منذ العام 2008، تاريخ الأزمة المالية والاقتصادية الكبرى الأخيرة مع ما رافقها من كوارث متنقلة على مستوى الدول والبورصات والمصارف والشركات المالية والاقتصادية الكبرى؛ من انهيارات حادة أُلحقت وأُنقذت بسياسات التأميم المقنع ورزم التحفيز التي وضعت الدول في خانات الباحث عن الخروج بأي ثمن، كان الثمن شراء الوقت حتى إشعار آخر.
وعلى ما يبدو أن الإشعار الآخر للأزمة العالمية القادمة بدأ يطل برأسه من جديد، فمنذ حلول كوفيد-19 وما تبعه من إغلاقات كارثية بفعل الأمن الصحي العالمي، كانت الكوارث تحل في قلب
الاقتصاد العالمي على كافة المستويات، ولا أدل على ذلك من أسعار البترول التي هوت في نيسان/ أبريل 2020 إلى 38 دولارا بالسالب (-38) في سابقة تاريخية ليس لها مثيل، مرورا بالانهيارات الاقتصادية لكافة القطاعات الحيوية الصناعية والسياحية والترفيهية على مستوى العالم، حتى قدرت الخسائر بما يفوق 12 إلى 15 تريليون دولار؛ دفعت بدول الاقتصادات الرئيسية الكبرى إلى مسالك رزم التحفيز وشراء الديون والمؤسسات، وغيرها من الإجراءات الاستثنائية التي طاولت كل جوانب الحياة ومؤشراتها المنعكسة في جوهر الاقتصاد العالمي، مراكمة تضخما يعصف بلا رحمة في الاقتصاد العالمي، ومولدة ذعرا من مرحلة الخوف من حلول الركود
التضخمي الذي سيزيد الطين بلة ويصعب من مسارات الأزمة، برغم كل المحاولات للنهوض عبر سلسلة من الإجراءات التي ليس آخرها رفع سعر الفائدة من هنا ورزم تحفيز جديدة من هناك.
إن الناظر اليوم في أرقام اقتصادات العالم يدرك بما لا يقبل الشك حجم المديونية الهائل والآخذة في الصعود من لحظة إلى أخرى، ويدرك أكثر أننا كنا على مشارف أزمة كبرى على المستوى الاقتصادي في كل العالم.
كل ذلك ولم تكن الأزمة الروسية- الأوكرانية حاضرة على المسرح العالمي، فكيف بنا مع حلولها لترافق كل المعطيات السابقة ومضيفة إليها
أزمات حقيقية في قطاعات الطاقة والأمن الطاقوي العالمي الذي حلقت أسعاره إلى عنان السماء، في حدود 140 دولارا للنفط مع بداية الأزمة ولا زال يعدو فوق المئة دولار للبرميل. أما الغاز فحدث ولا حرج عن تضاعف أسعاره تقريبا، ضاربا كل القطاعات الحياتية والإنتاجية في آن واحد.
أما أسعار الغذاء والأمن الغذائي فتكاد التحليلات لا تنتهي حول خطورة القادم مع استمرار المعارك وتصاعد الأحداث والعقوبات والتقلبات الاقتصادية والسياسية والأحلاف الجيو- سياسية القادمة، وبات الحديث عن المجاعة وحلولها خطرا حقيقيا قائما.
إن الأرقام الواردة على ضفاف الأزمة الحالية تؤكد خطورة الأمر ولا أبلغ من تخفيض صندوق النقد الدولي الثلاثاء الماضي (19 نيسان/ أبريل 2022)، توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي بنحو نقطة مئوية كاملة، مستشهدا بالحرب الروسية في أوكرانيا. وحذر من أن التضخم أصبح الآن "خطرا واضحا وقائما" في العديد من البلدان، وأشار الصندوق في تقريره الأخير إلى آفاق الاقتصاد العالمي، متوقعا أن تؤدي الحرب إلى زيادة التضخم، ومحذرا من أن تشديد العقوبات الغربية على روسيا لاستهداف صادرات الطاقة من شأنه أن يتسبب في انخفاض كبير آخر في الإنتاج العالمي. وذكر صندوق النقد الدولي أن المخاطر الأخرى على التوقعات تشمل تباطؤا أكثر حدة من المتوقع في الصين، بسبب استمرار عمليات الإغلاق لارتفاع حالات الإصابة الجديدة بفيروس
كورونا؛ المتجددة والتي باتت تقلق مسارات التعافي.
وتماهيا مع صندوق النقد لوصف الآثار الكارثية في لعبة استجرار أزمة من أزمة، تتحضر البنوك المركزية لمواجهة ضغوطات هائلة ومتزايدة لمحاربة التضخم بسياسة نقدية أكثر تشددا، ويمكن أن يسرع المزيد من تشديد العقوبات هذه الخطوة، مما قد يتسبب في مزيد من الصعوبات لا سيما في دول الاقتصادات النامية التي باتت جديا على المحك.
أما أزمات أكبر الاقتصادات العالمية (الولايات المتحدة)، فالحديث يطول رغم إدراكنا أن أمريكا تولد الأزمة ثم تخرج منها وتترك اقتصادات العالم غارقة بموبقاتها. فمؤشرات الاقتصاد الأمريكي ليست بخير، والتضخم في الولايات المتحدة وصل لنحو 9 في المئة، وهي نسبة كبيرة لم تسجل مثلها منذ أكثر من أربعة عقود، حتى في ذروة أزمة 2008، فهل نحن أمام أزمة أعمق؟!
وتاليا الوضع المتأزم القائم هذا يدفع للتخوف من ارتفاعات أكبر في نسب التضخم، ما ينعكس سلبا وبشكل حاد على تكلفة المعيشة، خاصة أن الارتفاع في الأجور والرواتب هو أقل من ارتفاع مستويات التضخم!!
وكل ذلك يترافق مع عودة عجلة الاقتصاد للتعافي والدوران من بعد إغلاقات كوفيد-19، فبات هناك ضغط كبير على الطلب، وسط مشاكل في سلاسل الإمداد والتوريد، حيث أن المنتجات والمواد الخام اللازمة للصناعة والاستهلاك لا يتم تأمينها بشكل سريع وسلس، وذلك بسبب التأخير في التصنيع والعجز عن تلبية الطلب بفعل جملة أحداث؛ ليس أقلها اضطرابات أسعار الطاقة والأزمة الروسية- الأوكرانية التي انعكست في صلب التكاليف الصناعية.
وللتأكيد، فقد كان ملفتا ما سلطت عليه الضوء خمسة معاهد ألمانية اقتصادية حول تبعات توقف الغاز الروسي على البلاد، والآثار الكبيرة للقرار على الاقتصاد الألماني وتاليا. على الاقتصاد العالمي. فوفقا للتوقعات الاقتصادية المشتركة للمعاهد، فإنه في حالة الانقطاع الفوري لإمدادات الغاز الروسي، فإن ذلك سيكلف الناتج الاقتصادي الألماني ما قيمته 220 مليار يورو (238 مليار دولار) في كل من العامين 2022 و2023. وهذا من شأنه أن يعادل أكثر من 6.5 في المئة من الناتج الاقتصادي الألماني السنوي، وتاليا مزيد من الانعكاسات على الاقتصاد العالمي الذي يترنح يوما بعد يوم.
إن الوقائع الاقتصادية تؤكد خطورة الوضع الاقتصادي للعالم برمته، فلا تعافي كاملا من كوفيد-19، وكذلك معدلات النمو آخذة في الهبوط، والتضخم بات يجتاح الاقتصادات الهشة والناشئة، ومؤشرات البطالة إلى تزايد وأسعار السلع، وتكاليف سلاسل التوريد إلى ازدياد، فهل نحن أمام أزمة عالمية كبرى على غرار 1929 أو أزمة 2008؟!
الأكيد أن مديرة صندوق النقد كريستالينا جورجيفا قالت ما حرفيته بوضوح: "العالم من أزمة على رأس أزمة أخرى، مع تكاليف بشرية مدمرة ونكسة هائلة للاقتصاد العالمي".. يبدو أن الأزمة الاقتصادية العالمية الجديدة باتت على وشك الظهور، فاستعدوا واربطوا الأحزمة!!