هل يمكن لبلد صغير مثل
تونس أن يعتمد
سياسة خارجية محايدة لا تورط البلد في النزاعات الإقليمية والدولية و"الحروب بالوكالة" التي يشهدها محيطها القريب والبعيد ودول الجوار والفضاءات التي تشكل عمقها الجيو استراتيجي الأفريقي والعربي والأورو متوسطي؟
وكيف يمكن لصناع القرار في تونس الجديدة أن يوظفوا ضعف البلاد الاقتصادي والعسكري وصغر حجمها لتبرير حيادها في الحروب والنزاعات وصراعات العمالقة على ثروات المنطقة ومناطق النفوذ فيها، بزعامة الولايات المتحدة والحلف الأطلسي من جهة وروسيا والصين والدول الصاعدة من جهة أخرى؟
وهل يمكن للجيل القادم من ساسة تونس أن يصنعوا من الضعف قوة في مرحلة تخوض فيها الدول العظمى والتكتلات العسكرية وقيادات الحلف الاطلسي وروسيا والصين، سباقا للتموقع في شمال أفريقيا وخاصة في تونس وليبيا، باعتبارهما مدخلا للسوق الأفريقية العملاقة ومرتكزا للاستثمارات الواعدة في ال 50 دولة أفريقية خلال العقدين القادمين؟
وإذا كانت السلطات والنخب في تونس اعتمدت منذ مطلع القرن الـ19 مناهج إصلاح لسياسات البلاد الداخلية والخارجية بهدف بناء مؤسسات دولة وطنية مستقلة ذات سيادة ومحايدة، فهل يمكن لسلطات المرحلة القادمة توفير ضمانات حياد مؤسسات الدولة ودبلوماسيتها رغم اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية الاقتصادية والأمنية والعسكرية التي تجمعها بعدة قوى ومؤسسات من بينها مفوضية الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية والبنك العالمي وصندوق النقد الدولي وصناديق التنمية الأفريقية والعربية والإسلامية؟
هذه الإشكاليات وغيرها شجعت 3 خبراء أكاديميين متعددي الاختصاصات، لديهم تجارب طويلة مع مراكز الأبحاث والدراسات العالمية، على إعداد هذا
الكتاب الذي يقدم 3 دراسات من زوايا مختلفة لثنائيات الحياد والتبعية، الاستقلالية والشراكة، عدم الانحياز وتقاطع المصالح، العمل المشترك والخصوصيات، السيادة الوطنية والمصالحة مع النظام الدولي..
وقد حرص المؤلفون الثلاثة لهذا الكتاب، الأساتذة عفيف البوني وعبد الرحمان بالحاج علي وكمال بن يونس، على أن يوفقوا في ورقاتهم بين مقتضيات المنهج العلمي الأكاديمي والحاجة إلى الاقتراب من الجمهور العريض عبر تجنب تعقيدات الدراسات الجامعية. لذلك قاموا بتبسيط بعض المعطيات وسعوا إلى الاقتراب أكثر من الواقع وإلى تقديم أمثلة حية وميدانية وتوصيات عملية لصناع القرار والنخب والرأي العام.
وكانت الحصيلة 3 ورقات تستحث السياسيين والدبلوماسيين والخبراء الاستراتيجيين على التفكير بجدية أكبر في سيناريو إبعاد تونس عن لعبة المحاور العسكرية والسياسية الإقليمية والدولية ودفعها نحو تبني سياسات "حياد ايجابي" سياسيا وعسكريا وأمنيا، رغم الإقرار بصعوبة الحديث عن الحياد الشامل والاستقلالية الكاملة في "عصر العولمة والثورة المعلوماتية"، التي "أصبح فيها العالم قرية صغيرة ".
هذا الكتاب لا يقدم إجابات قطعية وحاسمة لكل التساؤلات التي تفرض نفسها عند مناقشة إشكالية الحياد والاستقلالية زمن العولمة واختلال التوازن بين القوى العظمى دوليا.
لكنه يفتح باب الحوار على مصراعيه بين المختصين في العلوم الإنسانية والدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية والمتغيرات الأمنية والتحولات الإقليمية والباحثين الأكاديميين والإعلاميين والنشطاء السياسيين.
وقد تعمد المؤلفون الثلاثة التمهيد لدراساتهم بمدخل نظري وقراءة تاريخية، وحاولوا أن ينظروا إلى التحديات الجديدة التي تواجه تونس وعمقها الجيو استراتيجي وبينها تحديات التنمية والأمن الشامل.
فعسى أن يكون هذا الكتاب مساهمة في حوار وطني أعمق وتمهيدا لكتابات جديدة يثريها أكاديميون وكتاب من مختلف الاختصاصات، في هذه المرحلة التي تعمقت فيها التناقضات داخل النخب الوطنية والمجتمع، رغم الدعوات المتعاقبة للحوار حول "المشترك" الوطني وحول سبل مواكبة التقدم العلمي والاقتصادي والمجتمعي العالمي.