الذاكرة السياسية

الأحمر يضفي شرعية الشورى على الحمدي ويعارضه حتى اغتياله

الشيخ عبد الله الأحمر يتحدث للزميل فيصل جلول في باريس
الشيخ عبد الله الأحمر يتحدث للزميل فيصل جلول في باريس

كانت الأيام الأخيرة من عهد الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني شديدة الاضطراب. فشلتْ كل محاولات المصالحة بين رئيس مجلس الشورى، الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر ورئيس الجمهورية، بل تبادلا خطابات التهديد والكلام القاسي، وفق رواية الشيخ سنان أبو لحوم الذي كان يتلقى رسائل الطرفين. 

كان الجيش منقسما، وكل قسم يستعد لنصرة أحد طرفي النزاع. وقف القائد العام للقوات المسلحة المقدم محمد عبدالله الإرياني والمقدم حسين المسوري، رئيس أركان الجيش والمقدم محمد الكهالي، وقفوا إلى جانب الرئيس، ووقف المقدم إبراهيم الحمدي وأخوه عبدالله والمقدم الشيخ مجاهد أبو شوارب، فضلا عن علي أبو لحوم قائد قوات الاحتياط والمقدم أحمد الغشمي والمقدم محمد أبو لحوم وقفوا إلى جانب المعارضة. 

وسرتْ في العاصمة شائعات حول انقلاب عسكري استباقي يحمي الرئيس ويدبره قائد الجيش، الذي أكد عدم صحتها في مذكراته (أحداث من الذاكرة ـ صادر عام 2011 . طباعة خاصة)، ويشير الشيخ سنان أبو لحوم إلى أن أبو شوارب جاء بقوات من "لواء المجد" إلى العاصمة سرا وعبد الله الحمدي، جاء بقوات من ذمار أحاطت بمنزل الإرياني، وذلك من أجل تدارك "انقلاب" قائد الجيش المزعوم (ص 473 ـ 474  مذكرات أبو لحوم مرجع سابق).  

ما كان بوسع رئيس الجمهورية الارتياب من قوات الحمدي التي تطوق منزله، طالما أن شقيقه إبراهيم كان يقول للإرياني مناورا: "لا أقبل استقالتك. نحن جنود عندك. أنا في يد عمي سنان أبو لحوم. وإن كان في هذا البلد مجانين، فهو أبونا وأقدر الناس على حل المشاكل. نحن تحت أمرك ولا نريد أن نفرض عليك شيئا. فيك الخير والبركة" (تابع مذكرات أبو لحوم).  

في هذا الوقت، كانت "الجبهة الوطنية" الشمالية الموالية لعدن تحقق تقدما تلو التقدم، وتسيطر على قرى ومناطق بإيقاع سريع، مستفيدة من التنافس على السلطة في صنعاء.

على الصعيد الخارجي، كانت المملكة العربية السعودية تَحثُّ المعارضة على التجمع حول إبراهيم الحمدي الذي حظي بثقة البعث والناصريين، فضلا عن الشيخين عبد الله الأحمر وسنان أبو لحوم، ولم يعارضه أحد في الداخل والخارج، فيما اقتصر دعم الإرياني على الرئيس حافظ الأسد في دمشق، وهو سيستقبله في سوريا بعد استقالته من رئاسة الجمهورية.

 

القاضي عبد الرحمن الإرياني ومحسن العيني ومحمد عبدالله الإرياني وحسين المسوري والحمدي.

قبل أيام من استقالته، أرسل الرئيس الإرياني قائد جيشه ورئيس أركانه إلى خارج البلاد في خطوة مثيرة للتساؤل. هل وصلت ثقته بالحمدي إلى حد الاعتماد المطلق عليه في حماية النظام، إذا ما غادر القائد العام ورئيس الأركان إلى خارج اليمن.. "لتهدئة النفوس" ونفي الشائعات؟ أم إنه كان على علم تام بما يدبر، وأن حظوظه في البقاء في السلطة ضعيفة، ومن ثم لا جدوى من استخدام القوة، ولهذا أرسل قائد الجيش (ابن أخيه) ورئيس الأركان إلى الخارج؟ لم يتحدث الرئيس الإرياني في مذكراته المنشورة عن هذا الجانب، ولا ندري ما الذي قاله في القسم غير المنشور حتى الآن من المذكرات.

إنذار باجتياح صنعاء

عشية عزوف الرئيس عن السلطة، وجه له الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رسالة مهددا باجتياح صنعاء مع قبائل حاشد إن لم يتخل عن الحكم. واستعجل المعارضون قدوم سنان أبو لحوم من لندن لكي يحل المشكلة القائمة مع القاضي الإرياني، ولربما لرعاية الانقلاب عليه. 

وصل الشيخ سنان إلى صنعاء وعقد فور صوله اجتماعا موسعا للانقلابيين في منزله، ودعا إليه الشيخ عبد الله الذي وضع أمام المعادلة التالية؛ "إن وافقت يتم الانقلاب (على الإرياني) وإن لم توافق تبقى الأمور على ما هي عليه الآن". ويوضح الشيخ الأحمر: "... وضعوني أمام الأمر الواقع. قالوا لي إن الإرياني لديه قوة في الجيش لا يستهان بها، ونحن وإياه في تسابق من ينقلب على الآخر أولا. وافقت على الانقلاب ولم أخطط له. اشترطت أن تكون الفترة الانتقالية قصيرة، وألا تُهرق قطرة دم واحدة".

ويتابع: لم يكن القاضي الإرياني من الرؤساء الذين يتمسكون بالكراسي. كان يقول للمحيطين به: لا أرضى على نفسي أن يسفك دم طائر دجاج من أجل بقائي في الحكم فما بالك بإنسان؟ وبالفعل قدم الإرياني استقالته إلى الأحمر رئيس مجلس الشورى، وعين إبراهيم الحمدي قائما بأعمال الرئاسة لتولي أمور البلاد. تماما كما عينه المشير عبد الله السلال في المنصب نفسه قبل سبع سنوات. وبدوره قدم الشيخ عبد الله الأحمر رئيس مجلس الشورى استقالته إلى إبراهيم الحمدي، الذي صار رئيسا شرعيا مرتين: مرة عبر رئيس الجمهورية ومرة عبر رئيس مجلس الشورى.


تشير التطورات المتلاحقة خلال عامي 1972 و1974 إلى أن الانقلاب على الإرياني ما كان عملا عفويا، بل حصيلة تخطيط مُرَكَّز كشف النقاب عنه الشيخ أبو لحوم بالحديث عن تشكيل لجنة سرية عام 1973 تضم 15 عضوا من حزب "الاتحاد اليمني"، وهو الحزب الوحيد في البلاد، برئاسة عبد الله الأصنج، ومن أعضائها: سنان أبو لحوم وإبراهيم الحمدي ومحمد سالم باسندوة ومحمد الحمدي وحسين المسوري وأحمد المطري وعبدالله الحجري وأحمد دهمش وآخرون. وكانت لهؤلاء أسماء مستعارة واجتماعاتهم سرية (مذكرات أبو لحوم الجزء الثالث ص25). وإذا كانت هذه اللجنة قد شكلت "من أجل المصالحة بين الإرياني والأحمر"، فإنها تَولَّتْ الإشراف على انتقال السلطة من الإرياني إلى الحمدي.

الوجه البعثي للحمدي

اجتمعت حول الحمدي كل الأطراف اليمنية المتنازعة: الإرياني والأحمر وسنان أبو لحوم والبعث العراقي وعموم الأحزاب اليسارية والقضاة والعسكر والسعودية، ولاقى تعيينه ترحيبا كبيرا في تعز مدينة النخبة اليمنية، وفي إبْ والمدن والمناطق المتضررة تاريخيا من نظام الأئمة، ولم يواجه وصوله إلى السلطة امتعاضا في جنوب اليمن. 

نعم، لم يجتمعْ اليمنيون بفئاتهم كافة حول رئيس كما اجتمعوا حول الحمدي، وكل فئة منهم تعتبره ضمنا مُخلِّصا من الفئة المنافسة أو العدوة. وبقدر ما يبدو الإجماع مفيدا للحمدي في أيام الحكم الأولى، بقدر ما سيبدو معقدا ومتعبا خلال ممارسة الحكم، التي لا يمكن أن ترضي كل الأطراف على جاري حكمة ابن الوردي (إن نصف الناس أعداء لمن وُلّيَ الأحكام هذا إن عدل).

 

                            سيارة الرئيس إبراهيم الحمدي

ترافق حكم الحمدي مع بحبوحة اقتصادية عربية غير مسبوقة، بعد قطع النفط عن الغرب في حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، وتضاعفت قيمة المساعدات السعودية والخليجية لليمن، كما تضاعفت قيمة التحويلات التي يرسلها المهاجرون اليمنيون في الخليج إلى بلادهم، وارتبطت هذه البحبوحة بعهد الحمدي ونُسِبتْ إلى سياسته، أضف إلى ذلك تواضعه الشخصي في بلد كان حكامه يعتبرون أنفسهم أنصاف آلهة. ولأنه محط إجماع في بلده، كان ينتقل بسيارته "الفولكسفاغن" من دون حراسة، فجعلته هذه العناصر مجتمعة رئيسا قويا وشعبيا، وكان عليه أن يعزز حضوره الجماهيري عبر التصدي لأقطاب محصنين ولأفكار ومعتقدات راسخة.

سيستخدم الحمدي شعبيته في التخلص أولا من مراكز القوى التي ورثها من عهد الإرياني. سيبدأ بالمركز الأقوى فيها وهو البعث العراقي. رأينا للتو أنه جاء إلى الحكم بدعم أساسي من آل أبو لحوم ومجاهد أبو شوارب ويحيى المتوكل وهم من المقربين إلى البعث العراقي، لذا اختار تعيين محسن العيني المصنف بعثيا رغم نفيه، وألح عليه لتولي الحكم، بل أرسل طائرة خاصة مع المقدم أحمد الغشمي لنقله من جيبوتي إلى صنعاء ،وقال له؛ "إن لم تقبل تولي الحكومة لن أتولى الرئاسة وستقع البلاد في الفوضى".

سيتولى العيني الوزارة وسيجد منذ اللحظة الأولى صعوبة كبيرة بتعيين وزراء مقربين منه "عبده علي عثمان وأحمد جابر عفيف ومحمد عبدالرحمن الرباعي وسلطان القرشي والدكتور عبد الوهاب محمود".. سيفشل من بعد في شراء أسلحة من الاتحاد السوفييتي بسبب اعتراض الشيخ عبدالله الأحمر، الذي يخشى الشيوعيين والعلمانيين واعتراض المملكة العربية السعودية على صفقة تعزز العلاقات اليمنية مع المعسكر الشيوعي. وسيفشل رئيس الحكومة أيضا بإنشاء محطة عراقية لتكرير النفط للسبب نفسه، وفي تنظيم العمالة اليمنية في المملكة وفي الحصول على مساعدات منها؛ لأن حكومته تضم بنظره السعودية بعض المسؤولين "المعادين" لها. 

ستطالب الرياض باستقالة محسن العيني أو إقالته، بعد أن رفض عرضا بتشكيل "مجلس جمهوري" يضم إلى جانبه الحمدي والشيخ عبد الله الأحمر والشيخ أحمد علي المطري والشيخ سنان أبو لحوم والقاضي عبدالله الحجري. يومها قيل له؛ إن "هذا المجلس يوحد الصفوف وينهي كل خلاف". رفض العيني هذا المجلس الذي يحظى بموافقة المملكة، وسيبدو مناهضا لها وسيتذرع الرئيس الحمدي بهذا الرفض، ويشكل "مجلس قيادة" من دون أقطاب هم الحمدي رئيسا والمقدم مجاهد أبو شوارب والمقدم يحيى المتوكل والمقدم درهم أبو لحوم والمقدم أحمد الغشمي والرائد عبد الله عبد العالم ومحسن العيني، ومن ثم أصدر قرارا بإعادة العمل بالدستور وإلغاء تجميد مجلس الشورى، وحدد الفترة الانتقالية بستة أشهر. 

ماو تسي تونغ

يوحي العيني أن إقالته تعود لسببين أساسين. الأول هو شخصية الحمدي الذي أراد "رئيس وزراء يعمل معه، لا أن يعمل هو مع رئيس حكومته". وكان العيني قد لاحظ ذلك عندما "غَمرتْ صوره (الحمدي) شوارع المدن، كما بدأت تنتشر الملصقات بأقواله المأثورة، وحكمه تُثَبّتُ على جدران الشوارع الرئيسية، تماما مثل كيم إيل سونغ وماو تسي تونغ. وتعالتْ كلمات الخطباء في احتفالات الثورة في تعز والحديدة تُمجِدَه شخصيا وتغمزُ من الحكومة وتقلل من جهودها".

ويرى العيني "أن البعض تعمدوا دفعه بهذا الطريق، إبعادا له عنا وتظاهرا باحترامه واقتناعا بعبقرياته، وخصوصا بعدما لاحظوا حرصنا على تفادي أي خلاف معه". تبقى إشارة إلى أن الحمدي كان يرتدي زيا "ماويا" رائجا في سبعينيات القرن الماضي.

والسبب الثاني يكمن، في ظن العيني، أن حكومته كانت منذ اللحظة الأولى "ضرورة مؤقتة، لجأ إليها الإخوان عند الحاجة ليتخلصوا منها في أول فرصة. كانت بالنسبة إليهم حكومة لسد الفراغ".

 

                    المقدم علي أبو لحوم.. قائد قوات الاحتياط.

ابتعد سنان أبو لحوم عن الحمدي وسافر أولا إلى القاهرة ثم عاد إلى اليمن وتنحى، وقرر البقاء في بيته بعيدا عن العاصمة والحكم. كما قدم علي أبو لحوم قائد قوات الاحتياط استقالته، واستقال محمد أبو لحوم قائد الكتيبة السادسة مدرعات. هكذا أُقيل العيني بعد أقل من سبعة أشهر على توليه الوزارة. 

تجدر الإشارة إلى أن الحمدي رفض تعيين سنان أبو لحوم في منصب رسمي، واكتفى بتعيينه رمزيا مساعدا لرئيس مجلس القيادة، ورفض طلب الترخيص لصحيفة حرة تقدم به الشيخ سنان (عراب الحمدي بحسب الشيخ الأحمر)، ورفض تعيينه سفيرا في أبو ظبي، ولم يقبل الشيخ سنان عرضا بتعيينه سفيرا في الجزائر، وفضل الابتعاد عن الحمدي، الذي لن يجد حليفا قويا له في مواجهة الشيخ عبد الله الأحمر غير الاستعانة أكثر بالمملكة العربية السعودية، التي ما انفكت تتوسط لحل سلسلة من الخلافات بينه وبين المعترضين القدامى والجدد على حكمه (محسن العيني خمسون عاما في الرمال المتحركة، دار النهار اللبنانية، الطبعة الأولى عام 1999 ودار الشروق القاهرة، الطبعة الأولى ص 291 ـ 310 عام 2001).

بعد إقالة العيني وآل أبو لحوم، بدأت الخلافات مع الشيخ عبد الله الأحمر، وذلك بعد أن بادر الحمدي إلى التقرب من الناصريين ومغازلة متمردي المناطق الوسطى عبر وسائل معينة، من بينها تجريد القاضي عبد الله راجح، الذي أصدر أحكاما قاسية ضدهم، من حراسه ومرتباته. ونشر أنصاره في المناطق الوسطى لطلب تواقيع مشايخها، من أجل تمديد مرحلة حكمه الانتقالية، ووصلت إليه برقيات تقول بأنهم لا يرضون عنه بديلا (مذكرات أبو لحوم ص 73). ووعد بانتخابات ديمقراطية وتعديل الدستور ليتناسب مع روح حركة 13 حزيران/يونيو وتشكيل هيئة عليا للإصلاح الإداري. وحظر الوساطات القبلية والمجاملات في المؤسسات الرسمية واحترام تنفيذ الأوامر، إلخ. 

بالمقابل، طالب الشيخ عبدالله الأحمر رئيس مجلس الشورى، العائد إلى منصبه، ببنود مضادة أهمها: الإسراع في إنهاء المرحلة الانتقالية وتسليم الحكم للمدنيين. انتخاب المجلس الجمهوري بدلا من التعيين. ضمان حياد الجيش وإبعاده عن كل التوجهات السياسية، وذلك عبر تعيين قادة عسكريين مُتَّفقٌ على حيادهم وتركيز معسكرات الجيش في أماكن بعيدة عن المدن. إخلاء العاصمة من القوات التي استُقدِمتْ إليها مؤخرا. حماية الدستور بدلا من تعديله والحفاظ على مواده ومبادئه المستمدة من الإسلام. بناء مجتمع إسلامي تسوده قوانين العدالة الاجتماعية الإسلامية كما ينص الدستور، إلخ. سيرد الحمدي على هذه المقترحات بإقالة المقدم مجاهد أبو شوارب صهر الشيخ عبدالله الأحمر من مجلس القيادة خلال زيارته للصين بطريقة غير لائقة وانتقامية، كما أقال قبل شهور محسن العيني صهر الشيخ سنان أبو لحوم. 

ستُخلِّفُ هذه الإقالات وغيرها، أصداء مدوية وسط التيارات اليسارية والقومية والعلمانية، وبخاصة في صنعاء والمناطق الوسطى وجنوب اليمن. وسينفتح باب الصراع على مصراعيه وسيزداد حدة بعد اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز في المملكة العربية السعودية، وسينتهي باغتيال الحمدي من دون علم الأحمر وأبو لحوم وخصوم الرئيس المعروفين. وللاغتيال وموقف الأحمر منه قصة جديرة بأن تروى.

 

اقرأ أيضا: الأحمر.. مشيخة معمرة في بيئة إسلامية لم تخترقها الكولونيالية

 

اقرأ أيضا: عبد الله الأحمر في عرين النظام الإمامي ومقاومة العثمانيين

 

اقرأ أيضا: الأحمر وفشل رهان الإصلاح يفتح باب الثورة والجمهورية في اليمن

 

اقرأ أيضا: الأحمر يشارك بحماية الجمهورية مع السلال ومن ثم الانقلاب عليه

 

اقرأ أيضا: الأحمر: حذرني السلال من الفقهاء ولست ديك رمضان زمن الإرياني



 






التعليقات (0)