كتاب عربي 21

المواطنة بين استبدادين.. المواطنة من جديد (9)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
حينما نتحدث عن العالمية فإن الأمر يتعلق بحماية المواطن الفرد في كل مكان، وحفظ حقوق الإنسان بغض النظر عن الجغرافيا، هذا كنا ما نتصور.

نشأ المفهوم تقريبا بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك لأنه إبان تلك الحقبة لم تكن هناك منظمة دولية أو سلطات أو دول ساهمت أو حاولت بجدية إيقاف أعمال العنف الدامية، ففكر بعض الناشطين في المناداة بمواطنة عالمية لأن تأثير الشعوب قوي ومؤثر. فكان القصد من وراء المفهوم وجوهره هو حفظ حقوق الإنسان والخروج من نطاق المحلية (الضعيفة أو الفقيرة أو المتناحرة) إلى العالمية.

ولكن في حقيقة الأمر إن تصاعد مفهوم العولمة ومفهوم المواطنة العالمية، ومفهوم الإنسان العالمي، وعالمية حقوق الإنسان، والديمقراطية العالمية، كل تلك المفاهيم بدت في الممارسة وكأنها انتقاص من حقيقة المواطنة وحقوقها داخل الدول القومية، ومنها دولنا بالطبع.

كنت قد كتبت كتابا أظنه مهما في بابه، وهو "الإسلام والعولمة رؤيتان للعالم"، كنت أنتقد فيه مفهوم العولمة وما آل إليه بالاعتبار أنه يهدف إلى تنميط البشر ضمن قيم حضارة غالبة؛ ونظن أن تلك المفاهيم أيضا التي وصفت بالعولمية لم تكن أفضل حالا من مفهوم العولمة المسكون بالهيمنة وبالتنميط وإحكام علاقة المغلوب بالغالب، ضمن حالة من الولع العولمي لا يستطيع أحد إنكاره على حد مقولة "ابن خلدون": "المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في عوائده وزيه ونحلته وسائر أحواله"، ليدلنا على قانون خطير وكأنه يحدثنا عن تلك العولمة الغالبة وجهازها المفاهيمي الذي أنتجته، مثل المواطنة العالمية وحقوق الإنسان العالمية والديمقراطية العالمية.

ويبدو أن هذا المفهوم العولمي حمل في طياته نمطا استبداديا في بنيته وسياساته، ضمن مقولة أخرى تتعلق باللحاق بركب العولمة. وذكر البعض في تلك الآونة أن قطار العولمة يسير بأقصى سرعته وأن أحدا لن يوقفه، وأن على الآخرين أن يركبوا هذا القطار مختارين أو مجبورين وإلا دهستهم العولمة وافترستهم عن بكرة أبيهم. واستدلوا في ذلك ببعض التجليات الواضحة وكانت من وضوحها أن أحدا لا يستطيع إنكارها، وأنها روجت لحتمية عولمية جبرية إكراهية أو إذعانيه في ثوب القبول، والموافقة ضمن عملية كبرى لهندسة القبول العولمي.

وبات مفهوم الديمقراطية العالمية يتحرك ضمن عناصر تبشير هائلة بالمفهوم الديمقراطي؛ المسكون بحالة عولمية تتعلق بتوحش الليبرالية وافتراس الرأسمالية. وبات مفهوم حقوق الإنسان في عولميته يعاني في حقيقة الأمر ضمن ترويج ثقافة عولمية غالبة وسائدة، فصارت وهي تهدف إلى الهيمنة تدوس بالأقدام على حقوق إنساننا من أقرب طريق تحت دعاوى مختلفة، منها أننا قد فشلنا في اختبار اللحاق بالعولمة وما شاكلها من جهاز مفاهيمي تبعي..

صار إنساننا متهما، وصار إنسانهم راقيا يستحق كل الحقوق، وإنساننا لا يستأهل أي حقوق، وكأن مفهوم العولمة حينما استند إلى فكرة الغالبية والحضارة الغالبة صار في حقيقة الأمر مسكونا بنظرة عنصرية ومفيرسا، وصار العالمية والعولمة فيه عملا استعباديا واستبداديا.

ولم يكن مفهوم المواطنة أحسن حالا، خاصة حينما التحق بالركب العولمي، فصار من ذراريه يتصف بأوصافه ويجعل المواطن في بلادنا محل استهداف كما كان إنساننا، وصار الأمر في الحقيقة أن هذه المفاهيم بدلا من أن يكون وصفها بالعالمية حماية للمواطن الإنسان العالمي فينال حقوقه كاملة غير منقوصة بافتراض هذه الضغوط العالمية والإنسانية، إلا أن الأمر للأسف الشديد قد سار في الطريق العكسي. فالمواطن العالمي ليس ما بشّر به "هابرماس" باعتبار "الدولة العالمية هي الراعية لحقوق المواطنة عندما يقع الاعتداء عليها من طرف الدولة الوطنية، وقاعدتها القانونية أن الإنسان ليس فقط مواطنا داخل دولة ذات سيادة، بل هو مواطن عالمي وموجود في العالم، ويطلب من هذه الحكومة العالمية أن تصون كرامته إذا تعرض إلى أي اعتداء.

يعبر "هابرماس" عن هذه الفكرة الجديدة بقوله: "إن مفتاح الحق لدى المواطن العالمي يكمن في كونه يعني منزلة الحق الفردي للذوات مؤسسين لهم انتماء مباشر إلى جماعة المواطنة العالمية الحرة والمسؤولة".

المواطن العالمي كائن مرن يتكيف مع الظروف المحيطة به، ليس محليا بل عالميا، فإن أفكار المواطن العالمي تتخطى الكيان الضيق لتتفاعل مع الأفكار السائدة في الكيانات والمجتمعات الأخرى. هذا التداخل الفكري الذي سهّلته وسائل الاتصال الحديثة المتطورة؛ أوجد تيارا فكريا عالميا تعدى المفاهيم والأفكار القائمة على العقيدة القومية المحدودة المجال، مهما اتسعت رقعة الأمة- الدولة الواحدة، وأتت العولمة تزكي المواطن العلمي المستهلك ليأتمر ويتوظف في شركات متعدية ومتعددة الجنسيات.

هكذا كانت سيرة هذه المفاهيم العولمية، والتآكل الذي أصابها في الممارسة وفيرستها على المستوى العالمي، حتى أن الأمر صار ضمن عقد غير مكتوب بين الاستبداد العولمي الذي صارت العولمة أعلى مراحله، والاستبداد الداخلي الذي صار فيه المواطن ضحية استبدادين: استبداد عولمي مسكون بعنصرية التنميط، واستبداد داخلي صار يجد الفرص في اتهام مواطنيه المعارضين بذات التهمة العولمية التي تتعلق بالإرهاب العالمي، وبات المواطن بين مطرقة وسندان يحاصر باستبدادين ضمن مقايضات عجيبة.

ولا شك في أن الانقلاب في مصر على سبيل المثال لم يكن ليتمكن إلا من خلال تلك الرؤية العولمية القائم على اقتصاد المصالح الأنانية، والاحتكار العولمي والاستئثار العالمي..

معادلة خطيرة.. بات المستبد يبيع وطنه ومصالحه ويفعل بمواطنه ما أراد، ويقدم خدماته في علاقات مدفوعة الثمن لينال شرعنة لسياساته الاستبدادية التي تقتل المواطن وتستعبده وتعدمه. وصار هذا التشوه العولمي الذي ينضح بدوره ويتسرب إلى تشوهات في بنيات النظام الدولي؛ يتحرك للأسف الشديد ضمن حالة وجد فيه المواطن نفسه في بلادنا خائر القوى عاريا من أي حماية، وصار استهدافه من المستبد في الداخل أمرا مستساغا ومبررا طالما حقق أهداف الاستبداد العولمي لدول الغرب المسيطرة على الاقتصاد العالمي، فكانت المواطنة من ضحاياه ومن ضحايا الاستبداد العولمي والاستبداد الداخلي على حد سواء، ولم يجد له عونا إلا من منظمات دولية غير حكومية قامت بالدفاع عن الحقوق الإنسانية وبعض السياسيين الذين تبنوا مواقف إبراء للذمة وذرا للرماد في العيون، وصارت المؤامرة على المواطن محبوكة وشباك العولمة منصوبة، وسياسات الطاغية مرضية مقبولة.

معادلة أخطر ما يكون، فلا يهم هؤلاء العولميون إلا أن يمنعوا هجرة خارجية من أوطان الاستبداد بعد استهدافهم بالقتل المباشر بالبراميل المتفجرة أو المطاردة المتجبرة، فصار المواطن محبوسا في وطنه يتصرف فيه المستبد كيفما شاء، ضمن معادلة "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد "، كما أثبتها "الكواكبي" في كتابه.

ومن ثم فإن هذه المفاهيم العولمية، ومنها مفهوم المواطنة، قد أصابه العطب الشديد ضمن فيرسته العولمية المسكونة بالعنصرية الاستبدادية، وصارت الحقوق وانتهاكاتها أمرا مقبولا ضمن مقايضة ومساومة بمنافع اقتصادية وحفظ مصالح أصحاب الحضارة الغالبة، فصار المستبد يقتل شعبه ويقايض ذلك بخدمة هؤلاء وأهدافهم، فيمرر طغيانه من خلال استبدادهم العولمي وتوحشهم الاقتصادي.

وبات الأمر في حقيقة الميدان العالمي يفرخ ألف سبب وسبب لإرهاب حقيقي وعنف يشهد عليه القاصي والداني أنه كان من صناعة الظالمين، سواء في منظومة عولمية مشوهة أو منظومة طغيانية في الداخل متجبرة.

ونظن أن أزمات فيروس كورونا كشفت أزمات فيروسات الاستبداد العولمي والطغيان الداخلي، وفضحت كثيرا من هذا الذي نرى ضمن حالة عنصرية متصاعدة حتى داخل البلد الواحد. وبات هذا الأمر في حقيقته ليس إلا مدخلا لعولمة الكراهية ذاتها، وهو أمر يستحق منا البحث في الجذور ومواجهة ذلك التشوه المزمن، سواء في بنية الاستبداد العالمي أو في بنى الاستبداد الداخلي، وأن زواج المتعة أو الزنا بينهما أخرج من الذراري التي لا أصل لها ولا نسب؛ إلا أن تسعى في الأرض بالفساد والإفساد، وتمرر أمورا لم يتخيل البعض أنها ممكنة الحدوث أو ممكنة القبول؛ لأنها خرجت عن المقبول والمعقول وأسس الفطرة السليمة.

صارت شبكة الاستبداد العولمي والداخلي ضمن هذا العمل الذي يضاد الفطر السليمة والأفكار القويمة التي تتعلق ببقاء الجنس البشري، وكأن" كارل دويتش"، علم السياسة والعلاقات الدولية المبرز، كان يرى هذا بمنظاره الكاشف حينما قال إن العلاقات الدولية يجب أن لا تعّتمد حالة الصراع ومسألة القوة، وأن تستبدل ذلك بأن يكون من هدفها ومقصودها "فن الإبقاء على الجنس البشري".



twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)