هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ثمة كتابات وأصوات تدعو إلى تقليص دائرة الثوابت في الإسلام، تحت ذرائع كثيرة كتاريخة النص، وبشرية اجتهاد الفقهاء، وصراعات المذاهب العقدية والفقهية عبر الممارسة الإسلامية التاريخية.. وهو ما يفتح الباب وفق المنظومة الأصولية إلى ترحيل جملة من ثوابت الدين إلى دائرة المتغيرات، ما يعني إحداث أحكام فقهية جديدة تخرج عن دائرة مقررات تلك المنظومة.
ووفقا لباحثين فإن جدلية الثابت والمتغير في الإسلام تلعب دورا هاما في طبيعة تجديد الخطاب الديني، وهو ما يحدد مجالات التجديد المطلوب إنجازها، ففي الوقت الذي تُلح فيه المنظومة الدينية الأصولية على أن ثوابت الدين العقائدية والتشريعية خارجة عن دائرة التجديد، تذهب آراء إلى أن الثوابت قليلة ومحدودة، وثمة أحكام شرعية منوطة بزمانيتها ما يعني أنها داخلة في دائرة المتغيرات.
ذلك الاشتباك الدائر حول قضية الثابت والمتغير يثير بشدة التساؤل عن معايير التفريق بين الثوابت والمتغيرات في الإسلام، وهل هي من المتفق عليه بين مختلف المذاهب الإسلامية أم هي من المختلف فيه؟ ثم ما هو القدر المتفق عليه والمختلف فيه بين تلك المذاهب؟ وهل الدعوة إلى إخراج ما هو معدود في دائرة الثوابت إلى حيز المتغيرات دعوة مستنكرة وفاعلها آثم أم ثمة ما يدعو إلى ذلك ويوجبه؟
في إجاباته عن الأسئلة المثارة أوضح الأكاديمي الشرعي المغربي، الدكتور عبد الله الجباري أنه لا "يحبذ الحديث عن ثنائية الثبات والتغير في الإسلام" وأنه "يميل إلى ثنائية الثبات والمرونة، لأن التغير قد يدل على ربط المسألة بالهوى والتشهي، وهي صفة خارجية، بخلاف المرونة التي قد تكون صفة ذاتية في الدين".
وقال الجباري تعليقا على الدعوات إلى تقليص مساحة الثوابت: "تلك الدعوة تستبطن جهلا بالدين أو تشغيبا عليه، لأن تلك المساحة مقلصة ابتداء، ولنأخذ مجال العقوبات مثلا، باعتباره المجال الذي يقلق الكثيرين، فنجد العقوبات المندرجة في الثوابت قليلة جدا، وهي عقوبة قتل النفس أو الاعتداء عليها، وعقوبات الزنى والقذف والسرقة والحرابة، وهي قليلة بل نادرة إذا ما قورنت بالعقوبات المتعددة المناطة بالاجتهاد الفقهي".
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "وهي عقوبات يمكن للعقل الفقهي أن يفتح آفاق الاجتهاد فيها، إضافة إلى أن مجموعة من الشروط ذات الصلة بتلك العقوبات تزيد من تقليصها، وإذا ربطنا أغلبية العقوبات بالاجتهاد الفقهي فهي ليست من الثوابت أولا، وهي خاضعة للتغير بتغير الأحوال والأفكار والأشخاص والأجيال والأمصار".
وتابع: "وما يقال عن العقوبات يقال عن غيرها، مثل الزواج، ففيه ثوابت نادرة، وهي الصداق والطواعية / عدم الإكراه والزوجان غير المتماثلين جنسيا، وما عدا هذه الثلاثة، فكلها قابلة للنقاش، وحتى الولي المنصوص عليه تعامل معه بعض الفقهاء بالمرونة، وإذا أضفناه فستصير الثوابت في الزواج أربعة" متسائلا "فأين هي مساحة الثوابت الشرعية التي تقلق هؤلاء"؟.
وأكدّ الجباري أن "الثابت لا يكون ثابتا إلا بالنص القطعي الصريح الفصيح، والنص بمعناه الأصولي هو اللفظ الدال على الشيء بما لا يحتمل خلافا فيه، لذلك قيل: النصوص عزيزة، ومن أمثلة النص (للذكر مثل حظ الأنثيين)، و (وإن كانت واحدة فلها النصف)، إلى غير ذلك، وإذا لم يكن في المسألة نص واضح صريح، فالمسألة قابلة للاختلاف منذ عصر الصحابة إلى الآن".
ومثل لذلك بالمواريث "فقوله تعالى: (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك)، فهذه الآية رغم أنها تبدو واضحة جلية، إلا أنها ليست نصا، لذلك اختلف الصحابة في شأنها، منهم من قال بأن للبنتين الثلثان، ومنهم من قال بأن الثلثين من نصيب الثلاثة وليس الإثنتين، تمسكا بـ "فوق إثنتين" وهذا دليل على أن المواريث رغم وجود النص القرآني في شأنها، لم تكن كل أحكامها من الثوابت، بل كانت المرونة والاختلاف حاضرا بقوة في شأنها، وما يقال عن المواريث يقال عن غيرها من المجالات".
من جهته قال الباحث المصري في العلوم الشرعية، محمد يحيى جادو "وجد العلماء أن القرآن والسنة دلا على الأحكام بمستويين لا ثالث لهما، الأول: مستوى قطعي مباشر (المحكم)، والثاني: مستوى ظني غير ظاهر الدلالة (المتشابة)، وناتج عملهم ونظرهم في النصوص أدّى إلى ثلاثة مستخلصات: الأول: اتفقوا على قطعيته، والثاني اتفقوا على ظنيته، والثالث تنازعوا فيه بين كونه ظنيا وقطعيا".
وأوضح في حديثه لـ"عربي21" أن القسم الأول الذي اتفقوا عليه جميعا، أخذوا يبحثون في أفراده عن حالة شديدة الخصوصية وهي ما الذي اتفق عليه العلماء جميعا في عصر واحد بحيث لم يخالف فيه أحد قط من علماء الأمة؟ وسموا هذا إجماعا، لأنهم رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى هذه الأمة خصوصية عدم اجتماعها على ضلالة أبدا، فنشأ لدينا ما يسمى بالمجمع عليه وهو أعلى مراتب القطعيات الذي لا يمكن أن يتطرق إليه احتمال الخطأ ما دام قد صح الإجماع بشروطه عليه".
وأضاف: "وهذا الذي يجب أن يبقى ثابتا لا يدخله تغير أبدا، كإجماع المسلمين على أن فرضية الصلاة، وحرمة الزنا، وهذه المسائل ليست بالكثيرة وقد أفرد لها العلماء مصنفات كالإجماع لابن المنذر، أو مراتب الإجماع لابن حزم".
وأردف "وأما القسمان الآخران فإنهم قد أخذوا يعملون مناهج في فهمه، وأخذ كل عالم يؤصل عددا من الأصول التي استقاها من الكتاب والسنة والعقل الصريح، كأن يأخذوا بالقياس في إلحاق ما ليس بمنصوص بما هو منصوص، أو يأخذون بقول الصحابي باعتبار أعلميته وخيريته.. إلخ".
وخلص الباحث جادو إلى القول "وجملة القول إن قضية الثبات والتغير ينظر فيه لحكم التكليف، وحكم الوضع، وينظر فيها للإجماع، وينظر فيها لمخالفة سائر المذاهب الأربعة أو الثمانية، وينظر فيها للمتكلم نفسه هل هو من المجتهدين أم لا، فإذا ما ضبط النظر في هذه المحددات أمكننا تقليص الخلاف في هذه القضية".
بدوره حدد أستاذ الفرق والمذاهب المعاصرة بالجامعة الإسلامية بغزة، الدكتور صالح حسين الرقب الثوابت "أولا: ثوابت المصدر فدين الله تعالى مصدره الأساس كتاب الله تعالى، وسنة النبي صلى الله عليهوسلمه، والإجماع، والثابت الثاني الأصول العقدية فهي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وهذه الأصول لها ثوابتها العظيمة في حياة الأمة".
وواصل الرقب حديثه لـ"عربي21" مبينا الثوابت الأخرى بالقول: "أما الثابت الثالث فهو الفرائض الشرعية كالصلاة والصوم والحج والزكاة.. والأحكام الشرعية كالحجاب والميراث والعقوبات المنصوص عليها، والثابت الرابع فيدور حول مجموعة القيم والأخلاق الحميدة".
وبين في ختام حديثه أن "المتغيرات هي الأحكام الشرعية الاجتهادية، التي تتغير بتغير الواقعة وضوابط المتغيرات، وعلى هذا يتبين لدينا أن هذه المتغيرات عندنا تُضبط بضابطين دقيقين أعني بهما الأحكام الشرعية: الأول مصدرية الكتاب والسنة هذه دائما كالشمس والقمر فوق رؤوسنا لا يمكن أن نتخلى عنهما، والثاني، أن يكون الاجتهاد فيما يتعلق بهذه المستجدات قائم على منهج صحيح هو منهج الأخذ بالدليل والترجيح بالمرجحات الصحيحة وليست الفوضى وتتبع الأقوال الشاذة".