أيّ حدث هذا، قام به فتى
مصري من سلك الشرطة يعمل على
الحدود بين مصر وفلسطين، هزّ مصر وفلسطين وبلاد العرب والمسلمين هزاً مذهلاً
شديداً، سيترك بصماته على قلوب الملايين. ويكفي أن نتابع ما حدث في
جنازته من حشدٍ
جماهيري، وما قامت من تظاهرات لتحيته في مصر وقطاع غزة، ناهيك عما تداوله عشرات
الملايين، وهم يقفون أمام الحدث الذي قام به.
لقد أصروا على إخفاء اسمه، لسبب غير معلن، وفي الأغلب
ليحرموه من أن
يُصبح أيقونة على كل لسان، مصريّ وفلسطينيّ وعربيّ وإسلاميّ
وعالميّ. ولكن هذا ضربٌ من الوهم، إذ سرعان ما سيُعرَف، وينال الشهرة التي يستحقها
باسمه، واسم عائلته، واسم قريته أو مدينته. فقد حمل وسام الشهيد قبل أن يُعرَف
اسمه، وأخذ الجميع يتحدث عن مأثرته ومعناها ومدى تأثيرها، باعتبارها بداية لمرحلة
تاريخية جديدة، في مقاومة الكيان الصهيوني، وفي عملية تحرير فلسطين، وفي ما أعادت
التذكير به من عظمة الشعب المصري، ودور شعب مصر العربي والثوري والنهضوي. وبالفعل، لقد انكشف اسم الشهيد: "محمد صلاح".
أما التفاصيل التي ذكرت حول هذه العملية، فتدلّ على أن
هذا الجندي
أعدّ لها على مدى أسابيع وأشهر؛ لأن الوصول إلى الهدف كان يحتاج إلى
قطع مسافة خمسة كيلومترات، وتجاوز الحاجز الحدودي من دون أن ينكشف، من نقطة هي تحت
المراقبة والأنوار والكاميرات، حتى يصل إلى هدفه كشبحٍ لا يُرى، وقد وصله مبتدئاً
بقتل جندي وجندية، فأخفاهما بانتظار الدورية التي ستأتي بحثاً عنهما، وذلك
للاشتباك معها بعملية ثانية، احتاجت إلى ست ساعات من الترقب والاستخفاء والصبر،
لتأمين قتل آخر وجرح جنديين من الدورية التي وقعت في كمينه، وذلك قبل أن يرتقي
شهيداً. وبهذا أتمّ عمليته الاستثنائية الثانية، مشتبكاً بدورية معززة بالدرون
وطوافة عسكرية، الأمر الذي يشهد له بالذكاء وقوة الإرادة والمهارة، إلى جانب
الشجاعة والإقدام، ونيل الشهادة حاملاً سلاحه بيد، والقرآن الكريم باليد الأخرى.
كان الكيان الصهيوني قد ابتدع جريمة إخفاء جثث
الشهداء، وإعطاء أرقام بدل أسمائهم، خوفاً من التفاف الجماهير حول جثامينهم في
جنائزهم. أما اليوم فبدعة التكتم على اسم الشهيد، ولو ليومين، خوفاً من تحية
الملايين للشهيد باسمه، هي البدعة الجديدة التي ستفشل، ولن تحقق ما أُريدَ منها.
إن كل ما تقدم هو تمهيد لما يجب أن نتوقف عنده، في
قراءة هذه العملية التي أنزلت ضربة بالجيش الصهيوني من حيث لم يحتسب. فأول مغزى
وعبرة أنها جاءت من جندي مصري لتخرق المعاهدة المصرية-
الإسرائيلية لعام 1979،
والتي أخرجت مصر من الصراع، وذهبت للاعتراف بدولة الكيان الصهيوني غير الشرعي
وتبادل السفراء معه، والحث على
التطبيع، إن أمكن.
رفض الشعب المصري التطبيع، وراح يعبّر بأشكال مختلفة عن رفضه لتلك المعاهدة، أو للتطبيع، ولكن من دون أن يتبع ذلك ضجة حتى نسي الكثيرون حقيقة ذلك الموقف الشعبي، بانتظار هذه العملية التي وقعت فجر الثالث من حزيران/يونيو 2023. فقد جاءت مدويّة
وقد رفض الشعب المصري التطبيع، وراح يعبّر بأشكال
مختلفة عن رفضه لتلك المعاهدة، أو للتطبيع، ولكن من دون أن يتبع ذلك ضجة حتى نسي
الكثيرون حقيقة ذلك الموقف الشعبي، بانتظار هذه العملية التي وقعت فجر الثالث من
حزيران/يونيو 2023. فقد جاءت مدويّة، لتذكر وتُسمِع، وتُبشِّر، وتُنذِر.
فهذا الحدث ليس بعابر، ولن يكون مجرد قتل لثلاثة من
جند العدو فحسب، وإنما هو بداية لمستقبل عربي عام، لا سيما في مصر، كما هو مشجّع
لكتيبة جنين وعرين الأسود، وبقية أسود القدس والضفة الغربية، وقطاع غزة، بأنهم
ليسوا وحدهم. وهذا ما عبّرت عنه الحماسة الشعبية التي استقبلته بها تظاهرات قطاع
غزة، قاعدة المقاومة الجبارة.
إن مسألة تأثير
العمليات في ملايين الأفراد، نساءً
ورجالاً، شاباتٍ وشباباً، كما كيفية تأثر الجماهير بها، كما في تشكل مخزون الوعي
الشعبي. والممارسة القادمة بعد حين، أو بعد ردحٍ من الزمان، لا تُطرح للبحث
المُدَقق في علوم الاجتماع المشغولة بظواهر أخرى، لهذا فإن دراسة هذه المسألة هي
من واجب الوعي الثوري والتغييري، لتصبح بمنزلة العلم والمعرفة الصحيحة.
ومن هنا فإن تأثير هذه العملية، لاحقاً، من حيث هوية
منفذها، ومن حيث قُطره العربي، كما من حيث انتسابه العربي والإسلامي، واندراجه كحرّ
من أحرار العالم، سوف يضاعف من أهميتها، وما ستحمله من أبعاد. طبعاً هذا لا يلغي
أثرها في المعركة الراهنة بين المقاومة المتصادمة والكيان الصهيوني في فلسطين، كما
على مستوى الصراع الراهن الدائر في منطقتنا العربية- الإسلامية في غربي آسيا
وجنوبي المتوسط وشمالي أفريقيا، وأفريقيا.
تأثير هذه العملية، لاحقاً، من حيث هوية منفذها، ومن حيث قطره العربي، كما من حيث انتسابه العربي والإسلامي، واندراجه كحرّ من أحرار العالم، سوف يضاعف من أهميتها، وما ستحمله من أبعاد
ثمة تأثير عميق لهذه العملية في هزّ معنويات الكيان
الصهيوني، وتقديره العام للموقف، وما يجب أن تثيره من خوف من ميزان القوى الراهن
والمستقبلي الذي أخذ يتشكل ضده، وهو الذي عاش زمناً طويلاً في ظل موازين قوى في
مصلحته. وقد راحت رياح موازين القوى تهبّ ضده، منذ مطلع القرن الجاري، فكيف سيكون
حاله إذا دبت في عروقه المخاوف من مستقبل مصر؟
أما من يجب أن يتوقفوا أمام هذا الحدث، فمجموعة من
النخب الفلسطينية والعربية التي أسقطت من حسابها الآفاق المفتوحة أمام المقاومة
الفلسطينية، وإمكان اتسّاع الالتفاف حولها، بما يتجاوز أيضاً ما تلقاه من دعم محور
المقاومة.
فهذا الحدث الكبير يدخل ضمن إطار المقاومة المسلحة
بعامة، فهو عملية مسلحة بحد ذاته، ولكنه ومنذ اليوم الأول والثاني تحوّل إلى تظاهرات
شعبية، ورأي عام أيضاً، لا يمكن تجاهلهما، الأمر الذي يجعل تلك المجموعة من النخب،
ألا تنهج نهجاً خاطئاً، حين لا ترى أهمية المقاومة في مواجهة تناقض لا يُحلّ إلاّ
بالمقاومة المسلحة، وما يجب أن يتشكل حولها من قوى مؤيدة وداعمة، ولو كان لها نقد
عليها هنا وهناك.
حقاً كيف يجب أن نقرأ عملية هذا الفتى المصري العربي
الفذ الذي اسمه محمد صلاح.