أفكَار

العنصرية بوجهها العربي.. الجزائر نموذجا (2 من 2)

مواجهة التهميش والمطالبة بالعدالة الاجتماعية من شعارات الحراك في الجزائر  (الأناضول)
مواجهة التهميش والمطالبة بالعدالة الاجتماعية من شعارات الحراك في الجزائر (الأناضول)

يواصل الإعلامي الجزائري حسان زهار، بحث ملف العنصرية في وجهها العربي متخذا من الجزائر نموذجا لذلك. وبينما ركز في الجزء الأول من تقريره الخاص بـ "عربي21"، على المفاصل الرئيسية للعنصرية بأبعادها المحلية في الجزائر، يناقش في الجزء الثاني والأخير من هذا التقرير مع ثلة من الخبراء والكتاب الجزائريين سبل فهم الطروحات العنصرية بهدف عزلها. 

الجهوية في الجزائر معطى استعماري

تعد العنصرية بالنسبة للكاتب والإعلامي يوسف شنيتي، ظاهرة تاريخية في ميدان الوقائع الإنسانية، ظلت لصيقة بالممارسة والتصور والحكم، وليست صفة أصيلة في المنطقة العربية وحدها. فلقد خبر العرب في مختلف الأقطار ممارسات كريهة وبغيضة ذات مضمون عنصري خاصة في العهود الاستعمارية في العصر الحديث، واتخذت بالإضافة إلى أشكال القهر والقوة ضد الأهالي والسكان أشكالا أخرى متعلقة بالتشريعات والقوانين، واستمر الوضع بوتيرة أقل حدة ومحتوى أخف بعد الاستقلال، ولعل الموقف من الآخر المختلف في الجنسية والمذهب والعرق وإن كان عربيا يدلل على ما نحن بصدده، مثل وضع الفلسطينيين اللاجئين في لبنان وسوريا، والأراضي المحتلة بفلسطين وبعض القبائل في الخليج، ومن غير العرب كالأكراد وبعض الأقليات..الخ.

ويشرح يوسف شنيتي لـ "عربي21" الظاهرة العنصرية في الجزائر من كونها تأخذ طابعا مختلفا، نظرا لنتائج وآثار الاستعمار الفرنسي وسياساته التي مست الإنسان والأرض والتاريخ، حيث لم يعرف الجزائريون فيما بينهم أي شكل من أشكال العنصرية في الماضي رغم ثراء أصولهم وتعدد ألسنتهم ولهجاتهم، فقد وحدهم الدين الإسلامي وحتى المذهب المالكي واللغة العربية ناهيك عن المصير المشترك من خلال تجربة التحرر الوطني ومسار الثورة.

 



غير أن التنظيمات الاجتماعية البديلة يضيف يوسف شنيتي، كشكل من أشكال المقاومة ضد الاستعمار والكولونيالية أفرزت حضورا عشائريا وقبليا وجهويا لتنظيم الذات محليا ولم يكن القصد منها أبدا الفعل العنصري، فليس ذلك من صميم قناعات هذه الجماعات لأن اعتقادها الديني يساوي بين الناس مهما اختلفوا إضافة إلى معاناتهم منذ عام 1870 من قانون الأهالي الشهير بالأندجينا. لذلك كانت الجهوية وسيلة مقاومة وتحصين للذات ولم تكن أبدا شكلا عنصريا في المعاملة.

لقد كانت الجهوية زمن الاستعمار الفرنسي بالنسبة ليوسف شنيتي، هي التنظيم الاجتماعي الأكثر تخلفا، لكنها عند الجزائريين كانت شكلا من أشكال المقاومة وصورة عن رفض هؤلاء الأهالي لسياسات الغزاة وقوانينهم المدنية والأحوال الشخصية المدنية وقضائهم وقوانين الملكية والضرائب وما إلى ذلك مما كان يشعرهم بالتهديد في حياتهم ودينهم وأملاكهم، بل إنهم رفضوا حتى سياسات الاندماج والتبشير والتعليم من قبل حكومات فرنسا والحاكم العام الفرنسي بالجزائر، وتجلت أكثر تلك المقاومة في فترة الجمهورية الثالثة بين 1870 و1900. هذا الإسعاف التاريخي وحده يسمح بفهم ما خبره الجزائريون في الماضي وموقفهم منه وما صاروا إليه كان بحق حالة "لجوء" إنقاذا لحياتهم ودينهم، وهو وحده يقيم السؤال اليوم بشأن النعرات ذات الطابع العنصري والجهوي التي تبرز إلى السطح في كل مرحلة من مراحل التغيير الاجتماعي والسياسي في البلد بعد الاستقلال.

كما أن العنصرية في الجزائر يقول يوسف شنيتي تتجاوز لون البشرة مع أنها في المخيال الشعبي وبعض تعبيراته الشفوية وخزان الذاكرة لا تعتد بالبشرة السوداء، ولدينا خبرة سيئة عند التغيير السوسيو ثقافي للأمر وهو أيضا من التاريخ، إذ رأى الأهالي صورة سيئة عن جنود المستعمرات الأفريقية الذين شاركوا كأداة قمع حاقدة وعنيفة باسم قوات الاحتلال الفرنسي في حروبها وقمعها لهم، ليس هذا محاولة لتحميل الأمر أكثر مما يحتمل لكنه جزء من الحقيقة وإن لم يكن كلها.

الأسباب والدوافع

من جهة أخرى يمكن تأويل بعض الممارسات والمواقف من الدولة الوطنية بعد الاستقلال التي غذت بقصد أو دونه مثل هذه النعرات وحالات المقاومة السلبية للحكومات حينها. وهنا يرى يوسف شنيتي أنه قد تم رفع شعار كبير بالجزائر في السبعينيات هو سياسة التوازن الجهوي مع برامج التنمية الوطنية ولقيت تجاوبا وترحيبا لأنها تعني التوزيع العادل للثروة والبرامج على جهات القطر ومحاولة بناء الدولة بمنطق الدولة الحديثة والاجتماعية وليس بمنطق العصبة والجهة وهما ما يوغل بالتهميش والإقصاء. إلا أن كل ذلك سقط بعد الثمانينيات واندلاع الحرب الأهلية في التسعينات.

ويشرح الكاتب يوسف شنيتي الأسباب التي ساهمت في إيذاء الشعور الوحدوي الوطني بين الجزائريين وولد الانكفاء على الذات وفتح النوافذ لبعض الطروحات العنصرية الاقصائية، في ما يلي :

أولا ـ المعالجة الخاطئة لملف المسألة الثقافية الأمازيغية وتركها بيد المزايدين والمخابرات الأجنبية لسنوات طويلة.

ثانيا ـ الإحساس بالتهميش والإقصاء وحتى الحرمان من حقوق أساسية لدى جهات معينة ومنها أهلنا في الجنوب، ناهيك عن السياسات الخاطئة والجهوية للعهد البائد طيلة عشرين سنة وتفضيل جهة معينة في كل شيء.

ثالثا ـ تصاعد التيار الديني السلفي التكفيري أو الإقصائي على الأقل والذي يتجاوز البعد الوطني القومي ولا يتوانى عن إشعال حرائق الفتن المذهبية داخل البلد ويطعن في الوحدة المذهبية والدينية من مالك إلى الأشعري، وأكثر من ذلك يخرج الشيعة والأباظية من الملة، وأما التيار العلماني وأنصاره فحدث ولا حرج.

ويعتبر الكاتب يوسف شنيتي أن هذه الشروخ وغيرها أفضت، في غياب بديل جمهوري قوي بمحمول ثقافي وطني وقيم مواطنة وعدالة وتعايش، إلى تنامي خطاب الكراهية والعنف والإقصاء في وسائل الإعلام والخطاب السياسي والحزبي ووسائط التواصل الاجتماعي. لقد صار هناك خطر حقيقي يهدد النسيج الاجتماعي ومستويات الاتصال والعلاقات العامة ومؤسسات الدولة بفعل العنصرية الجديدة التي تحيي عظام الطروحات الاستعمارية القديمة القائمة على الأعراق والألسن وحتى خيبات التاريخ..!

إنها تحاول الانتقام من التاريخ نفسه وتعيد كتابته ولو بالقفز على الوثيقة والحقيقة وإخراج المعنى من سياقه، واللافت أن الأمر وصل إلى أشكال التعبير الفني والثقافي كالكاريكاتور والتشكيل والمسرح والسينما والشعر.. الخ.

القانون وحده لا يكفي

ويعتبر يوسف شنيتي أن قانون تجريم مكافحة خطاب الكراهية جاء لوضع حد لصعود مظاهر العنصرية وأشكالها ومستوياتها في الجزائر، بالنظر إلى التجربة الاخيرة منذ حراك 22 فبراير ومحاولات خرقة وتحريف مقاصده، حيث لوحظ تصاعد رهيب لخطاب الكراهية الذي يمجد العنصرية والعنف ويدحض قيم التعايش مع الآخر ويحاول استبعاد ثقافة الاختلاف.

هذا القانون يكون فاعلا فقط بالنسبة ليوسف شنيتي من زاوية التطبيق الصارم للقانون ولكنه لا يكفي وحده، إذ يتعين تعزيز الجدار الوطني القائم على الثراء الألسني والثقافي والتعبيري بكل أشكاله، فالجزائر قارة بالطوارڨ في الجنوب، والأباضية في غرداية، وبطون الأمازيغ وبتاريخها وعمقها، وأكثر من ذلك بعروبتها وإسلامها ووحدتها عبر التاريخ رغم كل شيء.

هذه الثقافة توطد عوامل الوحدة كما يخلص يوسف شنيتي، من خلال خطاب تربوي وإعلامي وسياسي منسجم، لأن الهوية بهذا الخصوص تبنى بناء كما يقول إدوارد سعيد، وهو ما ينتظر من القانون ومن أفق يشوبه الأمل مع مشروع الجزائر الجديدة القائمة على العدالة والحريات والتعايش والمواطنة ضمن مسار الوفاء لبيان الفاتح نوفمبر.

العرب ليسوا استثناء

من جانبه يرى الدكتور خير الدين العايب، من جامعة أبو ظبي، أن العنصرية بتعريفاتها المختلفة، والمرتبكة أحيانا، هي الاعتقاد بأن هناك فروقا وعناصر موروثة بطبائع الناس وعزوها إلى انتماءاتهم لجماعة أو لعرق ما، بغض النظر عن كيفية تعريف مفهوم العرق، وبالتالي تبرير معاملة الأفراد المنتمين إلى هذه الجماعة بشكل مختلف اجتماعيا وقانونيا. وبالرغم من أن التمييز العنصري يستند في الكثير من الأحوال إلى فروق جسمانية بين المجموعات المختلفة، إلا أنه قد يتم التمييز ضد أي شخص على أسس إثنية أو ثقافية، دون أن تكون لديه صفات جسمانية.كما قد تتخذ العنصرية شكلا أكثر تعقيدا من خلال تلك النزعة الخفية، التي تظهر بصورة غير واعية لدى الأشخاص الذين يعلنون أنهم مع قيم المساواة والحرية والإخاء بين البشر.
 
يقول الدكتور خير الدين العايب في معرض حديثه لـ "عربي21"، أن العنصرية في العالم العربي تهمة نوجهها غالبا للآخر، تحديدا للآخر الغربي الذي نتهمه دائما بالتعصب والانحياز وسوء الظن، فإذا كانت العنصرية في تعريفها الأكثر شيوعا تعني التعصب لجماعة أو ضدها على أساس العرق أو الدين أو اللون واضطهادها فالعالم العربي ليس بريئا من هذه التهمة، بل نمارسها كل يوم إزاء بعضنا البعض حتى لو أنكرنا ذلك. نحن كعرب نمارس العنصرية مع شروق كل شمس في منطقة شهدت مهبط الأديان السماوية التي تدعو جميعها إلى المساواة بين البشر، وتعرض سكانها للكثير من الظلم عبر التاريخ، ولا يمكن فصل النكات التي يطلقها أبناء إقليم حول آخر في نفس البلاد عن العنصرية، هذا ناهيك عمّا يتعلّق بالمرأة وطرق معاملتها، وكذلك النظرة إلى الأقليات الدينية وغيرها.

 



ومع ذلك يضيف الدكتور خير الدين العايب، أنه يجب أن نقر أن العنصرية ظاهرة ليست محصورة في العالم العربي فحسب بل هي موجودة في جميع أنحاء العالم، وهناك بعض الدول التي تُحاول القضاء عليها من خلال فرض عقوبات على كل من تبث في حقه أنه عنصري أو أدلى بخطابات تحريضية أو عنصرية. بل ظهرت العديد من الجماعات العرقية والدينية في الشرق الأوسط والتي تحتضن تلك الطوائف أو الأقليات المُعرضة للهجوم وللعنصرية لسبب من الأسباب ومن بينها العلويون، الأرمن، الآشوريين، البهائيون، البربر، الأقباط، الإسماعيليون، الأكراد، الصحراويون، التركمان، اليزيديون ثم النوبيين. هذا وتجدر الإشارة إلى أن غير العرب أو غير المسلمين مُعرضون للعنصرية بشكل كبير في العالم العربي مُقارنة بمناطق أخرى.

دور الخطاب السياسي غير المسؤول 

وبالمحصلة فإن الجزائر كما يؤكد الدكتور خير الدين العايب، هي واحدة من الدول العربية التي تتفاعل مع محيطها الإقليمي والعالمي قد شهدت خلال السنوات الأخيرة بروز بعض من هذه النعرات العنصرية التي غذتها الخطابات السياسية غير المسؤولة تجاه بعض الفئات الاجتماعية والتي لا نسميها بالأقليات كالبربر والميزابيين والشاوية والطوارق لأن جميع هذه الفئات هي جزء من النسيح الاجتماعي الجزائري الواحد الذي كان متماسكا إبان فترة الاستعمار الفرنسي.. لقد غذت الأيادي الخارجية التي لا تريد الخير للجزائر ونقصد بها بعض الجهات الفرنسية الرسمية وغير الرسمية التي لا تزال لم تصحو من غفلتها من أنها لم تعد وصية على الشعب الجزائري مثل هذه الدوائر الخبيثة لا تريد الخير للجزائر وشعبها وتسعى إلى نفث سمومها باللعب على ورقة العنصرية محاولة منها التفرقة بين الجزائريين على اساس عرقي.

ولا يعتقد في النهاية الدكتور خير الدين العايب أن تكون التشريعات والقوانين كافية للقضاء على ظاهرة العنصرية و لردع من تسول له نفسه خلق الفرقة والكراهية والخطاب العنصري بل يتعين توعية فئات المجتمع بمخاطر وتداعيات الظاهرة على مستقبل النسيج الاجتماعي... يتوجب فرض آليات فاعلة تلعب دورها بتثقيف الشعب وتوعيته بما يحاك حوله في الخفاء داخليا وخارجيا... العديد من الجمعيات التي تنشط عبر الولايات تتحمل المسؤولية الكبيرة في هذا المجال... الجزائر متماسكة بوعي شعبها وتماسك مؤسسته العسكرية التي يعود الفضل إليها في إنقاذ الجزائر من الوقوع في الهاوية.

العنصرية إفراز تاريخي

ويعرج الإعلامي محمد دخوش على انتشار العنصرية في فرنسا مثلا ضد العرب و المسلمين، معتبرا أنها إفراز طبيعي للهمجية الفرنسية تاريخيا في التعامل مع الشعوب المستعمرة وما خلفته من مجازر بشعة وسلوكيات إرهابية داعشية بعيدة عن أي مضمون قيمي كما يسوق دعاة اليمين المتطرف الفرنسي بأن الاستعمار حمل رسالة حضارية.

وينبه محمد دخوش لـ "عربي21"، إلى حقيقة أن العنصرية في فرنسا تعكس تناقضا حادا على مستوى السلوك الرسمي فهي تسوق لمفاهيم راقية في سياساتها الخارجية على غرار نشر الديمقراطية واحترام حقوق الانسان بينما تتناساها بالمطلق عندما تتعامل مع الأقليات كما تابعنا مؤخرا وحتى مع أبنائها وهو ما تجلى في الأساليب الوحشية للشرطة في التعامل مع مظاهرات أصحاب السترات الصفراء.

 



وحول تأثير مكافحة العنصرية وخطاب الكراهية في الجزائر، يؤكد محمد دخوش أنه لا يمكن أن تغير المجتمع بقرار أو مرسوم، انطلاق من هذا المفهوم فإنه لا يمكن الحد من العنصرية بقانون تجريم و مكافحة العنصرية، صحيح أنه يقلل من انتشارها في الفضاءات العمومية خوفا من الوقوع تحت طائلة العقوبات القانونية، إلا أن القضاء الفعلي على العنصرية يقوم على مراجعة دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية و تمكين الفئات الحية في المجتمع من أداء دورها في تسيير الشأن العام بشكل يقوي سلطة الشعب وينمي الانتماء للأمة بدل الانتماء الضيق لأي معطى إثني أو هوياتي.

 

إقرأ أيضا: العنصرية بوجهها العربي.. الجزائر نموذجا (1من2)

التعليقات (0)