هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "سوريا بين الحرب ومخاض السلام"
الكاتب: جمال قارصلي وطلال جاسم
الناشر: منشورات "مركز الآن " (Now Culture)، تشرين الثاني (نوفمبر) 2019.
لا بد من التأكيد أن سوريا أصبحت متموضعة على خريطة اقتسام الأدوار بين القوى الإقليمية والدولية الكبرى، وباتت سوريا تقع في بؤرة الصراع بين القوى الإقليمية والدولية، لا سيما بعد الانخراط الروسي العسكري في سوريا، الذي ينطلق من حسابات الأمن القومي الروسي، في ظل تنامي الحركات الجهادية في منطقة الشرق الأوسط، ومن مقتضيات المواجهة بين روسيا وحلف الناتو على خلفية الأزمة الأوكرانية، وما تتطلع إليه موسكو من استعادة روسيا مكانتها كقوة كبرى فاعلة ومؤثرة في الأزمة السورية، في سبيل تحويل النظام الدولي من الأحادية القطبية، التي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، إلى نظام دولي تعددي تؤدي فيه روسيا وعدد من القوى الإقليمية الصاعدة دورا محوريّا وموازيا للدور الأمريكي.
كما انتقلت الاستراتيجية الأمريكية في إدارة الصراعات الإقليمية في كل من العراق وسوريا إلى تأسيس نمط من تقسيم المنطقة، على أسس طائفية ومذهبية وعرقية بين كيانات متناحرة، يستنزف بعضها بعضا، ولا يمكن لأي منها الانتصار أو الهيمنة، بما يخفض أي تهديد بالنسبة لإسرائيل.
توازن دولي
لقد نجحت روسيا في السنوات القليلة المنصرمة من الأزمة والحرب في سوريا، في بناء التوازن الاستراتيجي مع الغرب أو الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي في سوريا، ومن ثم إعادة بناء التوازن الدولي بكامله، أو لنقل توازن القوى في النظام الدولي، بعدما اختل ميزان القوى الدولية لمصلحة واشنطن وحلفائها في الغرب، في أمريكا وأوروبا، وفي العالم بأسره، كما تمكنت من منع أو ربما لجم التدخل العسكري الغربي، المباشر والكبير، في الأحداث أو المعارك السورية.
وتمكنت روسيا كذلك من المحافظة، حتى اليوم، على وحدة الدولة الوطنية السورية وضمانها ومنع التقسيم أو الفدرلة، ومعها في ذلك حلفاؤها وأصدقاؤها بطبيعة الحال، على الرغم مما يقال وما يحصل في الميدان، ناهيك عن فرض خطوط حمراء في سوريا، وتأمين الالتزام بها أو عدم تجاوزها وتخطيها، لا سيما في مجال بقاء السلطة السياسية واستمرارها، وما تمثله على المستويين الداخلي والخارجي، ذلك أن نظام الحكم السياسي في سوريا، لم يعد هو نفسه بعد كل هذه المستجدات.
يتضح مما سبق بأسره، أن سوريا تقع، بفعل عوامل الجغرافيا السياسية ومعطياتها، في القلب من عملية إعادة هندسة كبرى مترددة ومتعثرة لمنطقة الشرق الأوسط، لا تقتصر تداعياتها على مخرجاتها المباشرة في تلك المنطقة، ولكن ستمتد تداعياتها إلى البنية الكلية للنظام الدولي. وفي هذا الإطار، يبدو أنّ أي مسعى لتسوية الأزمة السورية، وفقا لمنطق تقاسم النفوذ، ومبدأ "لا منتصر و لا مهزوم"، لا يضمن بأي حال توافقات بين المصالح المتصارعة، وطاقة القوى المتعارضة التي حفزها الصراع في سوريا بقدر ما تأجج بسببها. لذا، يتوقع إما ألا تنجح مساعي التسوية في سوريا، في ظل استمرار معطيات الصراع الكامنة في بنى الحكم والسلطة وقواعد الشرعية المتنافسة في الشرق الأوسط، وكذلك في تنامي قوة الأطراف الدولية الكبرى، ذات نزعة المراجعة لنموذج الهيمنة الأمريكي، منخفض التكلفة، على مقدرات النظام الدولي، وإما أن تنتقل هذه الاتجاهات المتصارعة والمتعارضة على فضاءات أخرى عبر الشرق الأوسط، قد تشمل كيانات وأقاليم القوى المتصارعة ذاتها.
ضمن هذه الرؤية، يأتي كتاب "سوريا بين الحرب ومخاض السلام" للباحث جمال قارصلي، وهو نائب ألماني سابق من أصل سوري، وطلال الجاسم وهو باحث اقتصادي وموظف سابق في دوائر سورية وخليجية متعددة، والاثنان مقيمان في ألمانيا، إذ صدر هذا الكتاب عن منشورات "مركز الآن" (Now Culture)، وجاء بنسخته العربية في 304 صفحات من القطع المتوسط، ليقدم لنا دراسة جديدة، هي أقرب للمغامرة البحثية، تطرح حلا للأزمة السورية.
ويعد الكتاب من أهم الدراسات والأبحاث التي ظهرت في السنوات الأخيرة، وحاولت أن تقدم رؤية معينة لإيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية.
يقول الباحثان: "جاءت فكرة الكتاب من واجبنا تجاه بلادنا، حيث تعقد سبل الحلّ للصراع في سوريا كمحاولة لإثارة النقاش بين السوريين للمبادرة في استعادة قرارهم الوطني، ورسم خارطة طريق للخروج من هذه المأساة".
يضيف الباحثان: "هذا الكتاب يضع وفق الممكن والمتاح خططا مدروسة قابلة للتطبيق، انطلاقا من فهم وبحث عميق للوضع العام في سوريا من أجل إعادة بناء الدولة السورية، التي طالما حلم بها الكثير من السوريين، دولة الحرية والكرامة والديمقراطية، حيث إنّنا نعدّ بأنّ قوة الدولة ومؤسساتها هي الضامن الوحيد لكل الحقوق والتفاهمات والاتفاقات المبرمة بين كل فئات المجتمع ومكوناته، من أجل وضع أسس متينة لدولة المواطنة والعدالة والمساواة".
المحددات الداخلية لنجاح إعادة بناء الدولة الوطنية
يظل الانتصار على الإرهاب في بعده الاستراتيجي مرهونا بإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في سوريا، وفي كل دول الشرق الأوسط على أسس جديدة، ويقصد بإعادة بناء الدولة إدخال تحولات جذرية على بنية مؤسسات الدولة، كي تتمكن من أداء وظائفها الأمنية، والاجتماعية، والسياسية، بكفاءة تستند إلى الشرعية والرضا المجتمعي.
ومما يؤكد هذه الإمكانية، أنّ المقاربات التي يقدّمها قارصلي وجاسم بين دفتي الكتاب، الذي يتضمن عددا من الأبحاث والدراسات العلمية والعملية، رسم خارطة طريق للخروج من الأزمة السورية السورية، والحلّ ـ وفقا لرؤيتهما ـ يأتي عبر تسويات بين مصالح السوريين الوطنية ومصالح اللاعبين الدوليين، تضمن إقامة دولة المواطنة والقانون، من خلال الوصول إلى توافقات شاملة وجامعة في مؤتمر وطني عام، يشكّل الخطوة الأولى لمخرج مقبول من هذه الكارثة التي حلت بالسوريين.
غير أنَّ إعادة بناء الدولة الوطنية في سوريا، لا بد أن تمر بمجموعة من المراحل المتتابعة، يتمثل أهمها في:
أولا ـ إنهاء الصراع المسلح رسميا: عبر القضاء على الإرهاب، وتحقيق المصالحة الوطنية بين مختلف مكونات الشعب السوري، ويتم غالبا من خلال الاتفاق على عقد اجتماعي وسياسي جديد يوقعه أطراف الصراع، بشرط أن يحظى هذا الاتفاق برضا جميع الأطراف المؤثرة.
ثانيا ـ الشروع في تنفيذ التعهدات وإزالة آثار الصراع: ومنها؛ تسليم السلاح، وإعادة المناطق التي تمت السيطرة عليها من قبل بعض التنظيمات الجهادية، وعودة اللاجئين والمهجرين، وإزالة الألغام، وعقاب مرتكبي الأفعال الإجرامية.
ثالثا ـ التسوية السياسية: وهي المرحلة التي يتم فيها التوافق بين النخب السياسية وأطراف الصراع حول شكل الدولة، وطبيعة نظام الحكم، والنظام الانتخابي، ويتم وضع دستور لها. إنّ نجاح مشروع التسوية يتطلب الحوار المفتوح بين كل التيارات الفكرية والسياسية السورية من خلال مؤتمر وطني عام، بهدف الكشف عن الممكنات في الواقع السوري، وبناء أولوياتها وتوازناتها عبر منهج عقلاني هادئ، يقوم على التدرج وقبول الحوار مع الرأي الآخر ونبذ العنف والتطرف وعقد الماضي.
ومما لاشك فيه أنّ تجسيد مثل هذا الحوار، بأهدافه وموضوعاته، منوط بالسلطة أولا، ويعكس مدى جديتها في برنامج الإصلاح والتحديث؛ إذ من المفترض أن تبادر إلى الدعوة الشاملة إلى الحوار المفتوح والمجدي والعملي، مما يرفع من شأنها في أعين المجتمع ويفتح في المجال لتجسيد قيم الإصلاح وحاجاته في الواقع. ومما يسهّل مثل هذا الحوار أنّ ثمة تقاطعا بين مشروعي السلطة والمعارضة الوطنية، يمكن أن يساعد على إجراء تحوّلات ديمقراطية متدرجة، تهدف إلى إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة.
في بيئة سورية تعج بالتعدد الديني، والعرقي، فإنَّ نظام الحكم الذي يرونه مناسبا للحالة السورية هو"أن يكون نظام الحكم برلمانيا ديمقراطيا، مع الاعتماد على اللامركزية الإدارية الموسعة في إدارة شؤون المحافظات والمدن، مع منحها صلاحيات واسعة في أغلب المجالات، التي قد تفوق الصلاحيات الممنوحة في الأنظمة الفيدرالية.
رابعا ـ بناء المؤسسات وإرساء الأسس اللازمة لإطلاق عملية التنمية: حيث يتم البدء في اتخاذ الإجراءات التي تساعد على إصلاح المؤسسات، والعمل على استعادتها على حفظ السلام، وإرساء الأمن.
خامسا ـ إعادة هيكلة العلاقات المدنية ـ العسكرية: وذلك من خلال نزع سلاح المواطنين، والفصائل السياسية الراغبة في الانخراط في العملية السياسية، وحل المليشيات المسلحة، أو دمجها في المؤسسة العسكرية.
سادسا ـ نشر ثقافة السلام والقيم والمصاحبة لها؛ ونعني بها تثبيت ركائز السلام المتضمنة معاني التعايش، والحرّية، والعدالة، والديمقراطية على المستويات الثقافية والفكرية داخل المجتمع، وتحييد ثقافة الصراع، قدر الإمكان.
سابعا ـ توافر الإرادة الحقيقية لإعادة بناء الدولة الوطنية: يتضح مدى أهمية هذا العنصر عند مقارنة حالة اليابان، على سبيل المثال، بحالتي العراق وأفغانستان. ففي الحالة الأولى، توافرت نية حقيقية لإعادة بناء اليابان، وكان الهدف الرئيسي واضحا، وهو تحويلها إلى دولة ديمقراطية تنبذ الحرب من أجل ضمان عدم دخول دول العالم في حرب عالمية ثالثة. أما في حالتي العراق وأفغانستان، فلم تكن نية بناء الدول حاضرة فعليا، بقدر ما استغل الشعار غطاء لأهداف أخرى متعلقة بتوازنات القوة.
ثامنا ـ درجة استعداد القوى المنوط بها البناء لدفع الثمن ومدى مساندة نظامها الداخلي: وليس المقصود هنا الثمن المادي فحسب، وإنما مجمل الجهود التي تبذل في سبيل تحقيق هذا الهدف.
تاسعا ـ التخطيط الجيد لمراحل إعادة البناء: من خلال وضع أولويات واضحة لعملية إعادة البناء، تتضمن إجابات محددة على التحديات المتوقعة، ومشاركة مختلف القوى، سواء المنوط بها البناء، أو الأطراف الداخلية، في وضع هذه الخطط وصياغتها، على أن تتمتع هذه الخطط بالمرونة الكافية عند التطبيق بشكل يضمن كفاءتها وفاعليتها.
عاشرا ـ ضرورة اختيار النظام السياسي الأنسب للدولة الوطنية: وليس هو بالضرورة المفضل من قبل القوى المنوط بها البناء، وليست العبرة بطبيعة النظام بقدر ما تتعلق بمدى قوة مؤسسات الدولة التي تم بناؤها، وقدرتها على القيام بوظائفها. يرتبط بذلك ضرورة كتابة دستور جامع للهويات الفرعية داخل المجتمع المنقسم، بحيث لا يكون أسيرا لميزان القوى المتغير باستمرار.
من وجهة نظر الباحثين قارصلي وجاسم، في بيئة سورية تعج بالتعدد الديني، والعرقي، فإنَّ نظام الحكم الذي يرونه مناسبا للحالة السورية هو "أن يكون نظام الحكم برلمانيا ديمقراطيا، مع الاعتماد على اللامركزية الإدارية الموسعة في إدارة شؤون المحافظات والمدن، مع منحها صلاحيات واسعة في أغلب المجالات، التي قد تفوق الصلاحيات الممنوحة في الأنظمة الفيدرالية، وهنا نذكر المثال الفرنسي في اللامركزية الإدارية. في كلا الحالتين نرى بأنّ تطبيق مبدأ البرلمان المركزي المعروف في كل التجارب الديمقراطية، برلمانا مركزيا آخر، يشبه في تركيبته برلمان الولايات الألماني الذي يسمى بالـ (بوندسرات)، والذي يمكننا أن نطلق عليه اسم البرلمان المركزي".