هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يوما بعد يوم يتأكدّ أن إجهاض الربيع العربي، بإفشال ثوراته، وإنهاء انتفاضاته الشعبية، أعاد إنتاج السلطوية العربية بصورة أشد شراسة عما كانت عليه قبل اندلاع الثورات العربية، وهو ما يصب في صالح أنظمة الاستبداد والفساد، وأجّج قوى الثورة المضادة المحلية والإقليمية لتفرض أجنداتها على المنطقة برمتها.
ويكثر في هذا السياق الحديث عن دور القوى والتيارات الإصلاحية التي دخلت على خط الثورات، والتي أخفقت في استثمار حالة تضعضع أنظمة الفساد والاستبداد بعد ما أصابها في ذروة اشتعال الانتفاضات الشعبية في كثير من الدول العربية، بل ربما ساهمت في إفشال الثورات لعدم قدرتها على قيادة العمل الثوري، وإدارة الصراعات، وهو ما كان واضحا فيما آلت إليه تلك الثورات وفق مراقبين.
ولئن كان من حق القوى والتيارات الإصلاحية، على اختلاف انتماءاتها الفكرية، استثمار كل الفرص المتاحة لها لإنجاز مشاريعها، وتنفيذ برامجها، فإنها حينما دخلت على خط الثورات لم يكن بوسعها إلا المشاركة السياسية الناعمة والهادئة انطلاقا من بنيتها ورؤاها الإصلاحية، وهو ما ساهم في إجهاض الثورات وانتكاسة الانتفاضات الشعبية بحسب منتقدي أداء التيارات الإصلاحية ما بعد الثورات.
لكن ثمة من يجادل من منظري تلك القوى ومؤيديها بأن الحركات والتيارات الإصلاحية مؤهلة وقادرة بما لديها من خبرات وتجارب وقيادات ذات خبرة وحنكة على استثمار حالة ما بعد الثورات والانتفاضات، وترشيد الفعل الثوري بما يصب في مصالح الثورة وبما يحقق مطالب الجماهير المنتفضة.
ويكشف الجدل حول طبيعة البنى الفكرية للحركات الثورية والإصلاحية، وطريقة وآلية عمل كل منهما عن وجود تمايز بينهما، وهو "ما يعززه الانطباع العام الذي يحتاج إلى إعادة تعريف المصطلح من حيث دلالته وهدفه ومبتغاه" بحسب القيادي في جماعة الإخوان المسلمين بالأردن، زكي بني ارشيد.
وأضاف: "إذ تتفق الحركات الثورية والإصلاحية في فلسفة ونشوء الحركات الاجتماعية والسياسية، باعتبار أن الجميع يسعى للإصلاح والتغيير، فالحركات الثورية أقرب إلى منهج التغيير الراديكالي وأقرب شعار للتعبير عن مضمونها أثناء الربيع العربي هو (الشعب يريد إسقاط النظام".
وتابع بني رشيد حديثه لـ"عربي21" بالقول "في حين أن الحركات الإصلاحية تسعى لإحداث تغيير في بنية النظام السياسي وليس الإطاحة به، بمعنى التغيير في سلوك النظام وليس إسقاطه، عبر التحول الديمقراطي المتدرج، وتوسيع المشاركة الشعبية في صناعة القرار، ولعل الشعار الذي يمثل هذا المنهج هو (الشعب يريد إصلاح النظام).
وطبقا لبني ارشيد فإن "الحركات الثورية ترى أن الأنظمة العربية لا يمكن إصلاحها إلا بالثورة والاستبدال، في حين أن الحركات الإصلاحية ترى أن العبور الآمن نحو المستقبل يكون بالمشاركة مع النظام السياسي في صناعة الإصلاح المطلوب" مؤكدا على أن "الأنظمة السياسية تتحمل القدر الأكبر عن مسؤولية تعثر عملية الإصلاح والانتقال الديمقراطي".
وعن مدى أهلية الحركات الإصلاحية لاستثمار فرصة ما بعد الثورات بعد دخولها على خطها رأى بني ارشيد أن "الفرص المتاحة تنفتح أمام الجميع، وقدرة الحركات الإصلاحية المؤهلة سياسيا لاستثمار تلك الفرص والتكيف معها أكبر من غيرها، وبذلك تتولد الرغبة لدى البعض لقطع الطريق أمام الإصلاحيين، ومحاولة إعاقة مسارهم، ويذهب بعضهم إلى التحالف مع الأنظمة القمعية ضد الحركات الإصلاحية" على حد قوله.
ولفت إلى أن "تجارب الربيع العربي تؤكد أن ثمة ضرورة ملحة لمراجعات موضوعية من أجل اكتساب الخبرة في التعامل مع أحكام ومتطلبات المرحلة الانتقالية، تماما كما حصل في التجارب العالمية الناجحة في إدارة محطتها الانتقالية وتحولها الديمقراطي".
من جهته رأى الكاتب والباحث المصري في شؤون الحركات الإسلامية، عمرو عبد المنعم أن "الحركات الإصلاحية حينما تنتقل من مربع الإصلاح إلى مربع العمل الثوري فإنها غالبا ما تفشل في ذلك، وبالتالي ينعكس فشلها بصورة سلبية على الثورات نفسها، وربما كان دخولها على خط الثورات من أسباب فشل الأخيرة وإجهاضها".
وحول إمكانية قيام الحركات الإصلاحية بمراجعات جادة تعيد من خلالها تأهيل نفسها، قال عبد المنعم "بكل صراحة ووضوح لم تعد تلك الحركات قادرة على القيام بذلك، وعليها أن تتنحى جانبا، وتعلن فشلها وعدم قدرتها على الاضطلاع بذلك الدور الذي تصدت له وفشلت عن تحقيقه وإنجازه" وفق وصفه.
وأضاف عبد المنعم لـ"عربي21": "الحركات العربية الإصلاحية على اختلاف انتماءاتها تنفر من ممارسة النقد الذاتي بصورة جادة وعميقة، وتفضل عوضا عن ذلك العيش على أمجاد الماضي وأطلاله، لذلك نراها تكرر أخطاءها، ولا تستفيد من تجاربها وتجارب غيرها، وهو ما يوقعها في الفشل في كل مرة".
وأشار عمرو إلى أن "الشعوب العربية فقدت ثقتها في كثير من تلك الحركات الإصلاحية فيما يتعلق بالجانب السياسي، وإلى حد كبير فيما يتعلق بالجانب الديني" مرجحا أن "يكون المستقبل للرؤية الحضارية الدينية، مع توافر الفرص لحركات دينية لا اشتغال لها بالسياسية كجماعة الدعوة والتبليغ، والتصوف المعتدل".
بدوره رأى الكاتب والباحث السوري، أحمد الرمح أن "الإصلاحيين العرب على اختلاف انتماءاتهم الفكرية كانوا قبل الثورات العربية أشبه ما يكونون بفلاسفة التنوير الأوروبي، الذين أسسوا للعقل الثوري من خلال أفكارهم وكتاباتهم، واستطاعوا بحراكهم الناعم أن يزرعوا في عقول الناشئة فكرة التغيير وإمكاناته وطرائقه، فهم من نظَّر لذلك ابتداء".
وواصل الرمح حديثه لـ"عربي21" بالقول "واستطاع كل تيار أن يؤسس في أوساط أتباعه رؤيته للتغيير، لكنهم لم يتفقوا على استراتيجية جامعة للتغيير بصورة نهائية، ومن المعروف أن الفعل الثوري حاد بطبيعته، وسلوكياته غالبا ما تتسم بالعاطفية، والإصلاحيون في أغلبهم ينزعون إلى المحافظة على إطار الدولة وشكلها دون النظام، لأنهم يفرقون بين الدولة والنظام، على عكس الفعل الثوري الذي يهدق إلى التخلص من النظام القائم برمته".
وللتمثيل على ذلك استدعى الرمح "حالة حركة كفاية المصرية، التي كانت تجمع في صفوفها قبل ثورة 25 يناير مختلف ألوان الطيف الإصلاحي، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وقد أُبعدت عن المشهد لأن الحالة الثورية تنزع إلى الانفعالية والتغيير الجذري، وهو ما لا يتوافق مع أفكارها ورؤاها الإصلاحية".
وعن إخفاق الحركات الإصلاحية في استثمار ما بعد الثورات، ذكر الرمح أن "الإصلاحيين لم يخفقوا، إنما الذي أخفق هو الثورات، لأنها ثورات تنتمي إلى ما قبل الحداثة، إلى ثورات القرن الماضي، الحدّية الراديكالية، ما أنتج ثورات مضادة أشد شراسة انقلبت على الحالة الثورية، وانقضت عليها بكل قواها وإمكاناتها فأجهضتها وأفشلتها" منبها على أن "الثورات تعسكرت وهو ما لا يتوافق مع توجهات الإصلاحيين لأنهم لا يؤمنون بالعمل العسكري أصلا".
وختم حديثه واصفا العقلية الإصلاحية بـ"التشاركية" على عكس العقلية الثورية التي تنزع إلى إقصاء الآخر وإلغائه، مؤكدا على طبيعة إدارة الإصلاحيين للمشهد السياسي الانتقالي لو أن الأمور آلت إليهم، فستكون إدارتهم قائمة على التشاركية والتنوع، وسيكون نجاحهم استراتيجيا على المدى الطويل، بفضل أفكارهم ورؤاهم التي ستكون حاضرة ومؤثرة وفاعلة.