هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يعتبر الشيخ محمد الغزالي من أهم موجهي الحركة الإصلاحية ومرشدي مسارها الفكري، إذ اضطلع بشكل خاص بتصحيح المفاهيم، وتطهير ما علق بالتراث والأفهام الدينية من رؤى انحطاطية ألصقت بالدين والنص الشرعي، والدخول في حوار علمي مع أصحاب المشاريع المنافسة، وهو ينتمي إلى مدرسة الإخوان المسلمين، ويقر بانتسابه المبكر لها، ولقائه بالبنا وتلمذته عليه، وفي سبيلها تعرض للمحنة في سجون عبد الناصر، ومع أنه فارق الجماعة في محطات متأخرة، إلا أنه كتب يشرح الأصول العشرين للإمام حسن البنا، ويعتبرها دستور الوحدة الثقافية للمسلمين، معللا استلهامه الكتاب وموضوعه من الإمام حسن البنا، الذي اعتبره مجدد القرن الرابع عشر للهجرة، واعتبر مبادئه العشرين بمثابة الإطار الذي يجمع الشمل المتفرق، ويوضح الهدف الغائم، ويعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، ويتناول ما عراهم من خلال الماضي من أسباب العوج والاسترخاء .
وقد عده الشيخ الندوي في مذكراته، من شخصيات الإخوان البارزة، وأحد كتاب النهضة الدينية في مصر، والرجل الذي يغذي جماعة الإخوان بالغذاء الفكري والروحي الصحيح.
الشيخ القرضاوي ومحمد عمارة يبسطان عناوين المشروع الفكري للغزالي
يستعرض الدكتور يوسف القرضاوي في شهادته حول الغزالي في كتاب خصصه له (الشيخ الغزالي كما عرفته) جزءا هاما من المسار الفكري للشيخ محمد الغزالي، وذلك منذ أن كان يكتب في مجلة (الإخوان المسلمون) في أربعينيات القرن الماضي في باب ثابت تحت عنوان (خواطر حرة)، حيث انطلق من قضية العدالة الاجتماعية، ومحاربة الامتيازات الطبقية، فألف كتابه الأول "الإسلام الأوضاع الاقتصادية"، ثم عرج على نقد المناهج الاشتراكية في كتابه الثاني "الإسلام والمناهج الاشتراكية"، واستمر على نفس نهجه في مواجهة الاستهدافات التي توجه إلى الإسلام من قبل خصومه، فألف كتابه: "الإسلام المفترى عليه من الشيوعيين والرأسماليين" الذي أحال عليه سيد قطب في كتابه: "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وحالت بينه وبين الاستمرار في الكتابة المحنة التي تعرضت لها جماعة الإخوان بعد حلها سنة 1948، فلم يستأنف الكتابة إلا بعد خروجه من المعتقل في سنة 1949، فألف كتابه "من هنا نعلم" في الرد على خالد محمد خالد على خلفية تأليفه لكتاب: "من هنا نبدأ" الذي احتفت به القوى العلمانية، وألف كتابا آخر في ذات الاتجاه السجالي في الرد على كتاب أصدره أحد الأقباط، الذي تهجم على الدين الإسلامي، فكتب كتابه الشهير "التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام" وذلك استجابة لطلب مرشد الإخوان المستشار حسن الهضيبي، وظهر له في نفس الفترة أيضا، كتابه "فقه السيرة" الذي لقي إقبالا منقطع النظير، وكتب كتابين أثناء فترة خلافه مع حسن الهضيبي هما "في موكب الدعاة" و"من معالم الحق" انتقد فيهما بحدة الحركة الإسلامية وقيادتها.
ثم وقع التحول في مسار الشيخ الغزالي الفكري، فتوجه إلى مجال التنوير والتبصير بحقائق الإسلام والتحذير من أعدائه، فذكر الشيخ القرضاوي ضمن هذه الموجة الجديدة من التأليف ثلاثة عشر كتابا للشيخ الغزالي، ثم وقعت له الانعطافة الأخرى، فاتجه إلى نقد التدين المغشوش، ومطاردة الأفهام الخاطئة حول الدين، فضلا عن ترشيد الصحوة الإسلامية، فكتب في هذا السياق كتابه الشهير "دستور الوحدة الثقافية للمسلمين"، وكتابه "مشكلات في طريق الحياة الإسلامية" وغيرها.
وقد اعتبر الشيخ يوسف القرضاوي الشيخ محمد الغزالي أحد أعمدة التجديد الإسلامي الرئيسة في العصر سواء باعتبار جهوده الفردية في الفكر والدعوة والتوعية والتربية أو من خلال عمله في الحركة التجديدية الكبرى حركة الإخوان المسلمين.
وعلى نفس النسق تقريبا، يقدم محمد عمارة المشروع الفكري للشيخ محمد الغزالي، والأثر الإصلاحي الذي أحدثه، إذ ذكر عشرات من كتبه توزعت محاور اهتمامها على العناوين التالية:
ـ مواجهة الاستبداد المالي والمظالم الاجتماعية.
ـ مواجهة الاستبداد السياسي
ـ مواجهة الهيمنة الغربية وتيارات العلمانية والمادية والإلحاد والتغريب
ـ مواجهة الحرفية والجمود والتقليد.
ـ تجديد الذات الإسلامية وإحياء الأمة
الشيخ محمد الغزالي وفكرة امتداد الحركة الإصلاحية
لم يحرص الإمام البنا، على إثبات الصلة بين حركته وبين الحركات الإصلاحية التي تزعمها رواد الإصلاح السابقون (الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا). ولم يتحدث بالتفصيل عن مشاريع هؤلاء الرواد. وفضل في مقابل ذلك، أن يسجل انتقادات عامة لجهود السابقين في الإصلاح. إلا أن الشيخ محمد الغزالي وغيره، ركزوا على بعض الإشارات المهمة، التي تؤسس لفكرة امتداد الحركة الإصلاحية، فقد ذكر وقوف الإمام حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، وأشار إلى الحوار المهذب الذي وقع بين البنا ورشيد رضا، وسجل المفارقة بين إعجابه الشديد بالقدرة العلمية للشيخ رشيد وإفادته منها، وبين رفضه التورط فيما تورط فيه بسبب نزوعه المتأخر للسلفية المتهجمة على التقليد وعلى العلماء وبخاصة الأزهريين منهم .
وقد ذكر الشيخ الغزالي إشارة أخرى لتثبيت فكرة الامتداد، فروى أن الأستاذ حسن البنا، رغم توسع الخلاف بينه وبين الشيخ رشيد رضا، بعد أن خالفه في إحدى القضايا الفقهية، بادر حين أصدر صحيفة الشهاب، إلى البدء في التفسير بسورة الرعد، وأنه لما سئل عن سبب البدء بهذه السورة، قال: نبدأ من حيث انتهى الشيخ الكبير محمد رشيد رضا. ولم يتردد الشيخ محمد الغزالي ـ بعد أن ذكر معالم في مشاريع رواد الإصلاح الثلاثة (الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا) في أن يعتبر مدرسة المنار، هي المهاد الأوحد للصحوة الإسلامية الحاضرة .
اعتبر الشيخ يوسف القرضاوي الشيخ محمد الغزالي أحد أعمدة التجديد الإسلامي الرئيسة في العصر سواء باعتبار جهوده الفردية في الفكر والدعوة والتوعية والتربية أو من خلال عمله في الحركة التجديدية الكبرى حركة الإخوان المسلمين.
وقد ساهم الشيخ محمد الغزالي بقوة في دفع الاعتقاد بكون الإمام حسن البنا هو أول من رفع راية المقاومة في القرن السابق، وأكد في المقابل أن جهد الإمام حسن البنا هو جهد استكمالي لجهود من قبله، من رواد الإصلاح، وأنه استفاد من تجاربهم.
على أن جهده في تثبيت فكرة امتداد الحركة الإصلاحية لم تمنعه من إعلان انتسابه لمدرسة "رسالة التعليم" التي قام بشرحها في كتاب مستقبل، معتبرا إياها دستورا للوحدة الثقافية بين المسلمين، بل أضاف إليها أصولا أخرى ارتأى أن الحاجة تدفع إليها، واعتبر أن الصور التي كانت ترسم المشد الفكري والسياسي والاجتماعي والمذهبي للأمة، والتي دعت البنا إلى إنتاج رسالة التعاليم، لا تزال قائمة، لاسيما ما يرتبط بصور الانقسام، مجسدا في انفصال القيادة السياسية عن القيادة الفكرية، وانقسام التعليم الديني عن التعليم المدني، وانقسام داخل التعليم الديني، بين الفقهاء والصوفية، وانقسام داخل طرق الصوفية، وانقسام مذهبي داخل الفقهاء، وانقسام آخر بين الفقهاء وأهل الحديث، وانقسام الأحزاب السياسية، وتسلل للشيوعية، وبروز ظاهرة الارتزاق من العمل السياسي والعمل الاجتماعي.
معارك الشيخ الغزالي المبكرة.. الاستغلال الاقتصادي والفكر الماركسي
كان للشيخ محمد الغزالي سابق إسهام في هذا الموضوع في نهاية الأربعينيات (1947)، فكتب كتابه "الإسلام والأوضاع الاقتصادية"، بقصد الرد على ملاحدة الشرق والغرب الذين حاولوا تصوير الإسلام، وكأنه ضد المستضعفين، أو كأنه وقف موقف الكنيسة التي تواطأت مع الإقطاع ضد الشعب، وتقاسمت معه الغنائم على حساب المقهورين حتى كان شعار الثورة الفرنسية. فبين أن الموقف في الإسلام وموقف الدعاة المسلمين، مناقض للموقف الكنسي، وأن الإسلام ورجاله المخلصين، كانوا دائما ضد حركات الظلم والاضطهاد في التاريخ الإسلامي.
واستكمل هذا الكتاب بكتاب آخر، خصصه لـ "نقد المناهج الاشتراكية"، حذا فيه حذو السباعي، لكن بأسلوب أدبي. وكان قصده ـ كما أعلن في مقدمة كتابه ـ هو "رسم الخطط العامة لإنقاذ الشعوب من سوء استغال الدين في نهب حقوقها"، كما كشف عن مقصد آخر من مقاصد تأليف الكتاب، وهو بيان الدور التحصيني، الذي يقوم به الإسلام ضد الشيوعية وضد المذاهب المتطرفة، بشرط أن تقبل توصياته في نواحي الإصلاح العام، وتنفذ بأمانة ودقة، وألا يقصى من توجيه جميع جوانب الحياة القانونية والمالية والتربوية والاجتماعية.
الشيخ الغزالي وموقفه التصالحي مع القومية
سلك الشيخ محمد الغزالي في نقده للقومية العربية، مسلكا تصالحيا، يسعى إلى بحث موقع اللغة العربية، والقومية في الوحدة الإسلامية الجامعة. ويذكر بدور العرب فيها في الماضي والمستقبل، ويبين عدم وجود أي تناقض بين القومية والإسلام. لكنه في الآن ذاته، يمارس نقدا لاذعا للكتابات القومية البعثية، ويعلل ذلك، بمحاولتها استبعاد الإسلام، أو تقليص دوره، أو خلق خصومة وهمية بين القومية والإسلام، أو جعل القومية العربية بديلا عن الإسلام.
لقد حاول الشيخ محمد الغزالي في كتابه "حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي" أن يضع القومية العربية في موقعها، ويبين دورها في صناعة الحضارة الإسلامية، لكنه في الوقت ذاته، تعرض لكل المقولات القومية البعثية، التي روجت على الإسلام ودوره، مبينا أن هذه المقولات، ليست حربا على الإسلام، ولكنها في الحقيقة، حرب على القومية العربية الصحيحة، التي تحاول الإيديولوجية البعثية أن تفصل بينها، وبين وعائها وحضنها المتمثل في الإسلام.
يظهر قصد الغزالي من تأليفه للكتاب، وأنه كتبه للتصدي لبعض مقولات القوميين، لاسيما من البعثيين. تلك المقولات التي تحاول أن تبني مجدا للعروبة بعيدا عن الإسلام، وتتوسل كل طريق لإبعاد الإسلام، ومنعه من إقامة دولة، تحمل رسالته وتعاليمه وقيمه وشرائعه، حيث تبدأ الحملة على قيام دولة الإسلام، لتتلوها بعد ذلك حملة أخرى، ضد الدين والتعاليم الإسلامية عامة، وترك الأبواب مفتوحة لغير شرائعه وتعالميه.