هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من الأسباب التي تدفع بعض المسلمين لممارسة العنف في بلاد الغرب: سخرية صحافة الغرب وإعلامهم من مقدسات المسلمين، فمع إنكارنا لما قامت به بعض صحف الغرب من إساءات للإسلام، ونشر صور مسيئة لرسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الرد على هذه الرسوم والسخرية من الرموز الإسلامية، لا يكون بممارسة العنف، أو القتل، أو الاعتداء بأي صورة كانت، بل يحتاج الرد وبيان الموقف إلى وقفة نبحث فيها عن وسيلة تتوافق مع الشرع، وتفيد الإسلام ولا تضره، وأرى أن الموقف من إساءتهم وسخريتهم تتطلب منا ما يأتي:
فهم العقلية الغربية:
إن أول ما يجب علينا فعله كمسلمين في الغرب: فهم عقلية الغرب، الذي يرسم، ويسخر، ما فلسفة سخريته من الدين؟ وهل هي سخرية ناتجة عن جهل بالإسلام، أم عداء له؟ وهل منشؤها صورة نمطية لدى الغرب عن الإسلام والمسلمين، أم سلوكيات بعض المسلمين، وما مدى تأثير الموروثات الدينية والثقافية لدى الغرب في نظرتهم للإسلام؟
وهو ما أشار إليه فيلسوف كبير من فلاسفة وكتاب الغرب، وهو العلامة غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب)، في معرض حديثه عن تخلصه من هذه الرواسب الفكرية التقليدية عن الإسلام، ليكتب كتابه هذا بإنصاف عن الإسلام، فقال: (وسيجد القارئ في هذا الكتاب تطبيقا للقواعد المذكورة التي ابتعدنا بها عن أكثر أحكامنا التقليدية الموروثة في الشرقيين، ولا سيما في دين محمد، وتعدد الزوجات، والرق، والحروب الصليبية، والنظم، والفنون، وتأثير العرب في أوروبا، وما إلى ذلك).
لست هنا أبرر الخطأ الذي يمارسه الغرب مع مقدساتنا في نظرته لها، بل ما يعنيني هنا البحث عن أسباب هذا الخطأ، فالإسلام يعلمنا في تعاملنا مع المخطئ والخطأ، ألا نكتفي بالحكم عليه بتخطئته، بل البحث عن الأسباب لينهيها، حتى لا يتكرر الخطأ ويستمر، وإلا سنظل نعالج في الآثار دون معالجة أصل الداء، بل ربما ازداد.
وفهم عقلية الغرب، والوقوف على أسباب موقفه من مقدساتنا، أمر يحتاج إلى تكوين مراكز بحثية ذات صلة بالغرب واقعا، وفلسفة، ومنهجا، تحلل هذه النفسية، وتبين أنماطها ومداخلها، وأنسب طرق التعامل معها، ليس لأجل الرد فقط، بل لأجل التواصل الذي هو أصل رسالة الإنسان المسلم في الحياة، يقول تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات .
الإهمال خير علاج للرد:
وكان من سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة مع الشعراء الذين قالوا شعرا فيه هجاء أو إساءة، هو الإهمال، فلو قتلوه، لهاجت الدنيا عليهم، ومنح هذا المتطاول لقب شهيد الصحافة، وشهيد الرأي، وخير نموذج لهذا الموقف هو الشاعر العربي كعب بن زهير، وقصيدته المشهورة، والتي منها قوله:
نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ... الفرقان فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت في الأقاويل
والقصيدة طويلة، والعجيب أن ما وصلنا هو اعتذار الشاعر المسيء، ولم تصلنا قصيدته المسيئة، ولم يصلنا أي قصيدة أخرى مسيئة، رغم وجود شعراء أساءوا بشعرهم، ولكن قصائدهم ذهبت في طي النسيان، ولم يحفظها التاريخ، وذلك لإهمال الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين لمثل هذه القصائد.
القيام بواجب التعريف بالإسلام:
وهنا واجب مهم، وهو أن نقوم بواجبنا كمسلمين للتعريف بالإسلام لهؤلاء الناس، تعريفا صحيحا، يخاطب العقول، ويعتمد البراهين العلمية، والحجج الواضحة، التي تقدم الإسلام صافيا كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الانشغال بالسباب أمام الهجوم ليس حلا مجديا، بل يزيد الأمر سوءا، وفي نموذج نقاش أنبياء الله مع قومهم خير دليل وبرهان على ذلك.
فنرى نموذج حوار نبي الله موسى مع فرعون، إذ يقول تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ. قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) الشعراء: 23 ـ 29.
فالمتأمل للحوار هنا يلاحظ: أن نبي الله موسى، يشرح رسالته، وقد سأله فرعون ساخرا: (وما رب العالمين)؟! فقام نبي الله موسى بالشرح، من هو رب العالمين سبحانه وتعالى، إنه: (رب السماوت والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين)، ويحاول فرعون الخروج بموسى عليه السلام عن الموضوع لنقله إلى مكان آخر من الحوار، عَلَّ ذلك أن ينفع في جره إلى حوار جانبي يبعده عن هدفه الأساسي، فقال فرعون: (ألا تسمعون)؟!
فهم عقلية الغرب، والوقوف على أسباب موقفه من مقدساتنا، أمر يحتاج إلى تكوين مراكز بحثية ذات صلة بالغرب واقعا، وفلسفة، ومنهجا، تحلل هذه النفسية، وتبين أنماطها ومداخلها، وأنسب طرق التعامل معها، ليس لأجل الرد فقط، بل لأجل التواصل الذي هو أصل رسالة الإنسان المسلم في الحياة
وكأنه يريد أن يفرض فكرته التي رسخها في نفوس الشعب المصري وقتها، بأنه (ما علمت لكم من إله غيري) القصص: 38، فكيف يقول: إن هناك ربا آخر لكم غيري؟! فكان رد نبي الله موسى بأمر قاطع، إن كنت إلها، فمن كان رب آبائك، وآبائهم، وأنت لم تولد بعد: (ربكم ورب آبائكم الأولين).
وهنا عمد فرعون إلى حيلة يقوم بها، وهي سبُّ نبي الله موسى، لعله بذلك أن يخرجه عن جادة الأمر، وقد رأى على وجوه الشعب آثار الاقتناع، وأن النقاش بالحجة الذي قام به نبي الله موسى يؤتي ثماره، فقال فرعون: (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون).
هنا يريد بالسب والاتهام بالجنون، إخراجه عن صلب الموضوع، وهو الحديث العقلي والقلبي عن الإيمان بالله، لجر المناقش الذي ربح النقاش بالبرهان والحجة، إلى مساحة السب والشتم والتجريح، وهي المساحة التي يتقنها كل ضعيف الحجة، مستبد بالرأي، فيحول محاوره قوي الحجة، جاد المنطق، إلى استثارته وتحويله من صاحب رسالة يحسن التعبير عنها، وينشغل بها، إلى مُسْتَفَز بأمر شخصي، فينتقم لشخصه، ويتحول الحوار والمناظرة إلى سباب يفلح فيه الأقدر على الشتم والتجريح.
ولكن نبي الله موسى كان واعيا لعقلية فرعون، وتكوينه الهشّ الضعيف، فلما اتهمه بالجنون، كان قرار نبي الله موسى الاستمرار في عرض الحجج، فقال عليه السلام: (رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون).
لو أننا قمنا بحذف كلام فرعون الذي تدخل به في عرض فكرة نبي الله موسى عن الإيمان بالله، ووضعنا كلام نبي الله موسى سنراه كلاما منسقا متسقا مكملا لبعضه تماما، فقرة تلو الأخرى، وكأن فرعون بكلامه ليس موجودا، ولا قيمة له، فاهتم نبي الله موسى بعرض الحقائق، ولم يُعْن بالرد على السباب والتسفيه، أو السخرية الشخصية منه.
فكان قرار فرعون، وهو قرار كل ضعيف ظالم مستبد: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين).
البحث عن وسائل جديدة للدعوة:
كما أن من سلوك القرآن أمام إساءات المسيئين، هو البحث عن بديل مهم للناس، لا التركيز على إساءة أو تشكيك المشكك، ومن هذا قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا) البقرة: 104، فهنا لم يكتف القرآن بمجرد النهي عن كلمة كانت تستخدم من اليهود للإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم، بل أوجد القرآن بديلا مهما، ويحقق الغرض، ولا يستخدمه اليهود في الإساءة، وهو كلمة أخرى (انظرنا).
وهي دلالة على أننا لسنا مطالبين بالشجب والرفض والتنديد، ونقف عند هذا الحد، أو يتطور لممارسات عنيفة ضد المسيء، بل علينا البحث عن بدائل مهمة تصحح الصورة المشوهة في أذهان الناس.
وهو ما أسهب فيه القرآن الكريم في ذكره، في كل ما شنه الملحدون، أو المشركون، أو الكافرون بالإسلام من شبهات حوله، أو حول الذات الإلهية، فلو تأملنا القرآن الكريم سنجده يرصد الشبهة ويرد عليها، ردا علميا مقنعا.
هذه وسائل أجدى وأنفع من رد الإساءة بالعنف، فالعنف يصدر صورة سيئة عن الإسلام وأهله، لكن النقاش العلمي، والدعوة بالتي هي أحسن، والرد السلمي بالمقاطعة الاقتصادية، أشد أثرا من أي فعل عنيف، وقد رأى الناس بأعينهم أثر الأعمال السلمية الحضارية، وكيف أنه هز من يقبل بالإساءة لديننا في فرنسا، كما ظهر أثره في بلاد أخرى من قبل.
[email protected]