كتاب عربي 21

المواطنة مفهوم إنساني اجتهادي.. المواطنة من جديد (13)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600

من الجدير بالذكر أننا حينما صدّرنا المقال السابق بعنوان أقرب ما يكون للاستفهام حول مفهوم المواطنة؛ كان الأمر يعني ضمن ما يعني مسائل عدة؛ أهمها ما يشير إلى أن المفهوم الغربي للمواطنة قابل للنقد والاستدراك عليه؛ كما كان يعني كذلك إنسانية هذا المفهوم وفق استناداته الأساسية ودعائمه المتنوعة والتي تتواصل مع مفهوم الإنسان وحقوقه الجوهرية المرتبطة بحقوقه الجوهرية واللصيقة به وبكونه إنسانا يشترك في معنى الإنسانية بغض النظر عن ثقافته وجنسه ولونه وفكره ودينه. ويعني كذلك أن كل الحضارات والثقافات مدعوة لأن تسهم وتدلي بدلوها في تشكيل هذا المفهوم، مستمسكة بنواته الصلبة دون أن يصرفها ذلك عن تقديم طبعتها الخاصة أو رؤيتها الاجتهادية المنفتحة، ومن ثم يكون لها حق التعقيب على متضمنات هنا أو هناك تقبل التحفظ، وإطلاقات تقبل التقييد، وتجليات تتنوع في الأداء والممارسات، وتتحفظ على تحيزات أيديولوجية أو تطبيقات سلبية.

في هذا السياق، يمكننا فقط تأصيل هذا المفهوم، وتفعيل مقتضياته، وتشغيل محركاته، والعمل من خلال آلياته، ومسالكه، وبنياته. ضمن هذه الرؤية الكلية يكون مفهوم المواطنة بمثابة اختبار معملي لإشكالات تتعلق بمناهج النظر الكلية، ومناهج التناول الجزئية، والتعاطي مع مناهج التعامل مع الواقع ومعطياته الحضارية والتشغيلية، من دون أن نهمل جانب التحديات الذي يتعلق بتشغيل هذه الرؤى والمآلات المترتبة عليه في سياق رؤية استشرافية مستقبلية.

المواطنة تعد جزءا من منظومة الجامعية المعاصرة، والاشتراك في الإنسانية والاجتهاد المنظومي يحدث اجتهادا يسكن المواطنة ضمن منظومة الاجتهاد القادر على توظيف فكرة المواطنة ضمن سياقات الجامعية والجماعة الوطنية، وضمن سياقات صناعة التوافق المجتمعي وأصول اعتصامه في إطار فهم متجدد لحركة الإجماع المعاصر؛ بين موافقاته وتوافقاته وجامعيته وعوامل عصمته واعتصامه.

 

المواطنة تعد جزءا من منظومة الجامعية المعاصرة، والاشتراك في الإنسانية والاجتهاد المنظومي يحدث اجتهادا يسكن المواطنة ضمن منظومة الاجتهاد القادر على توظيف فكرة المواطنة ضمن سياقات الجامعية والجماعة الوطنية، وضمن سياقات صناعة التوافق المجتمعي

هذه الشبكة الاجتهادية نحن أحوج ما نكون إليها للوقوف على حال عوالمنا المختلفة؛ عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء، وعالم الأحداث، وعالم الرموز، وعالم النظم، وعالم المفاهيم، وعالم الخبرات، وعالم النماذج المعرفية ورؤى العالم، وعالم الإدراكات، وعالم التحديات، وعالم الاستجابات، وعالم الاستراتيجيات، وعالم التشكيل الحضاري، والأبنية الحضارية، والعوالم الثقافية والعقلية والفكرية وعوالم القيم وأنساقها والأخلاق وبنياتها، وعوالم المناهج والتفكير المنتظم، وعوالم المجالات المختلفة في سياسة واقتصاد واجتماع وتربية، وثقافة وفكر وعوالم الأفراد والتشكيلات الجماعية والجمعية والمجتمعية وعوالم الفكر والحركة.

ويترتبط بذلك كله عوالم الاجتهاد وعمليات التجديد الحافزة على العمران الحضاري ونهضته، وعالم الوسائل والآليات والادوات والإجراءات والقواعد والمؤسسات والوسائط.. وعالم العقبات والمسهلات، وعالم الداخل والخارج، وعوالم العمليات المتعلقة بالمشاركة والشرعية والقيادة والحركات الاجتماعية والقوى السياسية ومسارات المواطنة.

إن من أهم المساحات والساحات الاجتهادية التي يجب توفر الاهتمام بها في عالم المفاهيم والدواعي الدافعة للتعامل مع المفهوم وضرورات إعادة بنائه تنظيرا وتطبيقا والممارسة تفعيلا وتشغيلا؛ فقه الواقع.

فتعريف الواقع وشموله هده الامتدادات الزمنية والمكانية الإنسانية؛ والمستويات المختلفة الفردية والجماعية بكل تكويناتها الحضارية؛ والداخل والخارج بفعل التداخل الشديد بحكم عناصر ثورة الاتصال وثورة المعلومات؛ كل ذلك يجعل من الضروري التعرف على عمليات مهمة في فقه الواقع.. فقه الحال الذي يحرك عناصر التعامل مع الواقع المعاش لاعتبارات تفرضها عناصر الزمان والمكان.

إن سيولة المشاكل الدولية وتأثيرها على أنحاء المعمورة؛ لا يمكن أن يتحقق الدور الفاعل بصددها إلا من خلال فقه الحال، ولا يؤخر البيان فيه عن وقت الحاجة، كما يعتبر من فروض الوقت التي يجب جعلها ضمن قمة سلم الأولويات البحثية كمقدمات لوعي المواقف ووعي الوسائل والآليات؛ وفقه المجال باعتباره الوسط المتشابك في إطار تصور التفاعل بين الداخل والخارج وتفاعل دوائر الواقع المختلفة؛ وأخيرا فقه المآل: فان اعتبار المآل من المقصودات الشرعية والتي تحرك التفكير والتدبر والتخطيط لعناصر الفعل الحضاري.

 

سيولة المشاكل الدولية وتأثيرها على أنحاء المعمورة؛ لا يمكن أن يتحقق الدور الفاعل بصددها إلا من خلال فقه الحال، ولا يؤخر البيان فيه عن وقت الحاجة، كما يعتبر من فروض الوقت التي يجب جعلها ضمن قمة سلم الأولويات البحثية

والواقع هنا ليس تعاملا عفويا؛ بل هو جملة من الأفعال الحضارية تترتب عليها آثار ونتائج، وفقه المآل هو أولى خطوات التفكير المستقبلي ويحرك عناصر التدبر في التعرف على عواقب الأمور وعاقبتها.

غاية الأمر في هذا الموضوع أننا في حاجة إلى مجتهد من نوع مختلف؛ مجتهد قادر على إحداث فقه عميق بالنظر الجزئي، وفقه دقيق بالنظر الحضاري، وفقه منظم يتعلق بالنظر المنهجي تنتظم فيه عناصر الفعل الجزئي بالفعل الحضاري بكليات في أصول الفقه الحضاري الذي يؤصل نماذج معرفية تصوغ عقل المجتهد، بما يتناسب مع ذلك المعمار الناظم وتعقد المشكلات وتركيبها وتواقفها على بعضها.

إن بناء استراتيجيا أو توجها نحو بناء المواقف والقدرات المتكاملة والمتكافلة يمثل أحد مداخل الاستجابات الواعية لمواجهة التحديات التي تنهال تترى على الأمة. ومن هنا فإن عملا ثقافيا وتربويا من الأهمية القيام به، في إطار التدريب الواعي على فنون "الاختلاف" وفنون "الائتلاف" على حد سواء، بحيث تشكل البنية التحتية لاعتصام الأمة وتعبئة قدراتها، في إطار تجميع المصالح وإمكانات تبادلها بدلا من تناقضها وتصارعها.

"بناء المصالح" واحد من أهم الأهداف المشتركة التي يجب أن تؤسس على قواعد ثقافية وتربوية واجتماعية واقتصادية وسياسية؛ بما يحقق "التجديد التفعيلي" على الأرض، وبما يصب في عافية الأمة وكيان وجودها وحركة استمرارها ونهوضها وعمارتها وارتقائها.

إن جهود التأصيل والتفعيل والتشغيل للمواطنة يجب أن تكون ضمن تصور استراتيجي؛ يحقق جامعية وفاعلية الأمة وتماسك جماعتها الوطنية وهويتها الثقافية، وتأهيلها لمعاني الرافعية للنهضة، والدافعية لعمرانها، وبناء المصالح المشتركة والمتبادلة بحيث تتحرك صوب تأسيس ذلك كواجب وقت تقوم عليه جملة الثوابت والكليات، وهو ما دعانا إلى ضرورات استثمار وتفعيل وتشغيل المدخل المقاصدي وغيره من مداخل كلية في تجديد الخطاب الديني بنية وأداء، على أن تكون عملية التجديد هادفة الى تحقيق غاية ومقصد استراتيجي؛ من مثل الحفاظ على جامعية الأمة وفاعليتها واستئناف أدوارها الحضارية ومكانتها، للقيام بهذا الدور الحضاري والاستراتيجي في آن واحد.

المواطنة ضمن هذا السياق حركة المرجعية والدافعية والرافعية والجامعية والشرعية والتجديدية والفاعلية.

 

المواطنة وكذا الديمقراطية هي مفاهيم علمانية بالأساس والتأسيس؛ مدنية غربية في الكشف عنها، إلا أن ذلك لا ينفي إنسانيتها

إن المواطنة وكذا الديمقراطية هي مفاهيم علمانية بالأساس والتأسيس؛ مدنية غربية في الكشف عنها، إلا أن ذلك لا ينفي إنسانيتها. وعلى هؤلاء المحتكرين لعلم المفاهيم ألا يتناسوا أو يُغفلوا أن الخبرات الحضارية والثقافية والدينية تملك طاقات تمثل حفزا لقيم التماسك والجامعية، وهي أمور تسهم في تشكيل رؤية للمواطنة؛ تحقق أصول هذه الرابطة السياسية وفق قواعد وسنن تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحكم هذه العلاقة بما يؤكد معاني الجامعية فيها. وإذا لم تتأكد العلمانية شرطا في هذا المقام، فإن الدين لا يعد مناقضا للمواطنة عند الحديث عن تأسيس المجتمعات وتشكيل شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية.

نحن أمام علاقة شديدة التركيب، ولا نستطيع إلا أن نؤكد أن مفهوم المواطنة ظل اختراعا معرفيا مهما في شأن العلاقة في هذا السياق ونوع هذه المجالات، بل وارتبط بها ارتباطا عضويا لا نستطيع إلا أن نعتبره في هذا المقام مفهوما منظوميا وشبكيا.. هذا المفهوم أثار لغة تجميعية وجامعية، ومن المهم أن نتوقف عنده وعليه؛ وهو ما سنتناوله في مقال قادم.

twitter.com/Saif_abdelfatah

التعليقات (0)