كتب

كيف تعاملت بريطانيا مع الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936- 1939؟

لم يكن للمشروع الصهيوني أن يتحقق في فلسطين لولا الدعم البريطاني غير المحدود له
لم يكن للمشروع الصهيوني أن يتحقق في فلسطين لولا الدعم البريطاني غير المحدود له
لم يكن السكان اليهود في فلسطين حتى منتصف القرن التاسع عشر يمثلون أكثر من ثلاثة بالمئة من الفلسطينيين العرب أو يملكون أكثر من واحد بالمئة من الأراضي الفلسطينية، وعلى الرغم من تزايد عمليات الهجرة اليهودية عقب تأسيس الحركة الصهيونية في أواخر ذلك القرن، لم يكن المشروع الصهيوني أن يتحقق لولا الدعم البريطاني غير المحدود له، مقابل السعي البريطاني لإجهاض أي جهد فلسطيني أو عربي لمواجهة هذا المشروع.

في هذا السياق، يأتي كتاب "الاستعمار البريطاني وإجهاض الثورة العربية الكبرى في فلسطين (1936 ـ 1939)"، للدكتور ماثيو هيوز، ترجمة: مصعب بشير، (مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2021). والكتاب باللغة الإنجليزية بعنوان (Britains Pacification of Palestine The British Army, the Colonial State, and the Arab Revolt, 1936- 1939)، صدر من (Cambridge, MA: Cambridge University Press,2019).

يقدم الكتاب قراءة تاريخية للدور الاستعماري البريطاني في تأسيس الكيان الصهيوني وفي إخماد الثورة العربية الكبري في فلسطين (1936 ـ 1939) التي هبت لمواجهة المشروع الصهيوني الاستيطاني. يعرض الكتاب بالتفاصيل أحداث تلك الثورة استنادًا إلى وثائق وتقارير بريطانية أفرج عنها حديثاً، فضلاً عن بعض الوثائق والمصادر الإسرائيلية، وأخرى عربية، ساعدت جميعها على تقديم رواية مفصلة عن الممارسات الاستعمارية البريطانية الوحشية في فلسطين لوأد ثورة عام 1936، بكل ما تضمنته تلك الممارسات من عمليات قمع وتعذيب وتجويعٍ وقتلٍ واغتيالٍ وإعدامٍ من دون محاكمة، وحرقِ بيوت وحصارِ قرى فلسطينية وقصفها وتدميرها، وزرع الشقاق بين فئات الشعب الفلسطيني... مقابل تقديم كل أنواع الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري واللوجستي والتدريبي إلى المهاجرين الصهاينة لتعزيز استيطانهم وسيطرتهم على الأراضي الفلسطينية.

كما يقدم الكتاب رواية عن تجربة الثورة العربية الكبرى عام 1936 وما تخللها من ممارسات ونقاط ضعف ساهمت في إخمادها، في ظل واقع فلسطيني منقسم ووضع عربي رسمي هش ومرتهن.

يتضمن الكتاب ثمانية فصول (622 صفحة من القطع المتوسط)، فضلاً عن المقدمة والخاتمة والملاحق والمراجع والفهرس.

غطى الفصل الأول "تعريف الثورة العربية الكبري في فلسطين"، التي امتدت بين عامي 1936 و1939، والتي اندلعت شرارتها مساء الخامس عشر من نيسان/ أبريل 1936. ويقسم هيوز مراحل الثورة العربية الكبرى، بالقول: "إن الثورة انطلقت في تشرين الثاني/ نوفمبر 1935 بمصرع عز الدين القسام، أو في عام 1932 بهجوم جماعة القسام بالقنبابل على مستوطنة  "نَهلال"، كما يمكن عد علم 1929 الذي شهد قلاقل بين الفلسطينيين واليهود "عام الصفر"، بل يمكن الرجوع إلى عام 1922 الذي صادقت فيه عصبه الأمم على صك الانتداب البريطاني، أو إلى وعد بلفور عام 1917. كما عرفت مرحلة ما قبل نيسان/ أبريل 1936 نشاطاً لفصائل مقاومة مثل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبد القادر الحسيني، وجماعة "الكف الأخضر".

يورد هذا الكتاب مصطلحات "مواجهة الثورة" (Counter- rebel)، و"مواجهة التمرد"(Counter- insurgency)، و"الحفاظ على النظام في أرجاء الإمبراطورية" (Imperial Policing)، كمترادفات لوصف عمليات الجيش البريطاني في فلسطين ضد فصائل الثوار. أما مصطلح "القمع" (Pacification)، فيشير إلى المعنى الأشمل للإجراءات البريطانية في البلاد التي تضمنت استخدام البنية الفوقية القانونية والسياسية لفرض نظام استعماري بريطاني في فلسطين بعد عام 1917.

وصف البريطانيون فصائل الثوار بأوصاف متحاملة سياسيًا، كعصابات الأرهابيين، والمارقين، وقطاع الطرق، والمُلوط، واللصوص، إضافة إلى النظر بفوقية إلى من سمّوهم "الرعاع المسعورين".

رصد هيوز في الفصل الثاني "حالة الطوارئ في فلسطين الانتدابية"، فقد انتظم القمع البريطاني في فلسطين في سلسلة من القوانين الشاملة المعدة بحنكة لتقييد الفلسطينيين، واعتقالهم وإفقارهم، وشنقهم، وقتلهم، وهدم بيوتهم. وتطرق إلى وصف المحاكم الجزائية، وصدور نظام الطوارئ بدءًا من الساعة التاسعة من مساء 19 نيسان/ أبريل 1936 كـ"إجراء وقائي". ويشير إلى إصدار الاحتلال البريطاني لعده تشريعات منها: "مرسوم سلطات الطوارئ (الدفاع عن المستعمرات) لسنة 1939"، و"قانون سلطات الطوارئ (الدفاع) لسنة 1939".

سلط المؤلف في الفصل الثالث "الثورة والثوار"، الضوء على الثورة العربية الكبرى، فقد رسم الفلاحون الفقراء "المعالم الأساسية" للحركة الوطنية. فقد كان الريف "رحم ثورة الفلاحين" التي دامت ثلاثة سنوات. لقد كان صراع الإرادات بين الإمبراطورية البريطانية والفلسطينيين. فقد "مثل الإضراب العام ومقطاعة البضائع البريطلنية واليهودية، مبدئيًا تهديدًا لبريطانيا بخسارة فادحة لمدخولات خزينة الحكومة المحلية، وبانهيار البنية  التحية للبلاد". وعلى الرغم من ذلك "لم تكن جبهة القتال الفلسطينية موحدة، ولم تكن تسيطر عليها قيادة سياسية ذات استراتيجية واحدة"، "إذ لم تكن هناك قيادة عليا تضع الاستراتيجية العسكرية، كما كان العوام من الفلاحين في بعض الأحيان يخرجون على بريطانيا لقتالها بلا قيادة تُذكر". علاوة على ذلك "كان المال بديلًا هزيلًا لغياب التنظيم السياسي الجيد، لكنه كان وسيلة لدعم العمال المضربين، وتوفير مخصصات للمقاتلين في الميدان، والإبقاء على الجرائد مفتوحة، وتغطية تكاليف الدعاية". لقد جاء التمويل بشكل أساسي "من داخل فلسطين، ومن العالم العربي والإسلامي".

عالج المؤلف في الفصل الرابع "من العصيان إلى قطع الطرق"، التطور العسكري للثورة العربية الكبرى، "في خريف عام 1938 بلغ القتال ذروته في فلسطين عندما سيطر الثوار على البلدة القديمة في القدس (...) وأحكموا قبضتهم على بئر السبع عدة أشهر، وهاجموا الحي اليهودي في طبرية. لقد فقدت الحكومة الانتدابية السيطرة على أجزاء واسعة من جنوب فلسطين، كما توغل الثوار في مدن أخرى". و"أكسب القاوقجي الثورة زخمًا عسكريًا (...) لقد وحد القاوقجي قوى الفصائل المحلية بـ"مختلف قياداتها" من خلال ترشيد توزيعها على ثلاث مناطق حول نابلس وطولكرم وجنين". ولكن هيمن التناحر الداخلي بين الفلسطينيين على مسرح الثورة، فطمس العمل السياسي الثوري، وغطت على أفعال الثوار الحقيقيين. انعكس هذا التناحر سلبًا على العلاقة بين الثوار الوطنيين وداعميهم في سورية ولبنان. فقد تعمقت الهوة، بين الثوار الغارقين في وحل المواجهة مع القوات البريطانية وأولئك الوادعين في دمشق.

على الرغم مما يحمله [الكتاب] من موقف نقدي، أو حتى موقف مضاد للدور الاستعماري البريطاني في تأسيس الكيان الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين، فإن المؤلف لم يستطع أن يتفلّت أو يتحرّر من السردية التي تقدمها المراجع التي اعتمدها حول الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936 ـ 1939، وهي في معظمها مراجع تعود للاستعمار البريطاني نفسه
أما في الفصل الخامس "وصول الأفواج العسكرية"، ركز هيوز، على تحليل العمليات العسكرية والإجراءات القمعية البريطانية في مواجهة الثورة، وكان المحور الرئيسي للفصل الخامس، هو، القوة العسكرية، وقوات الأمن، ولا سيما الجيش، وكذلك البوليس.

في الفصل السادس "تضيق الخناق على السكان"، تطرق المؤلف إلى الإجراءات القمعية التي أفرزتها حالة الطوارئ، واستندت إلى قوانين ومراسيم، وتم تنفيذها على يد الجيش البريطاني.

في الفصل السابع "العملاء والعمل الاستخباري"، فقد تحدث هيوز فيه، عن أساليب جمع المعلومات الاستخبارية التي اتبعتها الحكومة الاستعمارية والجيش بدعم من اليهود والعملاء الفلسطينيين، وأشار إلى إتشاء بريطانيا لـ"فصائل السلام"، كـ"قوات أمنية رديفة موالية للاحتلال ومعادية للثورة لقتال الثوار وإرباكهم".

أشار المؤلف في الفصل الثامن "الحروب القذرة والعنف خارج إطار القانون"، إلى عمليات القمع المركز على السكان، من مذابح، وتعذيب، وانتهاكات جنسية، واغتيالات، والسجن والاحتجاز لأجل غير مسمى.

وأخيرًا، لابد أن نسجّل ما تنبه له د. سلمان أبو ستة في تقديمه للكتاب، "على الرغم مما يحمله [الكتاب] من موقف نقدي، أو حتى موقف مضاد للدور الاستعماري البريطاني في تأسيس الكيان الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين، فإن المؤلف لم يستطع أن يتفلّت أو يتحرّر من السردية التي تقدمها المراجع التي اعتمدها حول الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936 ـ 1939، وهي في معظمها مراجع تعود للاستعمار البريطاني نفسه، والأرشيف العسكري البريطاني، فضلًا عن الأرشيف الصهيوني وأرشيف الهاغاناه، ومقابلات مع ضباط من الهاغاناه، إلى دانب بعض المراجع العربية طبعًا. وهي سردية تقدم صورًا مشوّهة عن بعض فصائل الثورة بوصفهم عصابات، وقَتَلى ومجرمين لا أفق سياسيًا أو وطنيًا لأعمالهم العسكرية؛ أو تقدم صورًا نمطية عن انقسامات حكمت الشارع الفلسطيني أثناء الثورة لم تخل من التعميم".

*كاتِب وباحِث فلسطيني
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم