علّمنا التاريخ أنه لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة
بين الدول، بل هناك مصالح دائمة، وما تُعرف بالسياسة الواقعية (البراجماتية) ما هي
إلا ترجمة لتلك المقولة التي أطلقها تشرشل بعد الحرب العالمية الثانية.
فلقد خسرت
تركيا ومصر كثيراً من تلك العلاقة
المتوترة بينهما والتي دامت عشر سنوات.. ولا أقول القطيعة؛ لأنه في حقيقة الأمر،
لم تنقطع
العلاقات بينهما كلية، لكنها تأثرت سلباً بلا شك، فالعلاقات الاقتصادية
والتجارية استمرت بين البلدين، وقد تندهش، عزيزي القارئ، عندما تعلم أن حجم
الصادرات والواردات، بين البلدين زاد في تلك الفترة الغابرة، رغم عدم تجديد
الاتفاقيات التجارية بينهما، والتي انتهت صلاحياتها.
فتركيا لديها سبعون مصنعاً في المنطقة الصناعية الكبرى في مدينة السادس من أكتوبر في
مصر، بالإضافة لعدد كبير من المصانع الخاصة المملوكة لمستثمرين
أتراك، بتشجيع من الحكومة التركية، في عدة محافظات في مصر، يعمل فيها آلاف العمال
المصريين ويتم تصدير إنتاجها إلى الكثير من دول العالم تحت شعار "صنع في
مصر". هذه الاستثمارات الضخمة يرغب كلا البلدين في استمرارها بل وتطويرها لما
فيه مصلحة لشعوبهما، لذلك لم تتأثر ولم يتوقف إنتاجها مع الحملات الإعلامية
الفاجرة وغير المسؤولة، التي كان يشنها الإعلام المصري ضد تركيا والرئيس
أردوغان شخصياً،
من خلال فضائيات النظام المصري الكثيرة وصحفه العديدة، وذبابه المتكاثر والمنتشر في
مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تراجعت كثيراً بعدما ظهرت بشائر المصالحة المصرية
التركية، منذ اللقاء الودي الذي جمع بين الرئيسين عبد الفتاح
السيسي ورجب طيب
أردوغان، في العشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، في افتتاح بطولة كأس العالم في
الدوحة، ثم تلاشت واختفت تماماً تلك الحملات الوقحة بعد فوز أردوغان بولاية رئاسية
ثانية وتهنئة السيسي له هاتفياً، إضافة إلى تبادل الزيارات بين وزيري الخارجية في البلدين.
خسرت تركيا ومصر كثيراً من تلك العلاقة المتوترة بينهما والتي دامت عشر سنوات.. ولا أقول القطيعة؛ لأنه في حقيقة الأمر، لم تنقطع العلاقات بينهما كلية، لكنها تأثرت سلباً بلا شك، فالعلاقات الاقتصادية والتجارية استمرت بين البلدين، وقد تندهش، عزيزي القارئ، عندما تعلم أن حجم الصادرات والواردات، بين البلدين زاد في تلك الفترة الغابرة، رغم عدم تجديد الاتفاقيات التجارية بينهما، والتي انتهت صلاحياتها
ثم تُوجت الاتصالات بإعلان عودة العلاقات الدبلوماسية
المصرية التركية والتي لاقت ترحيباً دولياً وعربياً واسعاً، وخاصة بعد الإعلان عن
زيارة مرتقبة للسيسي لتركيا خلال هذا الشهر، تعقبها زيارة لأردوغان لمصر، ولا شك
أن ذلك سيكون العُرس الجديد للدولتين بعد طلاق دام عشر سنوات..
من المؤكد أن إعادة العلاقات بين مصر وتركيا لمسارها
الطبيعي ستساعد على عودة الاستقرار إلى منطقة الشرق الأوسط الساخنة بأحداثها
الدراماتيكية المتلاحقة، وتمكنها من مواجهة التحديات الكبرى التي تواجه شعوب
المنطقة والأزمات المتفاقمة التي تعاني منها كل دول المنطقة بلا استثناء..
من المعلوم أن كلاً من مصر وتركيا تواجهان تهديدات
حقيقية لأمنهما القومي في ظل تغيرات استراتيجية كبيرة إقليمياً ودولياً؛ ستنتج
عنها حتما تغيرات جيوسياسية مع ظهور تحالفات جديدة على المسرح العالمي، وخاصة بعد
الغزو الروسي لأوكرانيا وما سببه من أزمات اقتصادية هائلة وانقسام دول العالم بين
مؤيد وداعم لروسيا ومؤيد وداعم لأوكرانيا، ما فرض على البلدين أن ينحّيا مشكلتهما الذاتية
جانباً والتي يبدو أنها مشكلة شخصية أكثر من كونها مشكلة أساسية بين دولتين، وأن
يعلوا فوق خلافاتهما ويتنازلا قليلاً بما يسمح لهما بتشكيل جبهة واحدة تضمهما كي
يتمكنا من تجاوز المخاطر التي تواجههما وتحقق مصالحهما المشتركة، وخاصة في اتفاقية
غاز شرق البحر الأبيض المتوسط وإعادة ترسيم الحدود العادلة بين الدول في هذه
المنطقة الحساسة، بما يضمن لهما الحفاظ على أمنهما القومي واستقرار بلديهما..
مَن منا لا يتمنّى أن تزول الخلافات ويتم رأب الصدع بين
الدول الإسلامية المتخاصمة وتُضمد الجراح الساخنة وتلتئم في الجسد الإسلامي الواحد؛
كي يعود لعافيته ويصبح بنياناً مرصوصاً قوياً صلباً، يستطيع مجابهة التحديات
الكبرى التي فُرضت عليه، لمواجهة أعداء الأمة الذين يتربصون بها في كل بقاع الأرض.
ولن يحدث هذا إلا إذا توحد قادة تلك الدول الإسلامية على قاعدة الأهداف الكبرى
للأمة، كحد أدنى للتفاهم، دون الدخول في التفاصيل، والتي غالبا ما تدخلها
الشياطين، وإعادة تعريف الصديق والعدو من جديد، بعد أن ضاع المعنى في غمرة الصراع
المجنون والتنافس المحموم والشرس بينهم لنيل راية زعامة الأمة، فعميت أبصارهم
وبصيرتهم، وبدلاً من أن يتسلمها أحد منهم، تسلمها عدو لهم، وأذاق الأمة كأس الذل
والهوان!!
هذه المصالحة لم تأت فجأة ودون مقدمات، بل أخذت سنوات من
الإعداد والتحضير والتصريحات المنمقة والمغلفة بورق سوليفان على لسان المسؤولين من
كلا الطرفين، لقد ذكرت صحيفة "أقشام" التركية في أيلول/ سبتمبر 2019، أن
هناك مفاوضات ومباحثات تجري بين الجانبين المصري والتركي، على المستوى الاستخباراتي بطلب من مصر، وهو ما لم ينفه الجانب المصري. وهذا يدل على أن
المصالحة المصرية التركية لم تأت فجأة بل جاءت بخطوات جادة ومحسوبة، وهي حصيلة أو
نتاج ما يقرب من أربعة أعوام من التفاهمات والتقارب بين البلدين.
ساهم هذا التفاهم قبل إعلانه في حل كثير من الأزمات الساخنة في المنطقة، لعل أهمها على الإطلاق الأزمة الليبية، وإنهاء الحرب الأهلية في البلاد، على الرغم من أن كلتا الدولتين كانتا على طرفي نقيض في الأزمة، فمصر مع المحور الذي يدعم الجنرال المنقلب خليفة حفتر، وتركيا تدعم الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، ولكنهما استطاعتا أن توقفا تلك الحرب التي استمرت ست سنوات، وإنقاذ ليبيا من التقسيم
على كل حال، لقد ساهم هذا التفاهم قبل إعلانه في حل كثير
من الأزمات الساخنة في المنطقة، لعل أهمها على الإطلاق الأزمة الليبية، وإنهاء
الحرب الأهلية في البلاد، على الرغم من أن كلتا الدولتين كانتا على طرفي نقيض في
الأزمة، فمصر مع المحور الذي يدعم الجنرال المنقلب خليفة حفتر، وتركيا تدعم
الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، ولكنهما استطاعتا أن توقفا تلك الحرب التي
استمرت ست سنوات، وإنقاذ ليبيا من التقسيم، وتحققا هدفاً مشتركاً لهما. ولا جدال
في أن تشكيل الحكومة الانتقالية بأسماء من طرفي الصراع، ساهم بشكل كبير وفعال في
مسار العلاقات التركية المصرية.
لا يمكن لكائن من كان أن يعاند التاريخ والجغرافيا، أو
أن يمحو تأثيرهما في البنيان الإنساني، والوجداني والفكري للشعوب. فالتاريخان
المصري والتركي تربطهما روابط وثيقة وعميقة منذ زمن بعيد، بدأت منذ حكم المماليك،
والذين كانوا أصلاً أتراكاً، وحكموا مصر والشام والعراق وأجزاء من الجزيرة العربية
أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمن، وانتهاءً بالعثمانيين، والتي كانت مصر تحكم كإيالة
تابعة لهم لأكثر من ثلاثة قرون.. عززت تلك الفترة الطويلة من الوجود التركي في مصر؛
الروابط الاجتماعية بين المصريين والأتراك وقوّتها، فكثير من المصريين، ترجع
أصولهم وأنسابهم إلى الأتراك، والعكس صحيح. وهذا يكشف مدى عمق الجذور التي تربط
بين الشعبين؛ فالعلاقة بين مصر وتركيا علاقة نسب ومصاهرة ودم يجري في عروق
شعبيهما..
إنها جذور امتدت إلى اللسان المصري، في لهجته العامية التي
احتوت على قدر كبير من الكلمات المأخوذة من اللغة التركية، وفيما يتذوقه من طعام،
حيث يشتمل المطبخ المصري على أشهى وألذ المأكولات التركية، ويكفي أن تذهب في جولة
لشوارع مصر ومدنها، لتشاهد الآثار الفنية والمعمارية العثمانية والمملوكية
الخلابة، وأسماء الشخصيات العثمانية التاريخية على شوارعها، ومن باب المكايدة
الطفولية وحماقة الخصومة في الفترة الغابرة، أن تم حذف اسم الشارع الشهير "السلطان
سليم الأول" في منطقة الزيتون شرق القاهرة.
مصر وتركيا دولتان كبيرتان تتمتعان بقيم معنوية
واجتماعية وثقافية مشتركة، نظراً للماضي المشترك والروابط التاريخية بينهما. ولعلّي
أنسب عبارة أختم بها مقالي ما قاله الرئيس أردوغان عن ذلك في أحد تصريحاته، بقوله إن
"الصداقة بين الشعبين المصري والتركي لن تكون مثل العلاقات بين الشعبين
المصري واليوناني"..
لذلك سيسعد الشعبان المصري والتركي بهذه المصالحة، والتي
ستنعكس بشكل إيجابي على المنطقة بأسرها..
twitter.com/amiraaboelfetou