبيغوڤيتش وأفراد أسرته، وحالوا بينهم وبين مالهم القليل؛ لزيادة الضغط على رب
الأسرة المعتَقَل.
يُطالعنا في هذا الإعلان/ المانيفستو/ البيان؛ الوجه الحركي لعلي عزَّتبيغوڤيتش رحمه الله، وهو ما أدركه النظام الشيوعي الحاكم في يوغوسلاڤيا؛ فقرَّر معاقبته عليه. ورغم أن هذا الجانب لم يكُن -إبَّان محاكمته- قد تبلور بعد في نشاط سياسي مُكتمل، يُهدد النظام القائم تهديدا حقيقيّا، بل كان هذا النشاط يتوهج حينا ويخفُت أحيانا، لأسباب شتَّى؛ فإن الدولة المتألهة قد أدركت أن هذا الإعلان، يُرادُ به مزاحمة "البيان الشيوعي" -على المدى البعيد- وإزاحته
وإبَّان فترة التحقيق، شنَّت آلة الدعاية الشيوعيَّة حملة غير مسبوقة
على المتهمين وأسرهم وأصدقائهم. وأخذت الصحف تنشر دعاياتها تحت مانشيتات مثيرة مثل:
"غايتهم جمهوريَّة إسلاميَّة"، "أشباح الماضي في عباءة
إرهابيَّة"، "مُناهضة الدستور باسم القرآن"، "الطهوريَّة
القذرة"، "إعلانٌ ظلامي يبُثُّ الكراهية"؛ في إشارة
واضحة إلى النص الإشكالي: "الإعلان الإسلامي"(1).
* * *
يُطالعنا في هذا الإعلان/ المانيفستو/ البيان؛ الوجه الحركي لعلي عزَّتبيغوڤيتش رحمه الله، وهو ما أدركه
النظام الشيوعي الحاكم في يوغوسلاڤيا؛ فقرَّر معاقبته عليه. ورغم أن هذا الجانب لم
يكُن -إبَّان محاكمته- قد تبلور بعد في نشاط سياسي مُكتمل، يُهدد النظام القائم
تهديدا حقيقيّا، بل كان هذا النشاط يتوهج حينا ويخفُت أحيانا، لأسباب شتَّى؛ فإن
الدولة المتألهة قد أدركت أن هذا الإعلان، يُرادُ به مزاحمة "البيان
الشيوعي" -على المدى البعيد- وإزاحته، وذلك بالإجابة عن الأسئلة التي
صاغتها ماديَّة ماركس وإنغلز -وورثتهما- إجابات مختلفة، مما يُهدد شرعيَّة النظام
نفسه، ولو كان هذا التهديد بعد نظريّا محضا في طور التصورات.
وقد عبَّر المؤلف -إبَّان محاكمته- عن تفضيله نشر هذا الإعلان مموها
بادئ الأمر ودون اسم؛ لسببين: أولهما أن النصوص التي تُنتج في بيئة قمعيَّة، مثل
البيئة اليوغوسلاڤية؛ يتعامل معها المسلمون في أنحاء العالم بريبة، واﻵخر أنه كان يخشى
عين المآل الذي انتهى إليه: المحاكمة والإدانة في ظلِّ هذا النظام. وقد بيَّن في
طيَّات دفاعه؛ أن غايته الأولى كانت هي ترجمة النص، أولا إلى العربية والإنكليزية،
ثم إلى التركية والألمانية. وقد ذكر بعض الدارسين أنه تُرجم كذلك إلى الفارسية
والفرنسية. والثابت أن الكتاب قد نُشر -آنذاك- في الكويت وپاكستان وماليزيا
والجزائر، بيد أن نسخته البوسنويَّة كانت قد نُسخَت على الآلة الكاتبة، ووزع منها
ست نسخ فحسب! وقد كان هذا مما احتُجَّ به على أن الكتاب لم يكن موجها لمتلقٍّ
يوغوسلاڤي، خصوصا مع إشارته إلى "العالم الإسلامي" و"البُلدان
الإسلامية" ما يربو على الأربعين مرة في هذا النص القصير، مُقررا أنه ما من
موطن في الكتاب، يدعو فيه إلى "بوسنة نقيَّة عرقيّا" أو إلى "جمهورية
إسلامية بوسنويَّة".
بل إن الموضوعين
الرئيسيين في هذا النص؛ هُما: نقد الهوَّة بين النخبة والجماهير في المجتمعات
المسلمة، والتوكيد على أن العالم الإسلامي لا يُمكن أن ينصلح حاله بغير الإسلام، علاوة
على نقده لموقف المسلمين الطاغي من الحضارة الغربيَّة، وحمله على نظام التعليم في
بُلداننا.
ومن هذه الصورة
الإجماليَّة، يُمكننا أن نستقي عُنصرين لا يُمكن للقارئ أن يُدرِك دونهما
طبيعة هذا النص القصير، وطبيعة المراد به؛ أولهما أن هذا النص محاولة
لترجمة الإطار النظري والفلسفة الأخلاقيَّة، التي بلورها في مؤلفه العمدة: "الإسلام
بين الشرق والغرب"؛ إلى برنامج حزبي عملي، واعيا بالمسافة الكبيرة التي
تفصل فلسفته الأخلاقيَّة-الدينيَّة عن البرنامج الحزبي، فيما دوَّن وفي الواقع
سواء بسواء، والآخر هو تجسيد هذا الإعلان لمواجهة النُخبة المتدينة مع
الأيديولوجية الشيوعية الرسمية، ومزاحمتها، ومحاولة إزاحتها في مجالات ومساحات؛
تسمح للمسلمين البوشناق بالعمل على حفظ دينهم وتنزيله واقعا، مع ما في ذلك من
مشقَّة ليس أقلها مخالفة ذلك كُليّا للأيديولوجية الرسميَّة وسرديتها المادية.
وكلا هذين العنصرين
إذا تضافرا -كما يتجلَّى في هذا النص- يجب أن يُولِّدا في الذهن اليقظ إدراكا
بعدَّة مؤثرات مهمة، أطلَّت برأسها بارزة من بين السطور؛ لعلَّ أهمها هو شدَّة
تأثُّر المؤلف بسياقه وأسئلته وأيديولوجياته، وهو أثر كشف عنه كاتب تصدير الطبعة
البوسنويَّة في تكييفه لهذا النص الإشكالي بأنه طوباوي، وإن كان قد أرجع ذلك
للمؤثرات المثاليَّة في فكر عزَّتبيغوڤيتش فحسب، غافلا عن السياق الشيوعي
الطوباوي؛ "المثالي" بتعريفه!
وعندي أن لجوء
عزَّتبيغوڤيتش للغطاء الأممي الإسلامي في هذا الإعلان، يُعبِّرُ عن تأثّره
بالأممية الشيوعيَّة، ورغبته في مواجهتها بسلاحها، بأكثر مما يُجسد تعبيرا تلقائيّا
عن الأممية الإسلامية الفطرية، التي لم يصطنعها هو ولا غيره؛ إذ هي -لحُسن طالعنا-
جزءٌ لا يتجزأ من مسيرة الفكر الإسلامي وتاريخه الحركي، منذ المبعث النبوي الشريف.
وبين التعبيرين بون شاسع لا يتسع المقام لبيانه، بيد أن بُرهاننا على ما نذهب إليه
ليس هو السياق الشيوعي اليوغوسلاڤي وحده، الذي وَلَّد ما سمَّاه كاتب التصدير:
"ليبرالية محكومة"، تُراعي صداقة البُلدان المسلمة بعدم "الإفراط"
في قمع المسلمين البوشناق فحسب؛ وإنما لأن التأثُّر بالنسق الشيوعي -أو أي نسق
مُهيمن على الواقع- يبني في نفس المفكر ميلا (وأولوية) إلى توظيف فعاليَّة الأدوات
نفسها التي يئن الواقع لوطأتها، وإن كان ذلك التوظيف مقلوبا نظريّا يَقلِب معه
النتيجة في روعه!
هذه المحاولة -مهما اختلفنا معها ومع ثمارها- كانت خطوة على الطريق (ولو مشوَّشة)، ومرحلة من مراحل البحث عن حلول للواقع المأزوم داخل إطار الإسلام. وبالمثل، فسواء أكان إعجابه بالتحديث الياباني -مُقارنة بالتركي الكمالي!- انعكاسا لثقافته الحداثية الأوروپية أم لا، فإن صدقه مع نفسه لم يسمح له بإغفال كوارث هذا التحديث
وسواء اطَّردنا مع
تصريح المؤلف -إبَّان محاكمته- بأن هذا النص أممي؛ موجَّه لشعوب المسلمين في مشارق
الأرض ومغاربها، أو أخذنا بالقرائن والأدلَّة العمليَّة، التي استفزَّت مخاوف
الصرب ووحشيتهم؛ فإنه في كل الأحوال وليد شرعي لسياقه، وشديد الارتباط به؛ فلا
يُمكن قراءته بمعزل عنه. وربما صحَّ -نسبيّا- توصيف كاتب التصدير مُعتذرا عن
الأستاذ بأنه مفكر محاصَر، بيد أنه يصحُّ إلى المدى الذي يُبين لنا ارتباط النص
بسياقه، ولا يصحُّ أبدا بوصفه عُذرا عمَّا يعُدُّه بعضهم من عيوب النص والنسق! فإن
المفكر الأصيل والمثقف الملتزم، لا يستخرج أفضل ما جُبِلَ فيه إلا تحت ضغط الحصار
ووطأة الاختبار.
وسواءٌ أكانت شدَّة
عناية عزَّتبيغوڤيتش بالزكاة -في هذا
الكتاب- انعكاسا للسياق الشيوعي، وذلك كما كانت عناية جيله من ذراري العرب بـ"اشتراكيَّة
الإسلام" وليدة سياق مشابه؛ فالشاهد أن هذه المحاولة -مهما اختلفنا معها
ومع ثمارها- كانت خطوة على الطريق (ولو مشوَّشة)، ومرحلة من مراحل البحث عن حلول
للواقع المأزوم داخل إطار الإسلام. وبالمثل، فسواء أكان إعجابه بالتحديث الياباني -مُقارنة
بالتركي الكمالي!- انعكاسا لثقافته الحداثية الأوروپية أم لا، فإن صدقه مع نفسه لم
يسمح له بإغفال كوارث هذا التحديث؛ إذ يسرد علينا -في كتابه الماتع: "الإسلام
بين الشرق والغرب"- وقائع المجتمع الياباني المأزوم بسبب التحديث، وضخامة
مُعدلات انتحار الفنانين والأدباء اليابانيين، ويُبين لنا المعنى الإنساني لذلك.
لقد وضع المؤلف، عبر
هذا الدليل الحركي، أو "المانيفستو"؛ أسس خُطَّة عمل، تنقل القارئ من
تشريح القضايا والإشكالات واستيعابها، إلى نهج للعمل؛ يرسمه الأستاذ لتنزيل فلسفته
وفكره في المجال العام. وفيه يتجلَّى إدراكه -رحمه الله- لكيفية تنزيل تصوراته إلى
الواقع، والمسافة التي تفصلهما. وهو ما يجعل من هذا "الإعلان الإسلامي"
نصّا أيديولوجيّا حارّا؛ دُبِّج للاشتباك مع الواقع العملي، لا مع جذوره النظريَّة.
__________
[1]-
Anto Knežević: “Alija Izetbegović’s Islamic Declaration; its substance and its
western reception”, Islamic Studies, Vol. 36, No. 2/3, 1997, pp.
483-521.
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry