هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "مقاصد الاقتصاد الإسلامي"
الكاتب: د. محمّد النّوري
النّاشر: مجمّع الأطرش لطباعة ونشر الكتاب المختص
الطبعة الأولى: أيار (مايو) 2021
عدد الصفحات: 584
لئن أخذ البحث في "الاقتصاد الإسلامي" يتطوّر منذ أربعينيات القرن الماضي في اتجاه التأصيل والتنظير من "ضبط الأحكام التفصيليّة وتأصيلها في أدلّتها والبحث في نظائرها من قوانين الاقتصاد الوضعي إلى البحث في الأسس الفلسفيّة والقواعد والمقاصد الكلية للمالية الإسلاميّة والاقتصاد الإسلامي"، فإن فلجة بحثيّة تتعلّق ببناء نظريّة اقتصاديّة إسلاميّة شاملة ومتكاملة، ينبثق عنها نموذج منوال تنموي خاص من منظور إسلامي، ظلّت الشاغل الأكبر للباحثين الماليين والاقتصاديين. إذ إنّه على أهميّة بحوث أبي الأعلى المودودي في كتابه "أسس الاقتصاد الإسلامي" وأحمد النجّار في بحثه "طريقنا إلى نظريّة متميّزة في الاقتصاد الإسلامي" ومحمّد باقر الصّدر في كتابه "اقتصادنا" ومحمّد عمر شبرا في كتابه "Islamic and the Economic Challenge" فإنّها لم تستكمل تقعيد نموذج عملي يعتمد من طرف الدّول وحكوماتها لا مجرّد مؤسسات.
وفي مجال المقاصد ـ التي تعتبر بوصلة الاقتصاد الإسلامي الفكريّة والتّأصيليّة ـ كتب وقعّد باحثون كثر أبرزهم أشرف دوابة وسالم سويلم وجمال الدّين عطيّة (نحو تفعيل مقاصد الشريعة الإسلاميّة) على أمل استيعاب المالية والاقتصاد الإسلاميين كلّ المستجدّات من وجوه التعامل في الاقتصاد والمالية الوضعيين، فتغطي إذن الأحكام الشرعيّة بالاجتهاد المقاصدي كلّ الأوضاع التفصيلية الجاري بها العمل في المجال الاقتصادي والمالي بل وابتكار حلول جديدة بميزان شرعي لمشاكل يعاني منها عالم الاقتصاد كما كشفت عنه الأزمات المتتالية التي ما فتئت تضرب العالم بين الفينة والأخرى.
ويأتي كتاب "مقاصد الاقتصاد الإسلامي" الذي بين أيدينا للباحث الدكتور محمّد النوري لبنة مهمّة في مجال المقاصد. إذ يطرح "مقاربة جديدة تجمع بين مقاصد المقاصد ومقاصد الاقتصاد للتوصّل إلى استكشاف ما يمكن تسميته بـ "مقاصد الاقتصاد الإسلامي" المنبثقة من المقاصد الكلية للشريعة الإسلاميّة". لبنة بحثيّة منبثقة عن مقاربة كليّة تستهدف استجلاء المقاصد الاقتصاديّة الجامعة والحاكمة للسلوك الاقتصادي برمته لا مجرّد مقاربة مالية صرفة ـ وبالتالي لا تشمل الأبعاد الاقتصادية الشاملة ـ ولا مقاربة جزئية تلامس فقط الجوانب الاقتصادية.
بنية الكتاب
ينقسم كتاب "مقاصد الاقتصاد الإسلامي" ـ الذي أعدّ أطروحة علمية لنيل شهادة الدكتوراه تمّت مناقشتها بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانيّة بباريس بتاريخ 19 كانون الأول (ديسمبر) 2019 ـ إلى مقدّمة وثلاث أبواب رئيسية وخاتمة.
يتناول الباب الأوّل مقاصد علم المقاصد، أي الغايات الكبرى العلميّة والعمليّة لعلم المقاصد التي يمكن الاهتداء بها في المجال الاقتصادي، وهي، كما ذكر الرّيسوني على ثلاثة أنواع: مقاصد المقاصد في فهم الكتاب والسنّة ومقاصد المقاصد في الفقه والاجتهاد الفقهي، والمقاصد العمليّة للمقاصد، حيث أنّ العلوم المنبثقة عن الدّين، ومن ضمنها علم المقاصد، لا تطلب لغايات معرفيّة خالصة، بل لا بدّ "أن تكون ذات مقاصد عملية ومردودية عميقة"، وفي مقدّمتها "ترشيد السياسة الشرعيّة". ومن ضمن السياسة الشرعية بالطبع السياسة الاقتصاديّة.
ويتناول الباب الثاني مقاصد علم الاقتصاد بمعنى الأهداف الكبرى التي يرمي إليها والتي يمكن ربطها بالمقاصد، وهي جملة الغايات العلميّة والعمليّة (النظرية والتطبيقية) لعلم الاقتصاد على غرار مقاصد علم المقاصد من خلال استقراء الأهداف الكبرى التي رسمت لهذا العلم من جانب وحصائل التجربة التطبيقية للسياسات والخيارات المنبثقة عنه من جانب آخر، وتتمثل في بناء نظريّة اقتصاديّة جامعة تقوم على فرضيّات سليمة ومنهج علمي صائب من جهة، وتقديم المشكلات من جهة ثانية، وبلورة منوال تنموي قادر على تحقيق الأهداف الاقتصاديّة والاجتماعيّة وصالح لكلّ الأوضاع والأحوال من جهة ثالثة.
بينما يتناول الباب الثالث المقاصد الاقتصاديّة للشريعة الإسلاميّة، التي يمكن إدراجها ضمن العنوان الرئيسي للبحث وهو مقاصد الاقتصاد الإسلامي والتي من خلالها يصبو هذا الكتاب، إلى أن يكون إضافة جديدة في إطار البحث في مجالي الاقتصاد والمقاصد في آن واحد، وبالتالي الإجابة على الإشكالية الرّئيسية المطروحة في بداية الكتاب وهي استكشاف جملة من المقاصد الاقتصاديّة الكلية للاقتصاد الإسلامي المستنبطة من الشريعة الإسلاميّة التي تتقاطع في نفس الوقت مع مقاصد علم الاقتصاد المعاصر.
وقد أدّى الاستقراء المقارن إلى التوصّل إلى ستّة مقاصد ذات علاقة بتحقيق تلك الأهداف وهي: الإعمار والأمن والتمكين والتوازن والعدل والاستدامة.
إنّ مجرّد التأمّل في عناوين المؤلفات والكتابات الغربيّة الحديثة "المبشرة" بقرب زوال الرّأسمالية والمطالبة بإنتاج بديل اقتصادي إنساني عالمي عنها يدرك دون عناء التقارب الذي قد يصل إلى حدّ التطابق شبه التّام بين معالم البديل المطلوب وبين خصائص المشروع الاقتصادي الإسلامي ومبادئه العامّة وقواعده المتميّزة.
ولئن كانت هذه المقاصد تحمل مضامين ومدلولات أشمل وأعم من المضمون الاقتصادي إلاّ أنّ تلك المضامين والأبعاد العامّة والشّاملة مرتبطة أشدّ ارتباط بالبعد الاقتصادي ولا يمكن تحقيقها إلاّ من خلاله. فالإعمار لا يحصل إلاّ بالعمل والإنتاج وتوليد الثروة واستخراج كنوز الطبيعة واستثمارها، والأمن لا يحصل إلاّ بتوفير حدّ الكفاية من الضروريات الحياتية لمعاش الإنسان والتمكين مرتبط بالمناعة والقوة الاقتصاديّة وبسط النفوذ المادّي دون طغيان والتوازن يتطلّب تعظيم المنافع وترشيد الاستهلاك والاستخدام وكلّ ذلك مرهون بتوخّي العدل وتجنب الظّلم وكلّ ألوان البغي والعدوان، والاستدامة تظلّ شرطا ضروريّا لتحقيق كلّ ما سبق واستمراره.
وتتناول الخاتمة التذكير بنتائج البحث وخلاصاته الأساسة وتقديم بعض التوصيات من أجل فتح آفاق جديدة لاستكمال هذا البحث. أمّا النتائج والخلاصات فهي تتعلّق بالمقاصد الستة التي تمّ التوصّل إليها من خلال استقراء النصوص والمبادئ التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي من جهة واستحضار الأهداف والمقاصد الكبرى التي قام من أجلها ما أسماه عبد المجيد النجار في تقديمه للكتاب بعلم الاقتصاد الوضعي ولا تزال تحكم معظم الأنظمة والسياسات الاقتصاديّة في عالم اليوم. وأمّا التوصيات والمقترحات فتتعلّق بأهمية استكمال البحث في المنظومة المقاصدية في المجال الاقتصادي.
قصور النّظريّة الاقتصاديّة الليبراليّة في استشراف الأزمات
لا ينتطح عنزان في الإقرار بمأزق النظام الرّأسمالي العالمي واحتدام أزمته المالية والاقتصاديّة التي باتت تعصف به يوما بعد آخر. فهاهي صيحات العديدين من العلماء والخبراء وصنّاع القرار السياسي والاقتصادي تطالب بمراجعة جذريّة للأسس والقواعد النّظريّة للنظام وإصلاح هيكلي لمؤسساته. ويمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر موريس ألياس (Maurice Allais)، الاقتصادي الفرنسي الذي ما فتئ يحذّر من مغبّة الانحدار الذي وصل إليه النظام الاقتصادي العالمي بقيادة الليبرالية المتوحّشة، وأيضا الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيغليتز ـ رئيس لجنة الأمم المتحدة لإصلاح النظام الاقتصادي الدّولي ـ وغيرهم من الاقتصاديين الغربيين الكبار مثل أمارتيان سان الحائز مثل سابقيه على جائزة نوبل في الاقتصاد وكروغمان وادموند فيلبس وويليام بويتر وفيليب كوتلر وتوبي بيرش وفولكر نينهاوس وغيرهم.
يقول الدكتور محمّد النّوري إنّ مجرّد التأمّل في عناوين المؤلفات والكتابات الغربيّة الحديثة "المبشرة" بقرب زوال الرّأسمالية والمطالبة بإنتاج بديل اقتصادي إنساني عالمي عنها يدرك دون عناء التقارب الذي قد يصل إلى حدّ التطابق شبه التّام بين معالم البديل المطلوب وبين خصائص المشروع الاقتصادي الإسلامي ومبادئه العامّة وقواعده المتميّزة.
ويضيف النوري بالقول: إنّ هذه المطالبات تكاد تجمع على ضرورة أن يكون البديل المنشود نظاما اقتصاديّا إنسانيّا أخلاقيّا اجتماعيّا تضامنيّا عادلا يضع حدّا لتوحّش الليبراليّة وجشعها وطغيان الفردانيّة والأنانية وروح السيطرة والاستغلال فيها. كما تتفق هذه المطالبات أيضا باستحالة تخليق الرّأسماليّة بوجهها القائم وأنسنتها أو إصلاحها بشكل يجعلها أكثر عدالة ورحمة إزاء الشرائح والطبقات المسحوقة في كلّ المجتمعات التي تحكمها.
والمتأملّ في الأدبيّات الفكريّة والاقتصاديّة والاجتماعية الغربيّة خلال العشريات القليلة الأخيرة لا يكاد يحصي العناوين التي تتناول أزمة الرّأسماليّة وسقوط الرّأسمالية ومستقبل الرّأسمالية ونهاية الرّأسمالية وما بعد الرّأسمالية وغيرها من العناوين المثيرة للسؤال عن البديل الممكن ومصير الإنسانيّة في غياب كلّ من الاشتراكية والرّأسماليّة.
محدوديّة علم المقاصد الإسلامي في عدم معالجة الواقع الإنساني
في إطار رحلة البحث عن البديل وما تمّ عرضه من أفكار وأطروحات تتطلّع إلى أن تجيب على التناقضات الرّأسمالية والمقاربات المتعددة التي تعبّر عن حاجة البشريّة إلى نظام اقتصادي عالمي جديد، يجد السؤال عن المشروع الاقتصادي الإسلامي بالضرورة مكانه في خضم هذا التيه الفكري والضلال المنهجي، ليس باعتباره مشروعا للمسلمين المعتنقين ديانته فحسب، ولكن ربما وبشكل أكبر باعتباره مشروعا للإنسانية جمعاء ولكن بأيّ معنى وأيّة مقصديّة؟
من خصائص الاقتصاد الإسلامي التي تزخر بها الكتابات والمؤلفات المعاصرة، الإنسانية والعالمية ولكن دون تحديد مضمون واقعي وعملي لتنزيل هذه الخصائص والمميّزات المهمّة وتحويلها من دائرة الشّعار إلى فضاء الواقع والتطبيق.
الحاجة المتبادلة بين علم المقاصد الإسلامي وعلم الاقتصاد المعاصر
تلتقي جملة من المقاصد الكلية في المجال الاقتصادي مع مقاصد علم الاقتصاد المعاصر، وتشكّل إضافة جديدة لكلا المجالين: مجال المقاصد الذي يحتاج إلى تنزيل وتفعيل في واقع الإنسان فردا كان أو جماعة وخصوصا الواقع الاقتصادي، ومجال الاقتصاد الذي يحتاج اليوم أكثر من أي وقت آخر إلى بوصلة فكرية وقيمية من خلال إضفاء ما يسميه الدكتور محمّد النوري بمزيد من التخليق (البعد الأخلاقي)، والأنسنة (البعد الإنساني)، والانفتاح على المجالات الإنسانية الواسعة (البعد الاجتماعي والبعد الثقافي) فضلا عن الاستدامة واعتبار حقوق الأجيال اللاحقة (البعد الزمني). وقد بيّن الكاتب في ثنايا هذا البحث الحاجة الملحّة التي عبّر عنها روّاد علم الاقتصاد المعاصر، ومن داخل المنظومة الرّأسماليّة نفسها، إلى هذه الأبعاد المتعددة من أجل إنقاذ علم الاقتصاد وتجديده، وإخراجه من الأزمة الخانقة التي تعصف به على الصعيدين النظري والتطبيقي. كما بيّن النوري أنّ كلّ تلك الأبعاد المرغوبة تلتقي مع أطروحة الاقتصاد الإسلامي التي تحظى باهتمام عالمي متصاعد، وترتفع أصوات عديدة للمطالبة بالالتفات إليها وإلى المبادئ الأساسية التي تقوم عليها.