عقدت اللجنة المالية العليا لتنظيم الإنفاق والإيرادات اجتماعها
الأول في سرت، ومن المتوقع أن تعقد اجتماعها الثاني خلال الأيام القادمة. وساد جو
من الوفاق بحسب تصريحات رئيس اللجنة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ولأن
المنفي يدرك أن السياسة يمكن أن تشوش على أعمال اللجنة فقد حرص على التركيز على
الطبيعة الفنية للجنة وأكد على أهمية تحييد أعمالها واتجاهها إلى تحييد المال
العام عن الصراع.
المنفي ربما يدرك أن هذه الغاية، وهي تحييد المال العام عن الصراع،
تحدي كبير ولا ضمانة لتحقيقه في ظل التدافع الراهن والصراع القائم. ذلك أن تشكيل
اللجنة بالأساس جاء لتلافي ضغوط مارستها الجبهة الشرقية، جبهة طبرق ـ الرجمة، وأن
هذه الضغوط تتعلق بصلب الصراع وهو استئثار حكومة الوحدة الوطنية والمصرف المركزي
بإدارة المال العام، تحصيلا وإنفاقا، وليس حرمان مناطق الشرق والجنوب منها كما
تدعي تلك الأطراف.
من المهم التأكيد على أن انتقاد جبهة طبرق ـ الرجمة بخصوص موقفها من
إدارة المال العام لا يعني صك براءة لحكومة الوحدة الوطنية من سوء إدارة المال
العام والهدر والفساد الذي بات لا يخفى على أحد. لكن لا يمكن اعتبار بكائية طبرق
الرجمة حرصا على المال العام وتميزا في إدارته وأنهما أجدر من حكومة الوحدة في تنظيم
الإنفاق العام وضبطه، فتجربة السنوات الطوال منذ العام 2014م تثبت أن جبهة طبرق ـ
الرجمة تورطت في سوء إدارة وهدر وفساد ربما يوازي ما وقعت فيه حكومة الوحدة.
الحرمان الاقتصادي والاجتماعي لفئة واسعة من المجتمع من ثروة البلاد ليس هو المحرك الأساسي للخلاف حول عوائد النفط، بل هو التدافع السياسي ومراكمة أدوات القوة والسطوة والتي يأتي في مقدمتها المال،
اللجنة في الحقيقة تشكلت في ظرف استثنائي وبضغوط من جبهة الشرق التي
سعت ولا تزال للهيمنة على القرار المالي تارة من خلال السلطة التشريعية والضغوط
السياسية التي ركزت على إقالة محافظ المركزي ورئيس الحكومة، لكنها لم تنجح، واتجهت
إلى الخيار العسكري لتحقيق غاياتها في أبريل 2019م ومنيت خطتها بالفشل، فكان
الخيار البديل بعد ذلك الضغوط عبر تعطيل المسار السياسي وإقفال
النفط لدفع الاطراف
الدولية والمحلية للاستجابة لمطالبها في إنهاء استئثار جبهة الغرب ممثلة في
الحكومة والمصرف المركزي بإدارة
عوائد النفط، والحصول على حصة من تلك العوائد.
بلا أدنى شك يوجد خلل في مقاربة
توزيع الدخل على الليبيين نتيجتها
غياب العدالة في ذلك، واستفادة قلة قليلة بدرجة كبيرة من أموال الليبيين على حساب
المجموع العام، غير أن الحرمان الاقتصادي والاجتماعي لفئة واسعة من المجتمع من
ثروة البلاد ليس هو المحرك الأساسي للخلاف حول عوائد النفط، بل هو التدافع السياسي
ومراكمة أدوات القوة والسطوة والتي يأتي في مقدمتها المال، ومعلوم أن المشروع
العسكري في شرق البلاد يواجه مشاكل تتعلق بنقص التمويل، فيما تتمتع جبهة الغرب
ببحبوحة في ذلك.
وهذا ما يمكن أن يلقي بظلاله على عمل اللجنة، فاللجنة تشكلت في ظل
صراع على القرار والنفوذ المالي، وهي إفراز لضغوط تقاسم عوائد النفط، وإن اتجهت
إلى تقارب بين أعضائها قائم على تحييد المال العام من الصراع ونجحت في الوصول إلى
اتفاق يمنع الهدر وسوء إدارة الإيرادات، فإنها ستواجه عرقلة من مراكز القوى في
جبهتي الصراع شبيهة بتلك التي واجهتها لجنة 6 زائد 6، التي نجحت في تخطي خلافات مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة عبر توافقها
على قوانين الانتخابات لتواجه عرقلة من تلك الأجسام لاحقا، أو إحداهما على الأقل.
اللجنة في حال وقعت في مصيدة مطالب تقاسم عوائد النفط والإيرادات
العامة فسيكون نتاج عملها مؤججا للصراع وليس العكس، وفي حال اتجهت إلى مقاربة فنية
ومالية محكمة لمنع الهدر والفساد فستواجه رفضا وصدودا، وهذا ما يدعو إلى ضرورة
تغيير اتجاه البوصلة عبر تحقيق التوافق الشامل الذي يفضي إلى معالجة الانسداد
الحالي بإجراء الانتخابات، ويفرض أداة معالجة الملفات الكبرى المتعلقة بشكل الدولة
وطبيعة النظام السياسي والعدالة في توزيع الدخل..الخ، وهي الدستور.