كتاب عربي 21

جمهورية السيسي الجديدة و"الشدة السيساوية".. مفاهيم ملتبسة (46)

سيف الدين عبد الفتاح
من المسؤول عن أزمة مصر الحالية؟- عربي21
من المسؤول عن أزمة مصر الحالية؟- عربي21
هناك العديد من الكتاب والمهتمين بالشأن المصري ممن تحدثوا عما أسموه الشدة السيساوية، وبعض هذه الأطروحات جاءت مبكرا منذ السنة الأولى لتولي السيسي سدة الحكم في مصر، وهم في ذلك قد استلهموا نموذجا تاريخيا عرفته مصر في القرن الحادي عشر الميلادي/ القرن الخامس الهجري، والذي عرف بالشدة المستنصرية، نظرا لتشابه المقدمات بين الشدتين.

وحتى لا نكون بعيدين عن الحقيقة، فإن السنوات السابقة التي عاشت فيها مصر تحت حكم منظومة الثالث من يوليو لم تشهد إلا الأوهام والتدهور والمزيد من التجويع والإفقار، وتفاقم هذه الشدة إلى الدرجة التي لم تعد معها محض أفكار أو أطروحات نظرية، فتنامى الإحساس بالوضع شديد السوء الذي تمر به مصر والذي لم يعد خافيا على أحد. وهناك من بين الدول الداعمة للنظام من الخارج، أو القوى السياسية والمؤيدين من الداخل، أصبح لديهم يقين كامل بأن الوضع الحالي لا يمكنه الاستمرار أو الاستقرار على هذا النحو، وأن عدم التعامل مع مقدمات هذا الوضع بالكيفية الملائمة والتي تتمثل في انزياح هذا الكابوس؛ لن يكون له إلا محصلة واحدة هي تراكم هذه الشدة السيساوية إلى حد الأزمة والمخمصة والجوع على النحو الذي مرت به مصر في خبرتها التاريخية من مجاعات أو أزمات، كما صورها المقريزي في كتابه "إغاثة الأمة في كشف الغمة".

الوضع الحالي لا يمكنه الاستمرار أو الاستقرار على هذا النحو، وأن عدم التعامل مع مقدمات هذا الوضع بالكيفية الملائمة والتي تتمثل في انزياح هذا الكابوس؛ لن يكون له إلا محصلة واحدة هي تراكم هذه الشدة السيساوية إلى حد الأزمة والمخمصة والجوع على النحو الذي مرت به مصر في خبرتها التاريخية من مجاعات أو أزمات

فقد يقول قائل أين نحن من الشدة المستنصرية التي أكل الناس فيها بعضهم البعض، وسُرق ابن الجار من أجل سد الجوع والنجاة من الهلاك، وتفشى غلاء الأسعار حتى بات قليل من الطعام لا يقدر بالمال؟ ولكن ما يجب أن يكون محط اهتمامنا هو كيف وصلوا إلى هذا المستوى من التدهور والجوع والفقر والمرض. إن أسباب الشدة المستنصرية مثلما رصد العديد من المفكرين والكتاب تتلخص في شح مياه النيل، وانتشار الفساد السياسي والمالي والإداري، وهو الأمر الذي يتكرر بنفس تفاصيله مع الشدة السيساوية.

فمع وضع نهر النيل في ظل حكم منظومة الثالث من يوليو وبعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ؛ يمكن القول إن مصر تخلت عن حقوقها التاريخية في نهر النيل، وأصبح النهر أشبه بأن يكون ملكا خاصا لإثيوبيا تفعل به ما تشاء، وصولا إلى تنفيذها الملء الرابع لبحيرة السد دون الرجوع أو التنسيق مع مصر، بل إن البعض -حتى من بين المعارضين- كان يتوقع أن السيسي لن يستطيع السكوت على الفعل الإثيوبي حتى لو لجأ إلى الحل العسكري، ولكن كل ذلك كان أضغاث أحلام وتمنيات دون سند أو أساس من الواقع. ويذهب البعض لتفسير ذلك بالدفع بأن مثل هذه الأفكار مصدرها الكيان الصهيوني، وأن القائمين على الحكم في بلادنا العربية باتوا يدركون ويفهمون أن من ترضى عنه إسرائيل وأمريكا يبقى في الحكم حتى تغضبا عليه، ومن ثم فإن ما تريده إسرائيل يكون.

هكذا اندلعت الشدة المستنصرية بعدما نقص منسوب نهر النيل، وفي الشدة السيساوية نحن مقبلون على ذلك بدون إبطاء من جراء ذلك التوحش الإثيوبي في التلاعب بمقدرات نهر النيل ومياهه دون رادع مادي أو معنوي، وأقصى ما فعله السيسي من ضمانات أنه تأكد من أن رئيس الوزراء الإثيوبي كرر القَسَم خلفه بأنه لن يضر بأمن مصر المائي!

التشابه الثاني بين الشدتين هو الفساد السياسي والإداري والمالي؛ وإن كان هذا الفساد هو من أسباب الشدة المستنصرية فلا يمكن لنا أن نتخيل أن يكون أكثر مما يجري الآن في ظل الشدة السيساوية. ولعل تركيز النظام الحالي على مشروعات البناء والمقاولات بمفرده هو أمر شديد الدلالة؛ خاصة أنه يُعد من أكثر الأنشطة الاقتصادية التي يمكن أن تخفي التلاعب والسرقة في ظل ما نراه من إقامة مشاريع بدون داع (مشاريع السبوبة)، أو إعادة تكسير وبناء كباري ومشاريع لم يمر عليها عام واحد، أو انهيار بعض هذه المشاريع قبل أن يتم تسليمها، ناهيك عن التوزيع المباشر للمشاريع على الهواء مباشرة وإسنادها بالهوى (الأمر المباشر). وهي مشاريع ضخمة وبأرقام فلكية تصل إلى 9 مليارات جنيه، وبعد التضاحك مع "الحاج سعيد" تنخفض قيمتها إلى 7 مليارات، وكل ذلك على الهواء مباشرة، إضافة إلى ما بات يعرف مؤخرا بـ"اختراع المشاريع"، بمعنى القيام بتكسير طريق رئيسي بين أهم محافظتين في مصر (القاهرة- الإسكندرية) بدون داع إلا منح أحد المقربين تصليح مثل هذا الطريق العملاق، وهو ليس في حاجة إلى ذلك، إضافة إلى الطريقة التي تمت بها عمليات التكسير وتوقيته في مفتتح الصيف، حيث تكون الإسكندرية قبلة المصريين.

مثل هذه السياسات عاجلا أو آجالا سيترتب عليها تفحش الفقر واتساع مساحات انتشاره أكثر مما هو الآن؛ خاصة وأن هذه المنظومة تتميز بست خصائص تعجل من انفجار هذه الشدة وانتشارها في ربوع مصر كافة

كل ذلك لا يمكن تفسيره إلا من خلال حالات الفساد والإفساد التي تقف خلف النظام وتتغلغل بين جوانبه. مثل هذه السياسات عاجلا أو آجالا سيترتب عليها تفحش الفقر واتساع مساحات انتشاره أكثر مما هو الآن؛ خاصة وأن هذه المنظومة تتميز بست خصائص تعجل من انفجار هذه الشدة وانتشارها في ربوع مصر كافة (الإفقار في بر مصر):

أولها، ترف أهل السلطة وهو ذلك الذي لا يخفى على أحد، في ظل اهتمام السيسي بالبناء والتعمير لشخصه والزعم بأنه يعمل للوطن. فهل يعقل أن يستدين الوطن لشراء طائرة فاخرة لن تدر عائدا، أو أن يتوسع في بناء القصور الرئاسية؟ فما بني من قصور خلال السنوات العشر الماضية يكاد يوازي كل ما بني من قصور للحكام في مصر سواء في عصرها الملكي أو ما بعد الملكية، ناهيك عن أكبر مدينة ملاه، أو أكبر نهر صناعي، أو أكبر مسجد وأكبر كنيسة، وأكبر برج في أفريقيا، وكل ذلك بدون عائد حقيقي، إضافة إلى تكلفته بالديون والقروض التي وصلت إلى مستوى خطير.

ثانيها، تجارة السلطة ممثلة في العسكر وتدخلهم في كل أمر يتعلق بالاقتصاد، وهنا نجد أكثر من مستوى لتدخل النظام الحاكم في الاقتصاد وهيمنته عليه، احتكارا ومنحا ومنعا؛ ومنها منح المشاريع بشكل مباشر وعلى الهواء مباشرة كما سبقت الإشارة، وانتشار شركات تحصل على توكيلات وتسهيلات بدون أي مسوغ ويتردد أنها بمثابة واجهة عن متنفذين في الحكم، وهيمنة الدول الخليجية على المشاريع الناجحة وشرائها بأقل الأسعار، والأكثر خطورة هو سيطرة الجيش على الاقتصاد المصري وإفساده لمناخه العام المحيط؛ في ظل ما يتمتع به من مزايا تنافسية أثرت على السوق بصورة كلية سواء على الكيانات الكبيرة، أو الكيانات الصغيرة.

ثالثها، البطالة والعطالة، فلا يمكن تصور ما وصلت إليه البلاد من معدلات حقيقية في البطالة والعطالة بخلاف ما ينشر من قبل النظام الحاكم، فالوضع أصبح لا يطاق، الأمر الذي دفع بعض المواطنين لاتخاذ إجراءات والإقدام على سلوكيات غير معهودة، من مثل الانتحار، أو من عرض نفسه للبيع، أو الهجرة غير الشرعية سواء إلى ليبيا أو أوروبا، أو القبول بأي عمل حتى ولو لم يكن مناسبا له، إضافة إلى محاولات البعض البحث عن أعمال إضافية وهي للأسف غالبا ما تكون على حساب الأعمال الأساسية خاصة تلك التي في الجهات الحكومية؛ فظهر لنا بطالة وعطالة مقنعة لا يمكن معالجتها، وهم في ذلك يحاولون أن يحققوا الكفاف لأسرهم وأبنائهم فلا يمكن لومهم على مثل هذه المساعي التي لا تتوقف.

رابعها، شُح الدعم إلى حد الإلغاء، وغول غلاء الأسعار الذي انطلق من عقاله بلا ضابط أو رابط، وباتت الإجراءات والسياسات التي تتخذها الحكومة لمواجهة هذه الأوضاع تذهب أدراج الرياح، خاصة في ظل شح الدعم وغلاء الأسعار الذي لا يرحم، حتى باتت الحكومة والجهات المتعاونة معها توزع على المواطنين كراتين السلع والمواد الغذائية، وهو مستوى متدهور لا يمكن أن يسد جوعا أو يحفظ كرامة أو يقيم وطنا أو يصون مواطنا. فالدولة تعتبر أنها بالكرتونة التي تقدمها للمواطن قامت بدورها، خاصة في ظل الإعلان والإعلام الذي يصاحب عمليات التوزيع والفضح للمواطنين الذين لا يرحمهم غلاء الأسعار الذي أتى على الأخضر واليابس، وهو ما أطلق عليه البعض تندرا "جمهورية الكرتونة".

الشدة السيساوية في إرهاصاتها ستؤدي إذا ما ترك الحبل على الغارب ومع التراكم السريع إلى انهيار سيكون عاصفا وغير متوقع، وأن الوصول إلى قمتها صار قاب قوسين أو أدنى

خامسها، تعويم الجنيه، وترتبط هذه الأزمة بجل الأسباب والأزمات الاقتصادية التي تمر بها مصر، فعلى مستوى المواطن خسر مدخراته، وتراجعت قيمة ما لديه من أموال، وعلى مستوى الاستثمار نجد حالات ضغوط كبيرة من الدول والكيانات لتخفيض قيمة العملة؛ الأمر الذي دفع بالعديد من الشركات والدول للخروج من السوق المصري.

سادسها، الجباية والتفنن فيها، وهو أمر منطقي بعد كل ما سردناه من أزمات وأوضاع اقتصادية خطيرة، حيث يعيش النظام على الجباية والقروض، ولا يتوقف عن اختراع ضرائب يومية يعزز بها خزائنه ويفقر بها مواطنيه.

نستطيع أن نقول إن الشدة السيساوية في إرهاصاتها ستؤدي إذا ما ترك الحبل على الغارب ومع التراكم السريع إلى انهيار سيكون عاصفا وغير متوقع، وأن الوصول إلى قمتها صار قاب قوسين أو أدنى.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)

خبر عاجل