قضايا وآراء

عقد أم قرن من الزمان مر على الربيع العربي؟!

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600
مرت عشرة أعوام على اندلاع ثورة الياسمين التونسية، إثر إشعال الشاب المكافح "محمد بوعزيزي"، والذي يسرح بعربة خضروات سعيا للقمة عيشه، النار في جسده؛ احتجاجاً على امتهان كرامته وظلم تعرض له من شرطية تمثل سلطة الاستبداد والقمع والبطش التي كانت تحكم تونس، في ظل رئيسها الدكتاتور الفاشي "زين العابدين بن علي"، الذي حاول في بداية الانتفاضة وخروج الناس في مظاهرات غاضبة في كل المدن التونسية، تعاطفاً مع الشاب المظلوم "بوعزيزي" الذي يمثل غالبية الشعب المظلوم من تلك السلطة الغاشمة.. أعود فأقول حاول "زين العابدين" احتواء الموقف بأقل الخسائر، بزيارة "بوعزيزي" في المشفى وتقديم الاعتذار له، وألقى خطاباً اقتبسه من خطاب رئيس فرنسا الأسبق "شارل ديجول"، عندما اندلعت المظاهرات ضده عام 1968، فقال للمتظاهرين: "الآن فهمتكم"، وكأنه لم يكن يعرف من قبل أنه يحكم تونس بقبضة من حديد؛ حاول أن يلينه قليلاً ولكن المظاهرات كانت أقوى من حديده، واضطر للهرب هو وأسرته من تونس كالفئران في جنح الظلام!

تطايرت شرارات نيران "بوعزيزي"، الذي مات بسببها ولكنها أحيت شعوباً كانت في عداد الموتى، فذهبت إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن، وكانت في طريقها إلى بلاد أخرى، لولا الرياح العاتية التي صدتها وأعاقتها من الوصول إليها.. هبت شعوب تلك البلدان العربية، تطالب بسقوط أنظمتها الفاشية، ورحيل حكامها الطغاة الذين فوجئوا بثورة شعوبهم ضدهم، وهم الذين كانوا يحسبون أنهم دجّنوا شعوبهم وأنها تحت السيطرة ولن تخرج من حظيرة الخوف أبداً؛ لما يملكونه من كل مصادر القوة، من سلاح وإعلام وقضاء، والشعوب لا حول لها ولا قوة، فكيف ستخرج ضدهم؟!

لا بد أنها مؤامرة خارجية ومن أمريكا بالذات، وبدأ إعلامهم يعزف على هذه المعزوفة، ويتكلم عن الفوضى الخلاقة، وتقسيم المنطقة وخلق شرق أوسط جديد، ونسوا أو تناسوا أنهم مَن اختارتهم أمريكا وعيّنتهم عنوة على شعوبهم، ليكونوا وكلاء لها في تلك البلدان العربية.

وظلوا يكابرون ويتجاهلون مطالب شعوبهم بالرحيل، فكانت أقوى الهتافات التي لا يزال رنينها يُطرب أذني: "الشعب يريد إسقاط النظام"، رددتها الشعوب العربية في سيمفونية رائعة، في وقت متزامن، سجلها التاريخ إيذاناً بميلاد فجر عربي جديد، يتنفس فيه المواطن العربي هواء الحرية ويستنشق فيه عبير الكرامة، ويتذوق فيه طعم العدالة والمساواة التي غابت طويلاً عن الشعوب العربية المستعبدة من قبل حكامها الطغاة، لذلك هتفت الجماهير هتافها الشهير: "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية".

كانت إرادة الشعوب أقوى من كل أسلحة الجبارة وإعلامهم الفاجر، فقد بلغ الظلم مداه، ونخر الفساد عظام تلك الأنظمة السلطوية، وأكلها السوس من أعلى قممها فانهارت سريعاً.. 
خرج المارد من قمقمه، بعد أن حطم جدار الخوف، وأعلن العصيان، فخلع "حسني مبارك"، بعد ثمانية عشر يوماً من اندلاع المظاهرات ضده، وتلاه "معمر القذافي"، الذي اختبأ من زحف الجماهير في أنبوب للصرف الصحي، ثم أعقبهما "علي عبد الله صالح"، الذي لقي حتفه بشكل بشع لاحقا. وقد مكث هؤلاء الطغاة الثلاثة في الحكم أكثر من ثلاثة عقود، وكان طاغية دمشق "بشار الأسد" قاب قوسين أو أدنى من السقوط، لولا تدخل إيران وروسيا عسكرياً، وحمايته في اللحظات الأخيرة..

ومن المفارقات في ثورات الربيع العربي، أنها كشفت عن مدى ضعف وهشاشة الأنظمة العربية المستبدة وسرعة انهيارها، رغم كل ما تملكه من أجهزة أمن ومخابرات جبارة، تستخدم أعنف وأشرس وأقذر وسائل التعذيب الجسدي والنفسي المحرمة دولياً؛ بهدف ترهيب الخصوم!

أيام لا تنسى مرت على الشعوب العربية، كطيف جميل سرعان ما تحول لكابوس فظيع، بفعل الثورة المضادة التي قادتها السعودية والإمارات؛ خوفاً نت أن تصل شرارة نيران "بوعزيزي" إليهما فتسقط عروش حكامهما.

منذ الأيام الأولى لثورات الربيع العربي، عملت السعودية والإمارات على وأدها في مهدها، وانضم إليهما الكيان الصهيوني، الذي كان يخشي على كيانه من هذه الثورات التي كانت فلسطين حاضرة في قلبها، وفي هتافات الجماهير في الميادين، والتي رفعت العلم الفلسطيني وأحرقت العلم الصهيوني..
 
لقد اتخذ الصهاينة من الإمارات مركزاً للثورة المضادة، بإدارة عناصر من الموساد، يخطط ويحيك المؤامرات ضد الثورات العربية، فعملوا على الحفاظ على نظام الطاغية بشار الحارس لحدود الكيان الصهيوني، وباركوا التدخل العسكرى الروسي، كي يقتل في السوريين ويدمر المدن والقرى على رؤوس أهلها، دون حسيب ولا رقيب.

وكانت الطامة الكبرى، وهي المؤامرة على مصر والتخطيط لانقلاب عسكري فيها، لاقتلاع أو عزل أول رئيس مدني منتخب من المصريين، في تاريخهم الطويل الممتدد لسبعة آلاف عام، ووأد التجربة الديمقراطية الوليدة في مهدها، كي لا تنتشر في باقي البلدان العربية وتكون حجة عليهم. فمصر دائما هي قاطرة العالم العربي نحو التغيير على مر تاريخها، وإذا أحكموا سيطرتهم على مصر فلن تنتقل عدوى الديمقراطية لدول أخرى.

وكما ثبت بالأدلة، فإن حركة تمرد ولدت من رحم دولة المؤامرات، وكانت هي الأم الحنون لها ترعاها وتمولها، بل ووضعت لها ميزانية خاصة، وما الثلاثون من حزيران/ يونيو 2013 إلا مسرحية هزلية، كُتبت وأخرجت في مركز الثورات المضادة في أبو ظبي، لتعرض في ميدان التحرير الذي شهد ثورة 25 يناير العظيمة؛ ليمحوا هذا المشهد المهيب من أمام العالم، ويستبدلونه بذلك المشهد المزيف والمصنوع صهيونياً!

كان الثلاثين من حزيران/ يونيو وما أعقبه من انقلاب عسكري في الثالث من تموز/ يوليو، مؤشراً لشراسة الثورة المضادة التي واصلت سيرها أو مؤامراتها في اليمن وليبيا، فورطتهما في فتن وأدخلتهما في حروب أهلية، يمولون فيها المرتزقة وجنرالات الحرب من أمثال "خليفة حفتر"، ليُقتل أبناء الشعبين اليمني والليبي في حروب عبثية تجعل البلدين عرضة للانقسام، لتقديمهما كنموذج كريه لثورات الربيع العربي التي سببت الخراب والدمار للبلاد!

كانت بمثابة رسالة تحذيرية، يخوّفون بها الشعوب من الثورة ضد أنظتهم المستبدة، وبما آلت إليه تلك الدول بعد الثورات. ولا ننسى تلك العبارة الشهيرة التي كانت تتردد في الإعلام المضلل: "حتى لا نكون مثل سوريا وليبيا واليمن"، ولعب رجال الدين الموالون للحاكم المستبد، أو من نسميهم "شيوخ السلطان"، دوراً هاماً في ترسيخ هذا المفهوم الضال في أذهان الناس، وتحريم الخروج على الحاكم ولو كان ظالماً، لأن الله هو من آتاه الملك، وهو يعطي الملك لمن يشاء، فكأنك تثور ضد إرادة الله، وما حدث في تلك البلدان ما هو إلا عقاب إلهي لهم.. إلى آخر هذه الخزعبلات!!

حتى تونس، التي نعتقد أنها نجت من شباك الثورة المضادة، لا تزال تتعرض لمؤامراتهم الخبيثة، ويحاولون بكل جهدهم وأموالهم أن يحبطوا التجربة الديمقراطية فيها، ويعيدوا نظام "زين العابدين" الاستبدادي، المتمثل في بعض رجاله والأحزاب التي ولدت من حزبه الفاشي، وما محاربتهم لرئيس البرلمان "راشد الغنوشي" إلا فصلاً من مؤامراتهم المستمرة على تونس..

حينما أستعرض أحداث تلك السنوات العشر، أشعر أنها لم تكن عقدا من الزمان، بل قرنا من الزمان، عشناه بنوره الذي انطفأ سريعاً، وظلامه الذي لا يزال يخيم علينا، ونرزح في ظلماته، تذوقنا فيه حلوه الذي لا يزال عالقاً في حلقنا، ولكن لم نستطعمه بعد ولم نهنأ به، وشربنا مُرّه الذي ما زلنا نتجرع من كأسه!!

ولكن ما قد يبعث الطمأنينة في النفس، أنه رغم كل محاولات الثورة المضادة الشرسة لإجهاض الربيع العربي بالقوة، إلا أن الآمال لا تزال في الديمقراطية حية في نفوس الشباب التواقين للحرية والكرامة والعدالة، والذين أصبحت مرجعيتهم الربيع العربي، فهم ينظرون إليه بانبهار ويحلمون بأن يعيدوه مرة أخرى، أو بمعنى أدق يستردوه ممن سرقوه منا، وخاصة أن نفس الأسباب التي أشعلت الثورات العربية منذ عشر سنوات لا تزال قائمة، بل إن الأوضاه عادت أسوأ مما كانت عليه، في جميع المجالات؛ السياسية التي جُرفت تماماً ولم تعد هناك أحزاب حقيقية غير الحزب الحاكم السلطوي، كما أن الأحوال الأقتصادية في انهيار مستمر، ويعيش المواطن في حالة ضنك شديد. أما في مجال الحريات وحقوق الإنسان، فحدث ولا حرج، فلقد اندثرت تماماً ولم يعد لها وجود. فالسجون تضج بعشرات الآلاف من المعتقلين، في تلك البلدان التي تغلبت فيها الثورات المضادة، وعادت تحكمها سلطة استبدادية، بكل ما تحمله من أدوات القمع والبطش والقهر، ولذلك سيستمر الشباب في النضال مهما طال، ولن يتوقفوا إلى أن يتحقق حلمهم، وحلم الشعوب العربية كلها..

twitter.com/amiraaboelfetou
التعليقات (0)