هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا"
الكاتب: خالد زيادة
الناشر: الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2016
هذا الكتاب هو استكمال لمشروع بدأه، د. خالد زيادة، حين سجل أطروحته للدكتوراه، وهو واحد من ثلاثة كتب خصصها، زيادة، للبحث في العلاقات بين العالم الإسلامي وأوروبا. وهي "المسلمون والحداثة الأوروبية"، الذي استعرض فيه البدايات المبكرة في القرن الثامن عشر لتفوق أوروبا على المسلمين، وبداية التأثر بالأفكار والتقنيات التي ظهرت في بلدان أوروبا، و"لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب" والذي رصد فيه تأثير أوروبا على العرب منذ بداية القرن التاسع عشر، في فترة صعود دول أوروبا وانتشار أفكارها في أرجاء العالم.
مؤلف الكتاب، الدكتور خالد زيادة، حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون الثالثة، 1980. وهو أستاذ جامعي، شغل منصب سفير لبنان في القاهرة، ومنصب المندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية، وله العديد من المؤلفات في التاريخ الاجتماعي والثقافي.
جاء الكتاب في 220 صفحة، قسمها المؤلف إلى خمسة فصول، يمكن من خلالها تمييز مرحلتين في تاريخ النظرة الإسلامية إلى أوروبا، المرحلة الأولى الكلاسيكية، وفيها استندت النظرة إلى الموقف التقليدي الإسلامي الذي يقسم العالم إلى دارين دار الإسلام ودار الحرب. أما المرحلة الثانية فتتناسب مع بروز القوة الأوروبية في حوض البحر المتوسط، وبروز الدولة العثمانية.
في مقدمة كتابه، أشار، زيادة، إلى أن الشعوب التي دخلت الإسلام قد حملت معها علومها وآدابها لتشكل نهضة الثقافة الإسلامية كما عُرفت في القرن الرابع الهجري، كما أن المسلمين سبق وأن أخذوا عن الحضارات الأخرى مثل اليونان، فشكلت الترجمات بُعدًا مغنيًا للفكر الإسلامي، لكن الاتصال بمعارف الآخرين تقهقر بعد ذلك، والواقع أن الأمم التي كانت تقطن أوروبا لم تكن جزءًا من التفاعل، فلم تكن تلك الشعوب في العصور الوسطى تمتلك شيئًا تعطيه للمسلمين، لذا فقد سادت نظرة الحذر واللامبالاة تجاه أوروبا لفترة طويلة. ولم تفض الحروب الصليبية في القرنين الثاني عشر، والثالث عشر الميلاديين إلى إثارة الفضول لمعرفة الشعوب الأوروبية، بل إنهم أطلقوا عليهم اسماً واحداً هو "الفرنجة". وإثر الحروب الصليبية تزايدت المعلومات عن ممالك أوروبا ومدنها.
وألقى زيادة الضوء على المسار التاريخي الذي اتخذته المؤسسات الأوروبية التي اعتنت بالإسلام، وأوضح أن شيئًا من هذا القبيل لا نجده في عالم الإسلام، وأضاف أن ثمة ما يشار إليه على سبيل المقارنة؛ "فإذا كانت نظرة الأوروبيين إلى الإسلام قد بدأت في إطار مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية، لتنتقل في طور أخر إلى أيدي المتخصصين في الآداب والأنثروبولوجية، فإن نظرة المسلمين إلى أوروبا كانت في البدايات من اختصاص الجغرافيين والمؤرخين والأدباء، وقد وصلت في زمننا الراهن إلى أيدي رجال الدين والناطقين باسم الحركات الدينية ومن يرون أن الغرب يتآمر على المسلمين والعرب." ص (6).
يرى، زيادة، أن الجغرافيين القدامى قدموا معلومات متضاربة عن أوروبا، وأهملوا أنّها مؤلفة من دول وقوى سياسية. إلى أن جاء القرن الخامس عشر، وسقطت القسطنطينية بيد العثمانيين، فتبدلت النظرة إلى أوروبا. وهو ما رصده، زيادة، في الفصل الثاني "استمرار النظرة التقليدية وتبدلها ـ مسألة تقدم".
في الفصل الأول "النظرة التقليدية إلى أوروبا" رسم، زيادة، أجزاء من ملامح الصورة التقليدية الإسلامية عن أوروبا، كما وردت في كتب المؤرخين والجغرافيين، وهو يرى في هذا الشأن، أن بدايات تشكل صورة أوروبا في الآداب الإسلامية، برزت ملامحها مع ابن خرداذبة، الذي اعتمد في استقاء معلوماته من ما رواه، مسلم الجرماني، الذي كان أسيرًا لدى البيزنطيين (حوالي 845م)، الذي كانت لديه معلومات عن الروم والبرجان والبرغز والصقالبة.
يرى، زيادة، أن الجغرافيين القدامى قدموا معلومات متضاربة عن أوروبا، وأهملوا أنّها مؤلفة من دول وقوى سياسية. إلى أن جاء القرن الخامس عشر، وسقطت القسطنطينية بيد العثمانيين، فتبدلت النظرة إلى أوروبا. وهو ما رصده، زيادة، في الفصل الثاني "استمرار النظرة التقليدية وتبدلها ـ مسألة تقدم".
وضع سقوط القسطنطينة الدولة العثمانية بمجابهة العالم اللاتيني الذي لا تعرف الكثير عنه، ما حتم على العثمانيين أن يزيدوا معرفتم بالآخر الأوروبي. وبفضل الجغرافيا تطورت هذه المعرفة، حيث شهد القرن السابع عشر تراكم للمعلومات الجغرافية، والتاريخية، والسياسية عن بلدان أوروبا، وإن لم تسهم هذه المعرفة إلا قليلًا في الأساس الذي بنيت عليه صورة أوروبا في ذهن المسلم.
جاءت الهزيمة العسكرية المدوية في السنة الأخيرة من القرن السابع عشر(كارلوفيتز) لتتصدع الصورة القديمة للغرب الضعيف المهمل، فقد كانت أول هزيمة للقوات الإنكشارية، خسرت فيها الدولة العثمانية أقاليم واسعة من الأراضي التي كانت تحت سيطرتها.
كان تقرير السفير التركي محمد أفندي جلبي، الذي أوفده السلطان أحمد الثالث، إلى باريس، عام (1720م) أول تسجيل لجوانب الحياة الأوروبية في ذلك العصر، وقد شكل هذا التقرير معرفة أولية لا تخلو من الدقة، وتميز بوصفه لخصائص الحياة الأوروبية الحديثة، وتجنبه الخوض في المسائل الدينية.
بعد عشر سنوات، قدم إبراهيم متفرقة، مدير أول مطبعة في استنبول، أول محاولة من نوعها تسعى إلى تأسيس علاقة جديدة مع الأوروبيين، داعيًا العثمانيين إلى الاستفادة من العلوم الأوروبية التي كانت سببًا في انتصارهم على المسلمين.
بالانتقال إلى القرن الثامن عشر، لاحظ، زيادة، بروز اتجاهين مغايرين في التعامل مع أوروبا، فإذا كانت النظرة إلى أوروبا قد اخذت خطًا تصاعديًا في تركيا، فإن الأمر لم يكن مماثلًا في المغرب الأقصى، فقد خلفت "حروب الاسترجاع" أو الحالة الأسبانية، وضعًا خاصًا قضى على التعايش الإسلامي المسيحي، إذ حل محله عداء تزايد مع مرور الزمن.
أما الفصل الثالث "صورة أوروبا الليبرالية" فقد رصد فيه، زيادة، أثر تردد أصداء الثورة الفرنسية في كافة أرجاء الإمبراطورية العثمانية، حاملة معها تباشير الحرية والعدالة والإصلاح الاجتماعي، الأمر الذي أحدث بلبلة في الداخل التركي، ونتج عنه إجراءات جديدة أقدم عليها حكام السلطنة، رغبة منهم في مسايرة موجات التغيير.
يرى زيادة أن الأتراك العثمانيين كانوا الأوائل، من بين سائر المسلمين، الذين تعرفوا إلى الوجه الجديد لأوروبا، إثر قيام الثورة الفرنسية، "أما العرب فليس ثمة ما يشير إلى أنهم قد تنبهوا إلى الأحداث فور وقوعها، وكان ينبغي انتظار حملة بونابرت حتى يتنبه المصريون واللبنانيون، إلى قوة أوروبا وخطرها". ص (86) أما مسلمي الهند فقد عاينوا التفوق الأوروبي واستعانوا به، وكذا الأمر عند الفرس، إذ طلب الشاه فتح علي (1797-1834) العون من بونابرت، لتأسيس جيش قوي يواجه به روسيا ومطامعها في بلاده.
أدخلت الثورة الفرنسية تطورًا جديدًا في صورة أوروبا لدى المسلمين، تتعلق بالنظام السياسي، الذي يقوم على مبدأ الحرية، وهو أمر لم يكن معروفًا من قبل بالنسبة للمسلمين.
يرى زيادة أن الأتراك العثمانيين كانوا الأوائل، من بين سائر المسلمين، الذين تعرفوا إلى الوجه الجديد لأوروبا، إثر قيام الثورة الفرنسية، "أما العرب فليس ثمة ما يشير إلى أنهم قد تنبهوا إلى الأحداث فور وقوعها، وكان ينبغي انتظار حملة بونابرت حتى يتنبه المصريون واللبنانيون، إلى قوة أوروبا وخطرها".
ألقى زيادة الضوء على عدد من الكتب التي اسهمت في انتشار صورة أوروبا الليبرالية، خلال القرن التاسع عشر، مثل " تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي، الذي كتبه عام 1831، "علم الدين" الذي كتبه على مبارك بأسلوب قصصي عام 1860، و"أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" لخير الدين التونسي.
انتهى القرن التاسع عشر بغير ما ابتدأ، فإذا ظهر في بدايته أن توافقًا بين الشرق والغرب أمر ممكن، فإن القرن التاسع عشر شهد في نهايته توترًا عميقًا في العلاقات بين الإسلام وأوروبا. ولعل أبرز تيار ظهر في نهاية القرن التاسع عشر هو تيار الإصلاح الديني الذي عبر عنه بقوة جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا.
بدأ، زيادة، الفصل الرابع "اتجاهات النظرة الحديثة"، بتفسير أسباب انبثاق تيار الإصلاح الديني، الذي رأى أن أهمها هو بروز صورة أوروبا الطاغية في الميدان العسكري والاقتصادي والفكري، فضلًا عن ما أثارته أوروبا في الداخل الإسلامي ببروز حركة دستورية، انتصرت في تركيا وقامت بإلغاء الخلافة وإقامة النظام الجمهوري. وأثار هذا الأمر الكثير من الجدل بين مؤيد ومعارض، وانقسمت النظرة إلى أوروربا إلى وجهتين: الأولى ترفع أوروربا إلى مصاف ما تبديه من قوة وحرية، والثانية تحط بها إلى درجة الفساد والتفسخ. وقد تصارعت الصورتان، في كتابات مفكري تلك الفترة، بشكل يظهر عمق الأزمة. فكتب الشيخ علي عبد الرازق (1888 ـ 1966) "الإسلام وأصول الحكم"، رأى فيه أن الخلافة ليست من الدين في شيء، ورغب في فصل السلطة السياسية عن الدينية. أما رشيد رضا فنظر بعين الريبة إلى المشاريع الأوروبية، وأمل شكيب أرسلان في حركة أو ثورة إسلامية "تشكّل قاعدة حرب متواصلة ضد الاستعمار الأوروبي". ص(131)
أما المفكّر محمد إقبال (1873 ـ 1983) فقد مثّل، في الهند، تجربة أخرى أدركت حجم التفوق الأوروبي في العلم، فأطلق دعوة بضرورة تجديد الفكر الديني، والاستعانة بنتائج الفكر الغربي في سبيل "إعادة النظر في التفكير الديني في الإسلام، وبنائه من جديد إذا لزم الأمر". ص (138)
تغذّى التيار الليبرالي في العالم العربي من الانقلاب الدستوري في اسطنبول عام 1908، وترسّخت لديه فكرة الحرية ورأى أنها "سبب تقدم أوروبا"، ومثّل هذا التيار أحمد لطفي السيد (1872 ـ 1963). وانبرى من يدافع عن العلم الأوروبي المتقدم، فكتب إسماعيل مظهر "ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء" دفاعًا عن النظرية الداروينية، محمّلًا الكتاب أيضًا تصوره للعلم، وضرورة استيعاب العلوم الحديثة.
في الوقت نفسه رُسمت صورة أخرى لأوروبا هي صورة الشيطان، وترسخت ثنائية أوروبا/الإسلام أو الشرق/الغرب، وتحولت إلى "عقيدة ثابتة عند التيارات الإسلامية الداعية للعودة إلى الأصول" ص (154). فكتب المفكر الباكستاني، أبو الأعلى المودودي( 1903 ـ 1979) "نحن والحضارة الغربية" الذي وصفها بالشجرة الخبيثة، مشددًا على مسألة الافتراق بين العالمين، وينتهي لتوقع نهاية الغرب القريبة، وتابعه في ذلك الهندي أبو الحسن الندوي ، وحسن الشيرازي، ومحمد قطب الذي ناقش آراء فرويد في كتابه "الإنسان بين المادية والإسلام".
حاولت المدرسة التوفيقية الجمع بين الصورتين المتضادتين، أي الجمع بين "شيء من الإسلام وشيء من أوروبا"، وقد عبّرت عنها مجلة الرسالة التي أصدرها أحمد حسن الزيات عام 1933، لتكون "جامعة بين روح الشرق وحضارة الغرب". ص (165) كما سعى آخرون للجمع بين المادة والروح كما فعل مصطفى محمود، والتوفيق في ميدان الثقافة والفكر كما حاول زكي نجيب محمود.
شكل الفصل الخامس "نحو نظرة نقدية" نقطة الارتكاز التي تمحورت حولها رؤية زيادة للتطور الذي رافق النظرة الإسلامية إلى أوروبا. فقد رأى، زيادة، أن المسلم، وغير الأوروبي عامة، حين كان يعارض أوروبا، فإنه كان يلجأ إلى بعض أفكارها لينقُد بها الأفكار الأخرى "هكذا فعل إقبال عندما أوضح عدم أهلية التفكير العقلي في معالجة شؤون الإيمان، وهكذا استعار الليبرالي نقد الديموقراطية الغربية للفاشية ليبين فظاعة مشروعها، وحين أراد السلفي أن يظهر عظمة تاريخ العرب والإسلام، استخدم بعض ما في مؤلفات المؤرخين والمستشرقين". ص (173)
حاولت المدرسة التوفيقية الجمع بين الصورتين المتضادتين، أي الجمع بين "شيء من الإسلام وشيء من أوروبا"، وقد عبّرت عنها مجلة الرسالة التي أصدرها أحمد حسن الزيات عام 1933، لتكون "جامعة بين روح الشرق وحضارة الغرب".
ألقى زيادة الضوء على ماهية الاستشراق، وأكد على أن نقد الاستشراق يشكل خطوة مهمة في طريق امتلاك أدوات الحكم على تجربة أوروبا، والغرب. ثم ناقش ما طرحه آخرون، في هذا المجال، من أمثال عبدالله العروي، وهشام جعيط، وإدوار سعيد، وقدم من خلال مناقشة آرائهم، ما يعين القارئ على تحديد رؤية أشد وضوحًا لعلاقة العالم العربي بالغرب.
وبعد، فقد جاء هذا الكتاب كمساهمة وإضافة بحثية، نجح فيها الكاتب في تنظيم المادة المتعلقة بنظرة المسلمين إلى أوروربا، في الأدبيات الإسلامية، من خلال إبراز العينات وترتيبها وفقًا للتطور الزمني، ولكنه أغفل أن يشير، في المقدمة، أن الكتاب يرصد النظرة إلى أوروبا في النصوص وليس في الوقائع.