كتب

القاعدة وأمريكا والحرب على الإرهاب في لعبة المجابهات الدولية.. كتاب جديد

ما العوامل التي جعلت "أفغانستان" مسرحاً للحرب وقبلة للمجاهدين العرب؟
ما العوامل التي جعلت "أفغانستان" مسرحاً للحرب وقبلة للمجاهدين العرب؟
الكتاب: "الجهاد الأمريكي من كابول إلى إسطنبول"
الكاتب: د. عبد الله علي صبري
الناشر: اتحاد الكتاب العرب بدمشق، الطبعة الأولى سبتمبر 2023
199 صفحة من الحجم المتوسط


في ظل أجواء إعلان الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على الإرهاب مع بداية الألفية الجديدة (عقب أحداث 11 سبتمبر 2001)، نظمت أجهزة الإعلام الأمريكية والأوروبية والصهيونية حملة واسعة شرسة على الإرهاب ، بوصفه المسؤول الرئيس عن ما حدث، ونال العرب والمسلمون نصيب الأسد من هذه الحملة التي لم تتوقف.

ويختلف المحللون الامريكيون في توصيفهم لمضمون الموجة الحالية من الإرهاب الجديد، ولاسيما بشأن العلاقة الارتباطية بين الإرهاب والاسلام. فعلى الرغم من أن الإرهاب موجود في العديد من الدول، ويصيب بدرجة أو بأخرى العديد من الحضارات و الثقافات، فإنَّ  بعض المفكرين الأمريكيين، وبالذات صامويل هنتنغتون، يركزون على أنَّ الإرهاب لا يمثل شكلاً من أشكال الصراع الدولي، بقدر ما يمكن النظر إليه باعتباره حروب المسلمين، سواء فيما بينهم أو بينهم وبين غير المسلمين، وهي حروب قد تتطور إلى صدام كبير للحضارات بين الاسلام والغرب، أو بين الاسلام وبقية العالم.

ويرى هنتنغتون أنَّ هذه الحروب لا تعود إلى طبيعة المعتقدات الإسلامية، وإنَّما تعود إلى السياسات والأوضاع العامة في العديد من الدول الإسلامية، مثل حالة الانبعاث الإسلامي والشعور بالظلم والامتعاض والحسد تجاه الغرب والانقسامات الإثنية في العالم الإسلامي وارتفاع معدلات الولادة في معظم الدول الاسلامية.

ويخلص إلى أن حروب المسلمين سوف تستمر في حال عجز المجتمعات الإسلامية عن تحقيق إصلاحات داخلية جذرية، وكذلك في حال استمرار الحكومات غير الإسلامية في محاولة فرض سيطرتها على الأقليات الإسلامية فيها.

فحكومة الولايات المتحدة وجيشها كانت هي من نفذت عمليات كثيرة من الإرهاب الدولي ومن القتل الوحشي للشعوب بدءا من عام 1899 حتى يومنا هذا. وحتى إذا استندنا إلى التعريف الذي وضعه مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (الأف بي آي) فسوف نجد أن الولايات المتحدة مدانة بالارهاب.

يقول التعريف: "إن الإرهاب هو الاستخدام غير القانوني للقوة أو العنف ضد أشخاص أو ملكيات  بهدف تخويف أو إجبار حكومة ما أو سكان مدنيين أو أي قطاع بشري على تأييد أهداف سياسية أو اجتماعية".

فهذا التعريف نفسه يدين الحكومة الأمريكية المنافقة بالإرهاب، وعلى مستوى مكثف ودولي، عبر ما يزيد عن مئة عام. فالولايات المتحدة خرقت القانون الدولي وميثاق جنيف مرات كثيرة باستخدامها الوحشي للعنف والقوة و العنف المروع "ضد اشخاص وممتلكات لتخويف وإجبار حكومات وسكان مدنيين على تأييد أهداف سياسية واجتماعية واقتصادية بشكل خاص".

سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تحاول دائما أن تتغطى بالرياء، ما دامت تستطيع ذلك. ولذلك فإنَّ استخدام القوة الغاشمة، والمتاجرة بالسلاح، وتعميم القتل، والتغطية على جرائم الكيان الصهيوني، وتبرير سياسته الإرهابية، يترافق مع الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان .

شكلت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بوصفها حدثاً تاريخياً تَغْيِيرِياً مُهِماً في عموم العالم الإسلامي، دافعاً نضالياً سياسياً قوّياً للحركات الجهادية الإسلامية في فلسطين، ولبنان، وعموم العالم العربي، لكي تبلور مشروعها الجهادي من خلال التركيز على أن الإسلام هو المفجر لطاقات الأمة والمحرك لها، وأن الكفاح المسلح هو طريق تحرير فلسطين. فالثورة الإيرانية التي أسقطت أهم قلعة من قلاع الإمبريالية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وهي إيران الشاه، كانت ثورة شعبية عميقة تضاهي في حدثها ومدلولاتها الثورات الكبرى التي حصلت في القرن العشرين، ولاسيما الثورتين الروسية والصينية .
وهذا ليس غريبا. إنَّها طبيعة الدولة الإمبريالية. ولم يشذ عن هذا إلا الدول الرأسمالية العاجزة عن استخدام قوتها، وبالتالي التفنن في ريائها .

في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: "الجهاد الأمريكي من كابول إلى إسطنبول، الصادر حديثًا عن اتحاد الكتاب العربي في دمشق (سبتمبر 2023)، والمتكون من مقدمة وأربعة فصول، وخاتمة، ويضم حوالي 199 صفحة من القطع المتوسط، يطرح فيه سفير الجمهورية اليمنية بدمشق، الدكتور عبد الله علي صبري، مجموعة من الأسئلة تتعلق بالتنظيمات الإرهابية المتطرفة، التي تنشر التكفير وثقافة الكراهية داخل المجتمعات الإسلامية، وتحشد طاقات الشباب تحت راية الجهاد القتالي، ثم تزعم أنها تنتصر للإسلام بالقتل والتوحش، وإقصاء الآخر.

فكيف نشأ هذا التطرف المنسوب زوراً وبهتاناً إلى الإسلام والشريعة المحمدية؟ ولماذا أمكن لثلة من الأصوليين والراديكاليين أن يؤسسوا جماعات إرهابية عابرة للحدود؟ وما هي المناخات السياسية الدولية والإقليمية التي ساعدت على صناعة الوحش، وجعلت منه أداة طيعة في خدمة الأجندة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، حتى وهي تحشد وتجند مختلف الإمكانات لتخوض غمار ما يسمى بالحرب على الإرهاب؟

ما قصة الجهاد في أفغانستان، وكيف نشأت طالبان والقاعدة في كابول؟ ولماذا غدا المجاهدون العرب مجرد إرهابيين في نظر العالم والأجهزة المخابراتية التي جندتهم في الحرب مع الاتحاد السوفييتي؟ وما العوامل التي ساعدت على تناسل تنظيم قاعدة الجهاد وانتشاره في كثير من دول العالم؟ وما الذي استجد حتى تراجع التنظيم نسبياً، لصالح تنظيم جديد يدعى داعش؟

ما هي داعش، وكيف قامت دولتها في غفلة من الزمن؟ وكيف سقطت، وبأي ثمن؟

تطول قائمة الأسئلة، وتطول معها السطور والصفحات التي تحاول البحث في تفكيك المشهد الدامي والدراماتيكي في العالم العربي والإسلامي، الذي تصاعدت حدته منذ قيام ما يسمى بثورات الشباب والربيع العربي، التي بفشلها في معظم الدول، عاشت الأمة العربية ولا تزال مخاضاً مخضباً بكارثة عنيفة تهدد الحدود والوجود، وتشي بمستقبل قاتم ما لم يفتح الله لأمتنا باباً من أبواب رحمته.

القاعدة وأمريكا في لعبة المجابهات الإقليمية والدولية

شكلت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بوصفها حدثاً تاريخياً تَغْيِيرِياً مُهِماً في عموم العالم الإسلامي، دافعاً نضالياً سياسياً قوّياً للحركات الجهادية الإسلامية في فلسطين، ولبنان، وعموم العالم العربي، لكي تبلور مشروعها الجهادي من خلال التركيز على أن الإسلام هو المفجر لطاقات الأمة والمحرك لها، وأن الكفاح المسلح هو طريق تحرير فلسطين. فالثورة الإيرانية التي أسقطت أهم قلعة من قلاع الإمبريالية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وهي إيران الشاه، كانت ثورة شعبية عميقة  تضاهي في حدثها ومدلولاتها الثورات الكبرى التي حصلت في القرن العشرين، ولاسيما الثورتين  الروسية والصينية .

في تلك الفترة التاريخية، كانت هناك ظروف صعبة فرضت على الاتحاد السوفييتي السابق أن يدخل أفغانستان  في 27 ديسمبر 1979، حين سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى نقل المعركة الدينية إلى داخل الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي جعل هذا الأخير يوجه الضربة عبر نقل المعركة الاشتراكية إلى داخل مجموعة دول إسلامية متخلفة، مثل باكستان وأفغانستان في عقد السبعينيات من القرن الماضي  .

في صبيحة 23 أكتوبر سنة 1983، تلقت قوات المارينز الأمريكية، وجنود المظليين الفرنسيين، ضربة موجعة، من خلال تفجير مقريهما في بيروت، وسقوط ثلاثمئة قتيل ونيف من جراء هذا الهجوم على قوات الحلف الأطلسي (256 من جنود المارينز الأمريكيين، و58 من جنود المظليين الفرنسيين). وقد شكل ذلك الهجوم من جانب المقاومة اللبنانية المدعومة من قبل إيران وسوريا صدمة كبيرة للغرب، لأنه أظهر مدى التزام إيران بنهج المقاومة ضد "الشيطان الأكبر" الأمريكي، في هذه الأثناء كان الاتحاد السوفييتي "امبراطورية الشر" في نظر الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان، يواجه في أفغانستان مقاومة متشكلة من أحزاب المجاهدين .

وقتئذ، سادت في واشنطن فكرة ترمي إلى أن تدفع موسكو غاليا ثمن تدخلها في أفغانستان، وفي الوقت عينه توجيه الراديكالية الإسلامية ضد الشيوعية. واقتضت الخطة الأمريكية تشجيع راديكالية إسلامية سنية تدعي تطبيقاً تاماً للشريعة الإسلامية وتتحاشى الحديث عن أي نوع من "ثورة إسلامية". وكان في ذلك مصلحة أكيدة للمملكة العربية السعودية الراغبة في تدعيم شرعيتها الإسلامية المحافظة والتقليدية  في مواجهة راديكالية الثوة الإسلامية الإيرانية. أما الدوائر الباكستانية فكانت تبيت (وماتزال) نيات أكثر طموحاً تقضي بلعب الورقة الإسلامية السنية من أجل السيطرة على أفغانستان وتحقيق اختراق في اتجاه آسيا الوسطى.

أسهمت استراتيجية الحرب الباردة العالمية التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى إشعال فتيل الأزمات الإقليمية في العديد من بلدان العالم الثالث، ولعل أبرزها الأزمة الأفغانية ، التي تعتبر بحق من إفرزات هذه الحرب الباردة ومخلفاتها.
لقد خطط للعملية كل من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ورئيس جهاز المخابرات السعودية آنذاك (الأمير تركي بن فيصل) وجهاز المخابرات الباكستاني، علماً أن هذا الأخير هو الوحيد الذي أبدى استعداداً لـ "التورط". فوكالة الاستخبارات الأمريكية التي كوتها الحروب السرية في فيتنام ولاوس لم تكن ترغب بتكليف أي من عملائها على الأرض مباشرة.

أما بالنسبة للسعوديين فقد تعودوا تلزيم أشغالهم إلى الآخرين، سواء في مسائل الدفاع الوطني أو في قيادة سياراتهم الروزرويس. فعهد بالمهمة إذا إلى تنظيمات الإخوان المسلمين  العرب، وإلى حزب "الجماعة الإسلامية" الباكستاني، الذي تحدر منه العديد. وهكذا، وابتداء من أواخر عام 1984، انطلق ألوف من المجاهدين الإسلاميين من الأكثر حماسة في الشرق الأوسط في اتجاه أفغانستان. وقد نسق عملية تجنيدهم أحد الأثرياء السعودييين هو السيد أسامة بن لادن، كما تعهد الاهتمام بهم "مكتب الخدمات" في بيشاور، وهي هيئة يديرها السيد عبد الله عزام، أحد الإخوان المسلمين الأردنيين، الفلسطيني الأصل والذي اغتيل في ظروف غامضة في سبتمبر 1989. هؤلاء المتطوعون الذين باتوا يعرفون بـ "الأفغان" هم بشكل عام معارضون جاؤوا من أنحاء الشرق الأوسط و شمال إفريقيا.

في معرض تحليله لهذا الأحداث يقول الدكتور عبد الله علي صبري: "قرر اجتماع (الأمن القومي الأمريكي في نهاية عهد الرئيس كارتر) إشراك ثلاث دول إسلامية في تنفيذ المخطط وهي: مصر السعودية وباكستان، بحيث تكون الدول الثلاث مساندة لبعضها وتحت إشراف وتوجيه أمريكي. وتقرر اختيار مصــر نـظـراً لعوامل كثيرة منها أن السادات "أصبح متحفزاً للعمل مع أمريكا لأن لديه اعتقاد أنَّ 99 % من أدوار حل قضية الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة وحدها". وكانت علاقة مصر بأمريكا قد دخلت طوراً جديداً بعد أن أدارت القاهرة ظهرها للاتحاد السوفييتي وللعالم العربي واتجهت للسلام مع "إسرائيل" ووقعت معها اتفاقية كامب ديفيد برعاية أمريكية محضة.

وهكذا انتهت مداولات مجلس الأمن القومي الأمريكي بتوجيه رئاسي يقضي بـ:

أن يتوجه مستشار الرئيس للأمن القومي "زيجينيو برجينسكي" إلى منطقة الشرق الأوسط بادئاً بالقاهرة لمقابلة الرئيس أنور السادات، والبحث معه في تنظيم جهد إسلامي شامل يساند المقاومة الإسلامية الأفغانية في مواجهتها لجيش الاحتلال (السوفييتي).. ثم يتوجه برجينسكي بعد القاهرة إلى الرياض لمقابلة الملك خالد لإجراء محادثات مع السعودية تضمن حشد موارد السعودية ونفوذها لقيادة (جهاد إسلامي) ضد الشيوعية في أفغانستان، وأخيراً يتوجه إلى باكستان ليقوي موقف الحكومة فيها، بموارد السعودية ونفوذها، وبثقل مصر ووسائلها.. وهكذا كان.!

اللافت أن الخطة الأمريكية حظيت باستجابة سريعة من رؤساء الدول الإسلامية الثلاث، مما سهل عملية الانتقال إلى البحث في التفاصيل، وبالأخص ما يتعلق بالتمويل. وفي زيارة برجينسكي للسعودية وبعد أن كان السادات قد استجاب للخطة الأمريكية مادامت مصر لن تتكلف شيئاً بل قد تستفيد... تم الاتفاق على الآتي:

1 ـ إنشاء "صندوق الجهاد" بمبلغ مليار دولار يتجدد تلقائياً بمقدار ما يصرف منه، وبتمويل مشترك وبالتساوي بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية.

2 ـ تتولى السعودية الاتصال بقيادات (الجهاد الإسلامي) في أفغانستان وخارجها بحيث يكون الوسيط (إسلامياً).!

3 ـ تختص مصر بتوريد الأسلحة والمعدات والذخائر مما لديها من أسلحة سوفييتية الصنع والنوع، بالإضافة إلى توفير الدعم الديني والسياسي والإعلامي.

وتنفيذاً للاتفاق أنشأت السعودية مكتب الخدمات العامة واشتغل فيه عبدالله عزام وأسامة بن [لادن] ليكون الواجهة بدل المخابرات.. وكانت مهمة هذا المكتب أن ينظم الدعوة ويستقبل المتطوعين ويرتب إقامتهم في السعودية حتى تتم إجراءات إلحاقهم بصفوف (المجاهدين)، وأهم هذه الإجراءات سحب جوازات سفرهم الأصلية وتزويدهم ببطاقات خدمة معها تصريحات مرور خاصة تمكنهم من السفر إلى باكستان والوصول إلى بيشاور، حيث يوجد مكتب لتوزيع الوافدين على مواقع (الجهاد) في أفغانستان.!

وباشرت مصر تنفيذ الشق المطلوب منها، وتحول مطار قنا العسكري "إلى قاعدة للتخزين وإمداد العمل الجهادي. وينقل هيكل عن "جون كولي" في كتابه "حروب غير مقدسة" أن طائرات الشحن الأمريكي العملاقة كانت تهبط في مطار "قنا" كل مساء، ويجري تحميلها بالأسلحة والذخائر لكي تطير قبل منتصف الليل، وتهبط قبل الفجر في المطارات العسكرية الباكستانية. وهكذا اشتعل العالم العربي والإسلامي بدعوات الجهاد في أفغانستان، وظهرت الفتاوى والبرامج الإعلامية والحشد على المنابر، وصولاً إلى التبرع من أجل حماية "بقية الإسلام" في أفغانستان (صص 60 ـ61).

حرب الخليج الثانية وانقلاب السحر على الساحر

أسهمت استراتيجية الحرب الباردة  العالمية التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية  إلى إشعال فتيل الأزمات الإقليمية في العديد  من بلدان العالم الثالث، ولعل أبرزها  الأزمة الأفغانية ، التي تعتبر بحق من إفرزات هذه الحرب الباردة ومخلفاتها.

والحق، أنَّ الحرب الباردة أسهمت بقسطها في هذه الأزمة الأفغانية، لاسيما عندما شجعت الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة الحركات الإسلامية الأصولية على محاربة الغزو السوفياتي لأفغانستان في حقبة الحرب الباردة، وقدمت لها كل الدعم المالي والعسكري في إشاعة تلك الأنماط من الإرهاب ذي الاستقلال الذاتي الذي تكلل بحركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة".

عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية انقلب السحر على الساحر، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية وأطرافا عربية دعمت حركة الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي، اكتشفت إبان أزمة الخليج أن هناك تغييراً جذرياً طرأ على الإسلام السياسي، إذ برز مظهر جديد احتجاجي مناهض للسياسة الأمريكية في المنطقة ومساند للعراق. وقد وجد هذا الإسلام السياسي الراديكالي المناهض للغرب وللدول العربية الصديقة له، سنداً قوياً في الجمعية الإسلامية الباكستانية وحكمتيار، والثري السعودي المنشق أسامة بن لادن، والذين أصبحوا جميعاً ينادون بالجهاد ضد الأمريكيين .

ليس من شك أن الولايات المتحدة انتصرت في الحرب الباردة، لكن زهوة النصر هذه جعلتها لم تفهم  حقيقة وطبيعة العلاقات الدولية المستجدة ولا التفاوت الجذري بين نظرة الاكتفاء إلى ذاتها ونظرة بقية الأمم والشعوب في العالم إليها. فالولايات المتحدة رفضت أن تبلور مواقفها بما يتلاءم وحقائق مرحلة مابعد الحرب الباردة فبدلاً من أن تفكك، بنيتها الإمبراطورية الفائقة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، استمرت الولايات المتحدة في انتهاج سياسة خوض الحروب لتركيع الدول التي تعارض سياستها.

 وتجلى ذلك على الصعيد العسكري في الحرب الأمريكية ضمن إطار التحالف الدولي التي شنتها الولايات المتحدة ضد العراق عام 1991. إذ أثار هذا الوجود العسكري المكثف للجيش الأمريكي فوق الأراضي العربية في بلدان الخليج، خاصة السعودية، استياء كبيرا لدى شعوب المنطقة، التي تبدي حساسية  شديدة  تجاه الصفاء الديني، والأماكن المقدسة، والثقافة الإسلامية، والسيادة الوطنية.

ثم جاءت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر2001 لتشكل نقلة نوعية بالغة الأهمية في أشكال وآليات الصراع الدولي، وتسببت في إعادة تشكيل السياسات الخارجية للدول الكبرى، بما يتضمنه ذلك من إعادة تعريف دور أدوات هذه السياسات، ولاسيما الأداة العسكرية، وبالذات الولايات المتحدة. وكان من أبرز نتائج هذه التطورات أنها دفعت الإدارة الأمريكية إلى وضع هدف مكافحة الإرهاب ومعاقبة الدول التي ترعاه باعتباره الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية. وهذه هي المرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة التي تضع الولايات المتحدة لنفسها هدفاً محدداً يكون محور التركيز الكامل لسياستها الخارجية، حيث كان التركيز الرئيسي للسياسة الخارجية وسياسة الأمن القومي للولايات المتحدة في فترة الحرب الباردة ينصب على محاربة الشيوعية وردع الاتحاد السوفييتي السابق، مما يعني أن الإدارة الأمريكية وضعت هدف الحرب ضد الإرهاب في نفس المكانة التي كان يحتلها هدف محاربة الشيوعية في فترة الحرب الباردة.

تمثل أحداث 11 سبتمبر 2001 تطوراً نوعيًا في الإرهاب الجديد الي يمثل في واقع الأمر الجيل الثالث في تطور الظاهرة الإرهابية في العصر الحديث. فالجيل الأول كان عبارة عن موجات الإرهاب ذات الطابع القومي المتطرف، التي اجتاحت أوروبا، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وحتى عقد الثلاثينيات. أما الجيل الثاني، فهو عبارة  عن موجات الإرهاب ذات الطابع الأيديولوجي أثناء الحرب الباردة، وكانت في جوهرها أداة من أدوات إدارة الصراع بين الشرق و الغرب، حيث نشأ العديد من الحركات الإرهابية اليسارية في أوروبا الغربية واليابان، مثل (بادر ماينهوف الألمانية، والعمل المباشر الفرنسية، والألوية الحمراء الإيطالية، والجيش الأحمر الياباني)، ومارست شكلاً من العنف الأيديولوجي ضد مجتمعاتها.

أما الجيل الثالث الحالي، فهو إرهاب يتسم بخصائص متميزة ومختلفة عن إرهاب العقود السابقة من حيث التنظيم والتسليح والأهداف. فمن حيث التنظيم ، تتسم جماعات الإرهاب الجديد بغلبة النمط العابر للجنسيات والحدود، حيث تضم أفرادا ينتمون إلى جنسيات مختلفة، ولا تجمعها قضايا قومية، ولكن تجمعها أيديولوجية دينية أو سياسية محددة، كما تنتقل هذه الجماعات من مكان إلى آخر، مما يجعل من الصعب متابعتها أو تعقبها أو استهدافها...، أخير، فإن الإرهاب الجديد أصبح قادراً على استخدام منظومات  تسليحية أكثر تطوراً وتعقيداً، بما في ذلك أسلحة  الدمار الشامل، الكيماوية والبيولوجية، والنووية و الاشعاعية.

الولايات المتحدة رفضت أن تبلور مواقفها بما يتلاءم وحقائق مرحلة مابعد الحرب الباردة فبدلاً من أن تفكك، بنيتها الإمبراطورية الفائقة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، استمرت الولايات المتحدة في انتهاج سياسة خوض الحروب لتركيع الدول التي تعارض سياستها.
الزعيم التاريخي  لتنظيم "القاعدة" يعتمد على مراجع دينية في صورة حصرية، لا سيما محورية أفكار ابن تيمية في الفكر التكفيري، وهو ما أكده الدكتور رضوان السيد في كتابه الفريد "الصراع على الإسلام" حيث يصف تلك الجماعة الصغيرة التي تعتبر الإيمان قاصراً عليها بأنها تتسلح "إلى جانب الحديد والنار بآيات من القرآن أو شذرات من ابن تيمية وابن كثير والمودودي وسيد قطب.

في تحليله لهذه العلاقة الملتبسة بين أمريكا والتنظيمات الإرهابية يقول الدكتور عبد الله علي صبري: ولأنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" بدا العالم متضامناً مع أمريكا الجريحة، ولم يكن هناك متسع لمن يريد أن يتقصى حقيقة ما حدث، أو يعمل على التخفيف من حدة ردة الفعل الأمريكية وعقلنتها، فيما بدت واشنطن وهي تتعاطى مع الحدث ومفاعيله وكأنها تغتنم فرصة قد لا تتكرر يتعين استغلالها بهدف تعزيز نفوذ أمريكا وهيمنتها على العالم، والسيطرة على صنابير النفط في منابعها الرئيسة، حتى إن بعض الافتراضات ما تزال تنظر إلى المخابرات المركزية الأمريكية كفاعل رئيس في ذلكم الحدث.

في كتابه المهم "الزمن الأمريكي.. من نيويورك إلى كابول"، حاول المفكر والصحفي العربي الراحل محمد حسنين هيكل أن يقدم قراءة مختلفة لأحداث 11 سبتمبر/ أيلول، وبخبرته الصحفية الكبيرة حشد في كتابه كماً كبيراً من المعلومات الموثقة التي أجاد توظيفها وهو يغوص بالقارئ في دهاليز السياسة الدولية، ويعرج على أروقة البيت الأبيض حيث تطبخ القرارات والتوجهات التي ترسم ملامح العهد الدولي الجديد أو "الزمن الأمريكي" حسب تعبيره.

إلا أن ما لفت نظري أن الكتاب قد كشف بجلاء عمق الارتباط الاستخباراتي بين الولايات المتحدة الأمريكية وتنظيم القاعدة الذي اعترف بالضلوع في تفجيرات 11 سبتمبر وتوعد بالمزيد منها. وإذا كان المراقبون ينظرون إلى علاقة أمريكا بالمجاهدين الأفغان باعتبارها نقطة التقاء بين طرفين يجمعهما عدو واحد هو الاتحاد السوفييتي سابقاً، فإن كتاب هيكل قد كشف أن المسألة أكبر من مجرد تعاون بين طرفين وأن صناعة "الوحش" قبل التخلص منه جرت بحرفية عالية، وباشتراك ثلاث دول إسلامية كبرى وهي: مصر السعودية وباكستان.!

لماذا؟ وكيف دعمت أمريكا "الجهاد الإسلامي" ضد "الإلحاد الشيوعي"؟ وما العوامل التي جعلت "أفغانستان" مسرحاً للحرب وقبلة للمجاهدين العرب؟

وهل كانت "واشنطن" تتوقع أن ينقض عليها الوحش الذي صنعته بيديها، بعد أن تخلصت منه؟ وبالطبع، فإن الغوص في التفاصيل قد يقودنا إلى تشعبات خارج الإطار المطلوب، ولذا فإن محاولة الإجابة عن الأسئلة أعلاه تأتي بغرض بيان العلاقة الخفية بين أمريكا والتنظيمات الإرهابية المحسوبة على الإسلام، وكيف أن مفهوم الجهاد الإسلامي قد خرج عن جوهره، وانحرف عن مقصده بشكل مريع، وبسبب هذا الاستخدام المشبوه"(ص 56).
التعليقات (1)
الضلال
الإثنين، 25-09-2023 01:05 م
خلق بريجنسكي الصهيوني فزاعة الإرهاب لمحاربة الشيوعية وبعدها محاربة الإسلام والمسلمين، ليت عنوان الكتاب كان" جهاد الصهاينة " لأنه جهاد حقا بينما نحن حذفنا الكلمة تماما و أصبحنا نخاف من ظل الشمس