حين أنظر ورائي في ما مضى من عمري، فإن واحداً من
أهم الأحداث التي رسخت في الذاكرة مرتبطةً بالفرح والحيوية كان اندلاع موجة
الثورات العربية في كانون الثاني/ يناير عام 2011. لا أكاد أصدق أن عشر سنين مضت
على تلك اللحظة! وكأن ما حدث بعد ذلك من خيبات لا يستحق أن تتمسك به الذاكرة
فتسقطه وهي تجاهد أن تحتفظ بمشاعر الأمل والحياة وحدها.
أذكر تلك القوة العجيبة التي سرت في نفسي مع توارد
الأخبار من
تونس بتمكن المتظاهرين من تحطيم جدار الخوف وتدفقهم إلى الشارع الرئيس
في العاصمة. قبل
الثورة لم تكن تونس في صدارة الأخبار، لكننا كنا نقرأ في الحدث
قيمةً أكبر من اسم البلد الذي يحدث فيه. كنا نقرأ فيه آية الانبعاث بعد الموت،
وآية سقوط الظلم دون أن تغني عنه شرطته وعسكره وأشياعه الخارجيون من إرادة الشعوب
شيئاً. كنا نقرأ في تلك اللحظة بزوغ الأمل وعودة الروح وتجدد الثقة بالذات، كنا
نرغِّب أنفسنا بأن صفحةً مظلمةً قد طويت من تاريخنا، وأن فجراً جديداً ينبلج وأننا
لن نكون بعد اليوم الأمة الغثاء التي تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على
قصعتها.
أذكر جمعة سقوط حسني مبارك إذ تحرر قلمي من قيده
ونشط قلبي من عقاله، فكتبت مندفعاً مقالاً أنهيته في دقائق قليلة، كان مما سطرته
فيه:
"كم
أهواك يا يوم الجمعة يا خير يوم طلعت عليه الشمس، وكم أهواك يا عام 2011 يا عام
النصر والعزة والكرامة.. يا عام الانقلاب من منحى الهبوط إلى منحى الصعود..
في كانون الثاني/ يناير سقط طاغية تونس، وفي شباط/ فبراير
تبعه فرعون
مصر، ومنهم من ينتظر، فالعقد انفرط وحاجز الرعب الذي كان يعيق حركة
الشعوب انكسر.
إنها لحظات تنجلي فيها عتمة ليل الحكم الجبري بعد أن
طال أمده وذاقت فيه الشعوب مرارة الذل والهوان..
مصر وما أدراك ما مصر.. قلب العالم الإسلامي، من مصر
يبدأ التحول، ومنها تكتب الأمة تاريخاً جديداً يخطه فتية آمنوا بربهم فزادهم هدىً،
من مصر تشرق شمس الحرية، من مصر تنفض الأمة عن نفسها ركام القرون وتنبعث من جديد..
اليوم يبدأ مسار التحرر الحقيقي للشعوب العربية من
حقبة الاستعمار مباشراً كان أو غير مباشر، فلم يعد من مكان في بلادنا للصوص
الثروات وناهبي الخيرات بعد أن استيقظت الشعوب، وأدركت كم هي الجريمة التي كانت
تمارس ضدها، وأدركت أيضاً كم هي قادرة على التحرر والانبعاث من جديد..
لكنني في غمرة أجواء الانتصار التي تجتاح الشعوب
أقاوم بالكاد نشوة الفرح وأستدرك لأقول: إنه لا يزال في انتظارنا الكثير لنفعله،
هذا بالتأكيد ليس تبخيساً من قدر ما تم فعله، ولكن سقوط الطغيان ليس سوى الخطوة
الأولى في طريق إقامة الحكم الرشيد الذي يعبر بحق وحقيقة عن تطلعات الشعوب
وآمالها.." (نشر في 11 شباط/ فبراير 2011).
*
* *
في تلك الأيام نسينا أننا شعوب كثيرة وتذكرنا أننا
شعب عربي واحد نتشارك التاريخ والثقافة والهوية والقلب والشعور والمصير. أيقظت تلك
اللحظة انتباهنا كم نحن متشابهون، كم نحن واحد. ذات المعاناة وذات الغضب وذات
الثورة، ذات الطقوس الثورية وذات الحشود وذات الميادين وذات الشعارات في العواصم
المختلفة. ما أنشأته سايكس بيكو من جدران حطمته اللحظة الثورية بكل سلاسة، أطلق
الشعب في تونس صرخته الأثيرة: "الشعب يريد إسقاط النظام" فتردد صداها
بعد أقل من أسبوعين في قلب مصر ثم تبعتها ليبيا وسوريا واليمن.
في فلسطين أصابنا أثر من الروح الجديدة، كنا مجموعةً
من الشباب التقينا في شباط/ فبراير بعد أيام من سقوط مبارك الملهم فتشاورنا: ليس
عندنا نظام نسقطه، لكنَّ لنا قضيتنا الكبرى وهي عودتنا إلى ديارنا. إذاً فاللاجئون
الفلسطينيون يريدون العودة إلى أرضهم! فكانت الدعوة الأولى إلى مسيرات العودة في
15 أيار/ مايو عام 2011 واستجاب الناس في تلك اللحظة الممتلئة بالروح، واحتشد
عشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في أقرب نقطة إلى فلسطين التاريخية، وشارك في ذلك
اليوم اللاجئون من لبنان وسوريا والأردن ومن الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطين
المحتلة منذ عام 1948 في سابقة لم تحدث من قبل.
فوق تفاصيل الأحداث الكثيفة التي شهدها عام 2011 كان
هناك سياق جامع، ما الذي تريده الشعوب العربية؟
الشعوب العربية تعاني منذ أكثر من مائة عام من واقع
القيد وقهر الإرادة وذل التبعية. نحن شعوب غنية بالثروات البشرية والطبيعية، لكننا
لا ننتفع من خيراتنا في شيء، فالطبقة السياسية المهيمنة قد قهرت إرادة الشعوب،
وقلة من الأغنياء المرتبطين بمواقع النفوذ يتنعمون بخيرات البلاد وثرواتها.
والاستعمار وأدواته المباشرة وغير المباشرة ينظر إلى بلادنا فيراها موقعاً
استراتيجياً وثروات ومعادن وقوةً استهلاكيةً، لكنه لا يرى فيها بشراً مساوين له في
الإنسانية ويستحقون السيادة على بلادهم وأن يتم التعامل معهم على أرضية التكافؤ
وليس التبعية.
تململ الناس من القيد والهوان، لكن سطوة الدولة كانت
لهم بالمرصاد. نما في بلادنا ميراث ثقيل من الخوف والجهل والذل والقهر والعجز..
إرادة التحرر الكامنة في النفوس مكبلة لكنها لم تمت. انقدحت الشرارة في عام 2011،
فانفجرت الرغبة المخنوقة في التحرر والانعتاق. اكتشف الشعب في لحظة ما ذاته، فأحال
سنوات السكوت والخوف إلى طوفان بشري يجتاح الشوارع ويحطم جدران الخوف ويتصدى
للرصاص بصدوره العارية. كان الشعار الأكثر شيوعاً في أيام الثورات مفسراً
ومبيِّناً "الشعب يريد".. كان الشعب يشعر بسحق إرادته وتغييبها وتجاهلها،
فجاء رد الفعل في ذلك الهتاف للتأكيد على حق الشعب بأن يكون هو صاحب الإرادة
والسيادة، وهو مصدر السلطة والشرعية.
كانت تلك اللحظات مفعمةً بالحياة والأمل، لكنها كانت
قصيرةً.
يدَّعي فريق من الناس أن
الربيع العربي كان مؤامرةً!
وهو قول يردده المسكونون بهاجس المؤامرة الذين لا يؤمنون بإرادة الشعوب ويظنون
أمريكا إلهاً لا معقب لحكمها، ويردده أيضاً المنتفعون من واقع
الاستبداد
والطائفيون الذين عاكست الثورات أهدافهم.
اتهام الثورات العربية بأنها مؤامرة ادعاء سخيف، وهو
تثبيط لعزيمة الشعوب وحكم عليها بالعجز الأبدي.
كانت الثورات لحظة بعث حقيقي حطمت فيها الشعوب جدران
الخوف وصدعت بقول لا في مواجهة السلطات الجائرة، لكن تلك اللحظة أجهضت ولم تكتمل
بفعل شراسة المؤسسة الحاكمة وتغلغلها في مفاصل البلاد أكثر مما قدَّر المنتفضون،
وبفعل اعتمادها التخطيط الهادئ؛ مدعومةً بالإعانة الخارجية في مواجهة الاندفاعة
العاطفية للشعوب.
كان عماد الشعوب الغضب والاندفاع، بينما كان عماد
القوى المضادة التخطيط الهادئ والتروي. لا يمكن لوم الشعوب على غضبها المبدئي من
الظلم والقهر، لكن الخلل تمثل في الميراث الكبير من التجهيل وإفساد القيم وانعدام
الخبرة السياسية وتغلغل الدولة العميقة، واكتفاء المعارضة بالشعارات والتنظيرات
الاختزالية للواقع دون تفكيك عُقَدِ الواقع وامتلاك وعي سياسي مستبصر بطبيعة
المواجهة وآلياتها وأهداف الثورة. هذه العوامل أعاقت قدرة الشعوب والقوى التي
شاركت في الثورة عن إكمال الطريق واستثمار اللحظة التاريخية الثمينة التي أتيحت
لها..
كان يفترض أن نكتب اليوم بعد عشر سنين عن واقع نعيشه
الآن نشهد فيه تقدماً في مسار التحول الديمقراطي وتعزيز إرادة الشعوب وتحرير قواها
من التبعية، لكنَّ ما يبعث في النفس الحزن والألم أننا نكتب عن ذكرى!
لا أشعر بأي رغبة في تجميل الواقع، واقعنا اليوم
مثير للحزن، وما انتفض الناس ضده قبل عشر سنين رجعوا تحت سطوته؛ لأننا امتلكنا
الاندفاعة العاطفية لكننا لم نضع أيدينا على الأسباب العميقة للعلل السياسية
والاجتماعية، فلم نحصن أنفسنا من الانتكاس ثانيةً، ولم نثبت ضمانات كافيةً بمعالجة
جذور المشكلة.
بقي من الربيع العربي أثر حلم جميل يتذكره الناس
فيثير فيهم الشوق لاستعادته، وبقيت من الربيع العربي عبرة أن الأيام دول وأن
الأوضاع وإن بدت ساكنةً حيناً من الدهر فإنها قد تحمل في باطنها بركاناً يوشك على
الانفجار.
twitter.com/aburtema