أربعة أيام أو يزيد، خاض
المقدسيون فيها معركة شعبية مركزة، رفضوا حواجز
الاحتلال الإسرائيلي عند باب
العمود بالمسجد
الأقصى المبارك، وصدوا اعتداءات المستوطنين، وقاوموا شرطة الاحتلال
بصدورهم العارية، ورفعوا راية المقاومة الثورية، ورفضوا سياسة الاحتواء.. كل ذلك
في سبيل الحفاظ على كرامة
القدس والمسجد الأقصى المبارك، في ظلال هذا المشهد الذي
أدى إلى انتصار الإرادة
الفلسطينية على غطرسة المحتل الإسرائيلي، نُسجل القراءة
التالية:
أولا: ظنَّ بعض المراهنين على سياسة الانهزام أنَّ الشعب الفلسطيني قد
أُنهيت قضيته، وأنَّ الانقسام الفلسطيني الداخلي، وتطبيع بعض الأنظمة العربية مع
السلطات الإسرائيلية، وصفقة القرن الأمريكية التي تسعى لإنهاء الوجود الفلسطيني..
قد أنهكت الروح الوطنية لدى الجماهير الفلسطينية، وأنَّ العدو الإسرائيلي سيُكمل مخططاته
الإجرامية على أكمل وجه وما عليه إلا أنْ يشق طريق الوقت لتحقيق ذلك، غير أنَّ ما
قام به المقدسيون أثبت عمليا أنَّ الفلسطيني لم يفقد الأمل، وأنَّ التضحية والفداء
جذور في جيناته، وأنّه سينتفض يوما لإزالة الاحتلال وأعوانه.
ثانيا: أثبتت المعركة الشعبية في القدس أنَّ المسجد الأقصى المبارك والقدس
ليست البوصلة لحقيقة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل إنها المحور الجامع
الذي يدور الفلسطينيون في فلكه. ولننظر إلى الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة
الغربية وأراضي 1948 ومخيمات لبنان، والفلسطينيون في أوروبا.. جميعهم انتفضوا
كالجسد الواحد نصرة للمسجد الأقصى، سواء من خلال المظاهرات الشعبية، أو التغطية
الإعلامية. لقد عاشوا الأحداث يوما بيوم، وشعروا بكل تفاصيلة.
ثالثا: ذكرنا المقدسيون من خلال مقاومتهم الباسلة بأحداث
الانتفاضة الأولى
التي جمعت بين إرادة الشعب الفلسطيني في النضال، وقوة تأثيره وسرعة انتصاره.
والناظر في سبب المعادلة يجد أنه لم تكن لدينا حسابات ضيقة، ولا مصالح مناطقية
منفصلة، لذلك كان العدو يُقاوم وفي اليوم الثاني يضطر لفتح الطرقات أمام أرزاق
الناس والاهتمام بعدم إغضابهم، أما وقد أُوجد بين الشعب الفلسطيني في الضفة
الغربية وقطاع غزة وسيطا أُسمي "السلطة"، فقد أُشغلنا في بعضنا،
واستنزفنا أوقاتنا، وتبدلت الأولويات، وانفض الناس عنا.
رابعا: إيقاف التغول الإسرائيلي نحو مزيد من الإجراءات التعسفية، وهذه نقطة
غاية في الأهمية، فالفلسفة التي يقوم عليها الاحتلال هي التمدد طالما أنَّه لا
يوجد مقاومة، وهذا ما يفهمه المقدسيون جيدا، لذلك هم حذرون من أن يخلق الاحتلال
أمرا واقعا لأي إجراء أمني في المسجد الأقصى المبارك، وقد نجحوا في ذلك. في
المقابل، نجد أنَّ الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية قد تضاعف إلى خمس أو ست
مرات في وجود السلطة، مقارنة بالفترة ما بين 1967 إلى 1994؛ وذلك بسبب سياسة
السلطة الفلسطينية التي تعتمد على مسار المفاوضات غير المتكافئة، الأمر الذي أتاح
للاحتلال أنْ يتمدد دون عوائق.
خامسا: سرعة عدول الاحتلال الإسرائيلي عن إجراءاته التعسفية؛ وذلك خوفا من
امتداد أحداث المقاومة الشعبية إلى مدن وقرى الضفة الغربية، وكذلك إلى أراضي 1948،
وقطاع غزة، وبالتالي ستزداد بقعة المواجهة، وهروبا من إحياء روح مقاومة الاحتلال
الإسرائيلي في الوطن العربي، وخصوصا في ظل موجة التطبيع المخزية، أيضا تجنبا
للاستنزاف المادي والمعنوي لجنوده، وصورته أمام العالم وهو يُعبر عن حقيقته
الإجرامية في التعامل مع الفلسطينيين.
بتقديري إنَّ النصر الذي حققه المقدسيون في
معاركهم الأخيرة (البوابات الإلكترونية، باب الرحمة، باب العمود، وغيرها من
المعارك المتعاقبة)، ليست معارك وأحداثا عابرة، وإنما هي عبرة لمن أراد أن يكنس
الاحتلال عن أرض فلسطين، ونموذجا ذات طابع عملي، عنوانه الاشتباك المباشر مع العدو
على أساس القدس يمنحك رفعة، ونصرا مؤزرا.