هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مصطفى بن موسى.. جامعي مغربي
بمجرد أن يتم تجاوز جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) كأزمة صحية عالمية، سيستفيق العالم على تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة وطويلة الأمد من المرجح أن تؤدي إلى تغير فارق في النظام العالمي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية منتصف القرن الماضي؛ فعلى ما يبدو أنه خلال السنوات العشر القادمة لن تنتهي الأزمة الحالية بمجرد تعميم التلقيح، ومحاصرة الوباء، ورفع الإغلاق، واستعادة زخم الاقتصاد والحركة؛ بل إن هناك احتمالات لتغيرات كبيرة في المشهد الدولي وفق سيناريوهات متعددة بعضها أكثر احتمالا من الأخرى لكن كلها ممكنة.
تفكك بنية النظام الليبرالي
شهد النظام العالمي الذي أنشأته وتحكمت فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد الحرب العالمية الثانية حتى قبل جائحة كوفيد-19، عدة تحديات تمثلت في صعود الصين وتنامي الشعبوية في الديمقراطيات الغربية؛ مع تصاعد الدعوات الرامية إلى حل النظام العالمي الليبرالي الأحادي الذي قادته الولايات المتحدة، واستبداله بآخر متعدد الأقطاب؛ ناهيك عن ظهور حركات مجتمعية ودولية مناهضة للنظام في مناطق متعددة من العالم.
وقد أظهر الوباء هشاشة في تحالفات القوى الغربية القائمة على المصلحة المحضة وفضح الشعارات المبادئية الزائفة (قرصنة و م أ لشحنات الأدوية، خلافات كبيرة بين دول الاتحاد الأوربي كادت تتطور إلى أزمة وجودية...)، كما أبان الوباء عن ضعف في أداء المؤسسات الدولية في تعاطيها مع مجموعة من القضايا والملفات الساخنة (الصحة العالمية، المناخ، أفغانستان، الملف النووي الإيراني، إلخ ...)؛ كما ساهم الوباء في زيادة احتمالية تجزيئ العالم من خلال إضعاف الولايات المتحدة التي تدير هذا النظام.
إلى جانب ذلك، بدأت الولايات المتحدة تفقد لقب اللاعب الوحيد في الساحة الدولية لصالح لاعبين جدد بدوا أكثر جرأة، وخصوصا الصين وروسيا اللتان حققتا مكاسب سياسية واقتصادية وجغرافية جد مهمة حتى في ساحات كانت بالأمس القريب تعتبر معاقل تقليدية للولايات المتحدة الأمريكية؛ الشيء الذي شجع الصين على المطالبة بوضع معايير وقواعد جديدة مؤطرة للنظام الدولي الجديد تتناسب وميزان القوى الحالي، وهو ما ترفضه الولايات المتحدة على اعتبار أنها ما زالت أكبر قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية؛ مما يدخل المنظومة في تنافس أكبر تهترئ وتتفكك معه المؤسسات.
نظام عالمي تهيمن عليه الصين:
يمكن اعتبار النجاح الكبير الذي حققته الصين في تجاوز جائحة كوفيد 19، بل وإرسالها قوافل الإمدادات الصحية إلى كافة بقاع العالم بما فيها أوربا، إضافة إلى اقتصادها المتنامي الذي فاق نظيره الأمريكي في الإنتاج والتصدير، وتعزيز تقدمها على المنافسين المحتملين مثل الهند والبرازيل وتحالفها الدبلوماسي القائم على المصالح مع روسيا، وغزوها التجاري لمعظم قارات العالم ودوله...، بمثابة مؤشرات دفعت تصنيف الصين كخصم قوي ومرشح محتمل لانتزاع قيادة العالم من الولايات المتحدة.
منذ بداية الجائحة شهدت العديد من الدول استخداما مفرطا للقرارات الحكومية الطارئة التي تنتهك المعايير الدولية وتزيد من الممارسات السلطوية والتعسفية؛ (خمس دول على الأقل أوقفت جميع وسائل الإعلام المطبوعة؛ أصدرت دولة واحدة حكما بالسجن 20 عاما بتهمة "الترويج للأكاذيب"، وهي ذريعة سهلة لسجن المعارضين السياسيين؛)
فقد استطاعت الصين من خلال استخدام مبادرة الحزام والطريق اكتساب مكانة متزايدة على الساحة الدولية مما ساعدها على التأثير ليس فقط على الجيران بل وأيضا على الشركاء البعيدين مثل أوربا وأمريكا اللاتينية؛ بحيث لا تجرؤ كثير من الدول على التصويت ضد الصين في المؤسسات الدولية، لأن تكلفة ذلك سيكون فقدان المساعدات أو الاستثمارات الصينية، فضلا عن خسارة السوق الأكبر في العالم.
ولعل تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تضرب الدول الغربية نتيجة الجائحة يجعل هذه الأخيرة أضعف وأكثر قابلية للمساومة، مما يمنح الحكومة الصينية والشركات الصينية الكبرى القدرة على إعادة تشكيل المؤسسات من خلال وضع قواعد ومعايير جديدة لها.
النزوع نحو تبني الدول للنمط الاستبدادي
دفعت الضغوط الناجمة عن أزمة كورونا كلا من الأنظمة الليبرالية والسلطوية ـ على حد سواء ـ إلى تطبيق إجراءات تقييدية متطرفة كفرض أنظمة مراقبة تمس بحرية المواطن وكرامته في كثير من الأحيان؛ كما عملت على اعتماد تدابير استبدادية متزايدة، ولعل الارتباك المجتمعي الناجم عن التغيرات الاقتصادية المرتبطة بالجائحة سيساهم في إعطاء الأنظمة فرصة لتنزيل سياسات استبدادية أكثر تطرفا من سابقتها.
فمنذ بداية الجائحة شهدت العديد من الدول استخداما مفرطا للقرارات الحكومية الطارئة التي تنتهك المعايير الدولية وتزيد من الممارسات السلطوية والتعسفية؛ (خمس دول على الأقل أوقفت جميع وسائل الإعلام المطبوعة؛ أصدرت دولة واحدة حكما بالسجن 20 عاما بتهمة "الترويج للأكاذيب"، وهي ذريعة سهلة لسجن المعارضين السياسيين؛) مما يثير كثيرا من الهواجس بشأن تفشي الاستبداد والتراجع الديمقراطي في السنوات المقبلة.
أضف إلى ذلك؛ وصول أنصار الشعبوية القومية إلى السلطة في بعض الدول خاصة في أوربا، وتزايد حدة العداء للمهاجرين واللاجئين؛ ناهيك عن الدور الذي يلعبه بعض رؤساء الدول الذين يشعرون بالقلق إزاء فقدان الغرب للسلطة الاقتصادية نتيجة للعولمة، وفقدان التفوق العرقي والديني للرجل الغربي (ماكرون في فرنسا)؛ وتنامي الاتجاهات غير الديمقراطية مما يقوي من فرضية نزوع بعض الأنظمة نحو تبني نمط استبدادي تسلطي على غرار ما وقع في أوربا في ثلاثينيات القرن الماضي.
نحو نظام متعدد الأطراف
إن انهيار المركز السياسي في العديد من الديمقراطيات المتقدمة مع نمو الشعبوية المحلية والاستقطاب في الغرب، وظهور المزيد من الأنظمة الاستبدادية؛ والتوجهات الدولية نحو البحث عن مصلحتها خارج الهياكل الإقليمية والدولية السائدة على غرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي؛ وانهيار القيادة الأخلاقية الأمريكية؛ إلى جانب نمو القوة الصينية؛ أدخل العالم في مرحلة مخاض تنهار فيه التحالفات التقليدية مع بداية تشكل تحالفات إقليمية ودولية جديدة تبحث فيها كل دولة عمن يحقق لها أكبر قدر من المصلحة بعيدا عن الولاءات التاريخية والسياسية.
ومن السيناريوهات المحتملة نتيجة للمتغيرات الحالية أن تتحول الولايات المتحدة الأمريكية من الهيمنة الحيوية Bio-hegemony إلى الريادة الحيوية Bio Supremacy بحيث تصبح صاحبة القوة في العالم، ولكن دون أن تتمتع بنفس الدرجة من النفوذ التي كانت تحظى به سابقا؛ بحيث تفقد دورها كشرطي عالمي ووصي على كوكب الأرض ودوله وشعوبه المختلفة؛ مع استمرار التنافس والصراع إلى حين فرض واقع دولي آخر، على شاكلة ما حدث عند انهيار نظام القطبية الثنائية الذي ساد العالم منذ الحرب العالمية الثانية إلى غاية بداية التسعينات من القرن الماضي.
زيادة عدم الاستقرار الإقليمي
مع بداية تراجع الولايات المتحدة عن دورها المهيمن في العالم، تم فسح المجال بشكل متزايد أمام قوى أخرى للتدخل في كثير من النزاعات المحلية والإقليمية حول العالم الشيء الذي ساهم في زعزعة الاستقرار وتأجيج الصراعات الإقليمية من قبل قوى متصارعة لتصفية الحسابات في ساحات القتال الخارجية، وكسب مزيد من النفود السياسي والاقتصادي هنا أو هناك وذلك كله على حساب أرواح الملايين من البشر، على سبيل المثال، تدخل روسيا وتركيا في سوريا وليبيا، وتحركات السعودية في اليمن، ودعم إيران للميليشيات في العراق...
لقد شجع التحول الاستراتيجي للولايات المتحدة أيضًا العديد من القوى الإقليمية الكبرى على ملء الفراغ الذي خلفه فك الارتباط التدريجي لواشنطن في المناطق المجاورة لها (على سبيل المثال، روسيا في أوروبا الشرقية وتركيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى) وكنتيجة لذلك، أصبحت الدول أكثر حزماً في دبلوماسيتها وأكثر عدوانية في الإعلان عن منافساتها الاستراتيجية مما أدى إلى عودة مناخ القوة متعددة الأقطاب الأمر الذي ينبئ بمزيد من الاضطرابات الإقليمية، ويفتح المجال لصعود قوى أخرى دوليا وإقليميا.