هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في هذه السلسلة التي تعقبت فيها شعراء فلسطين ودورهم في القضية والهوية الفلسطينية، كنت وما زلت أزداد اقتناعاً في كل حلقة بأن الشاعر والشعر الفلسطيني ليس جنسيةً، بل قضية. وازددت اقتناعاً بأن شعراء فلسطين لم يكتبوا من وراء مكاتبهم ومصايفهم، بل كتبوا من السجن والشارع والتظاهرة ومن جبال الثوار ومغاورهم. وأنه لم يبرز من مضامين الشعر الفلسطيني وأغراضه الغزلُ والحبُّ والرومانسية، بل برز الشعرُ الوطنيّ والثوريّ والدينيّ والاجتماعيّ المحرّض على الاحتلال والمتمسّك ببلاده.
لذلك، رأى النقاد أن شعر النهضة الفلسطينية لم يحمل معه الفلسفة والوجدانيات (كما في شعر النهضة اللبنانية) ولا المدائح والمطوّلات (كما في شعر النهضة المصرية)، وهو كان أحد أسباب اعتبار عصر النهضة في فلسطين متأخراً ولم يواكب النهضة العربية قبل بدايات القرن العشرين، وأنه بدأ فقط مع الموجة الثانية للنهضة العربية من خلال إبراهيم طوقان القادم من الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث احتك بالشعراء اللبنانيين.
في حين أن النقادَ في وقت متأخرٍ أنصفوا الشعر الفلسطيني، وأكدوا أنه ليس جنسيةً بل التزام الموضوع، أي أن القضية الفلسطينية صارت غرضاً من أغراض الشعر العربي يضم: الفخر بالجهاد والفروسية، والمديح للشعب المقاوم، والغزل بالبلاد والبندقية، والبكاء (الجاهلي) على أطلال البلاد، والحنين والحزن (الأندلسي) على فقد الوطن، والرثاء للشهداء والضحايا.. وغير ذلك من أغراض الشعر العربي التي لبست الثوب الفلسطيني.
على أن نضال الشعب الفلسطيني، جعل شعراء الثورة الفلسطينية في مقدمة الشعراء، ورسمَهم قادةً ونجوماً في مسيرته الكبرى نحو العودة والتحرير، وندر أن يبرزَ شاعرٌ لا يحاكي روح الشعب الفلسطيني في غليانِها الثوريّ وفي تمسّكها بالحقوق المسلوبة. لذلك ارتبط الشعراء الفلسطينيون (جنسيةً وقضيةً) بمسيرة الثورة الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى اليوم. وقد يغلب النضال الوطني للشاعر على الإبداع الشعري، فيلتصق بالاسم لقبُ الشهيد ويبتعد لقب الشاعر، مثل الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، والشاعر الشهيد نوح إبراهيم، والشاعر الشهيد كمال ناصر.. ومثل هؤلاء الشعراء الشاعر المناضل كامل توفيق الدجاني.
كامل الدجاني ونضاله
هو واحد من قادة العمل الوطني الفلسطيني في النصف الأول من القرن العشرين، عاش حياته في فلسطين ولبنان والأردن وتركيا ومصر.
ولد الشاعر في مدينة يافا عام 1899، بدأ دروسه الأولى في الكُتّاب، ثم تلقى تعليمه الابتدائي في مدارس يافا، بعدها تتلمذ على يد والده مفتي الديار اليافاوية الشيخ محمد توفيق الدجاني (وهو مؤلف خمسة كتب دينية وشعرية وخطابية)، ثم درس في المدرسة الصلاحية بالقدس، ثم التحق بالأزهر الشريف، ولم يكمل دراسته بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى. حيث رافق والده في المنفى إلى بلاد الأناضول بسبب مقاومته تتريك العرب عام 1916، ولم يعد إلا بعد انتهاء الحرب.
عاد إلى القاهرة لمواصلة علومه وبقي فيها (1920 - 1923) يتردّد إلى الجامعة المصرية لدراسة اللغة العربية وآدابها، وينمي موهبته في الشعر والكتابة، ثم عاد إلى فلسطين ليشارك مع عدد من محبي المعرفة في تأسيس (دار العلوم الإسلامية)، حيث امتهن التدريس.
شارك في الحياة الصحفية، وأسس مع قريبه حسن فهمي الدجاني جريدة "الجزيرة" عام 1924 في يافا، وكتب مقالاته باسم "ابن فلسطين"، وترأس فرع الحزب العربي الفلسطيني في المدينة، وهو الخطيب المفوّه والشاعر الوجداني الرقيق، فاشترك بالمؤتمرات الفلسطينية التي انعقدت ضد الاستعمار، وكان ضمن الحلقة الضيقة للحاج أمين الحسيني.
وهنا زاوج "ابن فلسطين" كامل الدجاني بين نضاله الفكري، كما يقول الكاتب الطيب الدجاني في دراسته عنه، حيث "أضحى محوراً لحركة فكرية أدبية واجتماعية قوية في يافا، جعلتها مركزاً مهماً للعمل الوطني في كل جغرافيا فلسطين..". وفي العام 1929 شارك في العمليات الثورية، فاعتقلته سلطات الاحتلال البريطاني وأودعته في سجن عكا. كما سُجن مرة أخرى إثر اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، فكان رئيساً لمنظمة الفتوة التي أسسها الحزب العربي الفلسطيني (الجناح العسكري)، حيث أسهم المقاتلون في تحويل الانتفاضة إلى ثورة شعب شاملة، أصبحت إحدى أهمّ الثورات في التاريخ الحديث.
بعد اعتقال كامل الدجاني، نفته سلطات الاحتلال إلى بيروت عام 1937 مع مناضلين من الحلقة الضيقة للحاج أمين الحسيني من بينهم موسى العلمي. فاجتمعوا ووضعوا كتاباً بعنوان "النار والدمار في فلسطين".
وكان كامل الدجاني عضواً في الهيئة العربية العليا، وعضواً في المشروع الإنشائي العربي الذي أسسه موسى العلمي، وأسهم في وقف بيع الكثير من الأراضي الفلسطينية لليهود، ودعا لمقاطعة السلع اليهودية، وشارك في المؤتمرات الفلسطينية المتعددة.
بعد النكبة لجأ الدجاني إلى لبنان، حيث اعتزل السياسة وتفرغ للعلم والتربية، وقصده عدد من الباحثين المعنيين بدراسة تاريخ فلسطين في مجالس منتظمة لاستنقاذ الذاكرة الوطنية الفلسطينية بعد الانقطاع الذي سببته النكبة. وكان من ثمار جهود هؤلاء الباحثين، ومنهم الدكتور وليد الخالدي، تأسيس مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، التي اعتنت بالقضية الفلسطينية ودراسة النكبة وأسبابها وسبل العلاج منها.
الإنتاج الشعري
بعد النكبة واللجوء بسنين جمع الدجاني أشعاره في ديوان أسماه "في غمرة النكبة: من وحي فلسطين" ونشره على نفقته عام 1971.
وله قصائد عديدة نشرت في جريدة "فلسطين" خلال بين الأعوام 1921 ـ 1923. وله مقالات وخواطر نشرت أيضاً في جريدة "فلسطين" بين الأعوام 1921 ـ 1925. وكان يوقع مقالاته وقصائده باسم "ابن فلسطين".
وصف النقاد بأنه "شاعر ثائر، رسمت قصائده خريطة لكفاح الشعب الفلسطيني، وشكلت صرخة معبرة عن ثورته ووعيه بأفاعيل بعض الدول الغربية والحركة الصهيونية، مما كان له أثره في تشكيل القصيد عبر لغة حماسية مستمدة من وعيه الوطني والقومي، وصور يبثها رسالة توعية لبني وطنه، وعبر سمات أسلوبية من أبرزها: صيغة الخطاب الموجهة لأبناء العروبة، كما يهتم بالموسيقى الداخلية في القصيدة".
نماذج من شعره:
من قصيدة داري
داري ودارُ أبي وجدّي .. وأعزُّ مَا في الأرض عندي
بيدي بنيتُ قِبابَها .. من معدنَيْ كرمٍ ومجد
ووصلتُ بالصرح القَديـ .. ـمِ حديثَ صَرْحٍ مُستجدّ
بيدي غرستُ جِنانَها .. من كلّ ريحانٍ وورد
وسقيتُها من ذوب نَفْـ .. ـسي سائغًا وعصيرِ كدّي
بيديَّ فجّرتُ العُيو .. نَ خلالها فَجَرَتْ برِفد
بيديَّ فجّرتُ الحيا .. ةَ قويمةَ المجرى، وجِدّي
بدمي رويتُ ترابَها .. ورواه قبلُ أبي وجَدّي
داري وفيتُ على الزما .. نِ بعهدها ووفَتْ بعهدي
والدهرُ يمضي، واللّيا .. لي لستَ تدري ما تؤدّي
لا يترك الحُرُّ الأَبِيُّ .. حماه للباغي الألدّ
وقال عن وعد بلفور
إيهِ يا بلفورُ هل تعرفُ ما .. قلتَه يومَ وعدِ المُبطلينَ؟
يومَ إذ أَقطَعتَهُم أوطانَنا .. موطنَ العربِ الأباةِ الأولينَ
نحنُ يا بلفورُ فاعلمْ، لم نَمُتْ .. نحنُ أحياءٌ، ولا نخشى المنونَ
نحن أبناءُ الأُلى تعرفُهُم .. منذُ "حطين" ويومِ الخالدينَ
بعدَ هذه الحياةِ الحافلةِ المليئةِ بالسياسة والجهاد والتربية والتعليم والأدب، أَسلمَ كامل توفيق الدجاني الروحَ في القاهرة في أيار 1985، وعينه وقلبه على اللاجئين والقضية الفلسطينية.