كتاب عربي 21

خدعة "اليونيفورم"

عبد الرحمن يوسف
1300x600
1300x600

الزيّ المُوحَّد "اليونيفورم" موجود منذ أزمان بعيدة، اتخذته مؤسسات رسمية وشعبية كثيرة، وارتداء هذا الزيّ من أي شخص غير منتمٍ لتلك المؤسسة (إذا كانت مؤسسة رسمية) يعرض المرء للمساءلة القانونية، ويُتَّهَمُ حينها بانتحال شخصية موظف رسمي، وهو أمر منصوص عليه كجريمة في كل دول العالم تقريبا.

كثير من الطوائف والمهن لها زيٌّ موحد، وأي طائفة ستجد لديها غيرة على زيّها من أن يرتديه أي شخص "دخيل" على المهنة، وليس من أهلها.. يستوي في ذلك أن تكون تلك الطائفة لها علاقة بالدين (كعمامة الأزهر، أو تاج البطريرك)، أو لها علاقة بالدنيا (مثل معطف الطبيب، وبدلة الطيّار).

كان توحيد الزيّ في بعض الأحيان قرارا تتخذه الحكومات والدول لأغراض الاضطهاد والتمييز، هذا ما فعله "هتلر" مع اليهود، فأجبرهم على ارتداء علامة مميزة يستطيع منها أي رجل شرطة، أو أي مواطن من "المواطنين الشرفاء" تمييزهم في الطرقات، هنا يصبح عدم ارتداء هذا الزيّ أو هذه الإشارة "جريمة" يحاسَب المواطن عليها.

ولكن.. من أكثر خدع التدليس التي تحدث اليوم في أوطاننا حيلة الزيّ الرسمي "اليونيفورم"!

في أوطاننا كل شيء ممتهن مباح، وما أسهل أن يرتدي أي شخص أي زيّ لا يستحقه بأمر السلطان.. فالسلطان نفسه استولى على السلطنة وتاج السلطنة بالسيف!

* * *

لذلك تعجبت من هؤلاء الذين يتحدثون عن الوقوف خلف "الوطن" في معارك نعلم جميعا أنها ضد مصالحنا الوطنية، وحجتهم أن هذه المعارك تقودها عصابة ترتدي "اليونيفورم".

 

تعجبت من هؤلاء الذين يتحدثون عن الوقوف خلف "الوطن" في معارك نعلم جميعا أنها ضد مصالحنا الوطنية، وحجتهم أن هذه المعارك تقودها عصابة ترتدي "اليونيوفورم

الجيش الوطني (وغيره من المؤسسات) في أي دولة محترمة مؤسسة لها هدف، ولها سلوك.. وليست مجرد زيّ يرتديه الناس!

الجيش مهمته حماية الحدود، وليس تسليم "تيران وصنافير" للأعداء، وليس التفريط في النيل، وعدد ما شئت من أوجه التفريط (لا أعمم على كل الأفراد، بل أتحدث عن سلوك المؤسسة).

الشرطة مهمتها حفظ الأمن.. وهي اليوم تقتل الأبرياء خارج إطار القانون، (هل تذكر الأبرياء الخمسة الذي قتلتهم الشرطة من أجل تلفيق تهمة قتل ريجيني لهم؟ هل تذكر ريجيني نفسه؟)، وتتفرغ لتأمين الأغنياء وكبار المسؤولين منشغلة عن مهامها الحقيقية في منع الجريمة وحفظ أمن الناس.. (أكرر أنني لا أعمم على كل الأفراد المنتمين للشرطة، بل أتحدث عن غالبية القيادات وعن سياسات المؤسسة).

إن تسليم أمننا الوطني لهؤلاء يشبه أن تقبل الخضوع لعملية جراحية معقدة، يقوم بها شخص يدعي أنه طبيب، وقد ثبت أن شهادته مزورة، وأنه لم يمارس مهنة الطب من قبل.. لمجرد أن هذا النصّاب يرتدي "البالطو الأبيض"!

* * *

يقول بعض من فقدوا البوصلة: "إذا جاء اليوم الحاسم ودخلنا حربا ضد "سين" أو "صاد" فأنا مع "جيش بلدي"!

والحقيقة أنه يقول "أنا خلف العصابة التي خطفت جيش الوطن وترتدي ذلك "اليونيفورم" وترفع في وجهنا السلاح، وتفعل كل ذلك باسم الشعب، أنا خلفهم في تضييع أمننا القومي، وتبديد ثرواتنا، وتسهيل استيلاء أعدائنا على مقدرات الوطن لعشرات السنين القادمات، أنا خلفهم في توريطنا في ديون وحروب وأحقاد لا ناقة لنا فيها ولا جمل".

ولو أن هذه المؤسسة قررت التوجه بأي شكل للاتجاه الصحيح (أعني مشكلة مياه النيل وسد إثيوبيا)، لوقف الجميع خلفها، ولكن ما يحدث اليوم.. هو مجرد استعراض لشغل الناس عن الكارثة الحقيقية.

 

لو أن هذه المؤسسة قررت التوجه بأي شكل للاتجاه الصحيح (أعني مشكلة مياه النيل وسد إثيوبيا)، لوقف الجميع خلفها، ولكن ما يحدث اليوم.. هو مجرد استعراض لشغل الناس عن الكارثة الحقيقية

هل من الوطنية أن نوافق على إهدار أرواح المجندين المصريين البسطاء وإدخالهم في معركة هي عكس مصالحنا الوطنية، لمجرد أن شخصا ما اتخذ قرارا ما وهو يرتدي "يونيفورم" الجيش زورا وبهتانا؟!

هل كانت الوطنية في عصر "هتلر" أن تقف مع الجيش النازي؟ أم أن تقاومه؟ هل كانت الوطنية في زمن النكسة أن نطبل للجيش الذي سيلقي إسرائيل في البحر؟ أم أن نحذر من أن إغلاق المجال العام، واستفراد "شلة" بالقرار سيودي بنا إلى مغامرات مهلكات؟

الأسئلة نفسها ما زالت مطروحة إلى اليوم.. مَن الوطني؟ مَن يصفق للخونة قليلي الكفاءة في شتى المجالات؟ أم مَن يقاوم هذه الخيانة ويدعو إلى تحكيم مصالح الوطن الحقيقية؟

* * *

إن الجيش، والشرطة، والأزهر، والكنيسة، وغيرها.. ليست مجرد زيٍّ رسمي، بل هي مؤسسات عظيمة، لها مؤهلات للالتحاق بها، ولها وظائف يحددها الدستور والقانون، وإذا أصبح دخول هذه المؤسسات لا يخضع للضوابط التي تحدد المؤهلين، وإذا سيطر عليها أشخاص غير مؤهلين يستغلونها في معكوس وظائفها.. تصبح هذه المؤسسات عدوا للوطن، ومقاومتها من أجل استرجاعها ممن خطفوها بشتى الأشكال هي الوطنية الحقة!

لو ألبسنا عاهرة لباس راهبة لن تتعلم تلك العاهرة عفة الراهبة وفضيلتها، وإذا ألبسنا جاهلا عمامة أزهرية لن يتحول عالما، ولو ألبسنا مجرما لباس ضابط شرطة أو جيش لن يتحوّل بمجرد ارتدائه لـ"اليونيفورم" إلى شخص يحترم القانون ويطبقه ويحافظ على الوطن، بل سيحدث العكس.. سيستغل جميع من في الأمثلة السابقة ذلك الزيّ الرسمي لكي يحصّلوا أكبر مكاسب شخصية، ولكي يؤذوا الناس بسُلْطة هذا الزيِّ.. وهو ما يعرض هذه المؤسسات وهيبتها للخطر، كما أنه يعرض البلاد والعباد للبلاء والفناء.

* * *

معكوس الصورة صحيح أيضا!

فحين نتهم أشرف الناس في الوطن بأنهم مجرمون، ونلقي بهم في السجون، ونلفق لهم القضايا، ونصدر ضدهم أحكاما عبثية ظالمة مضحكة، ثم نعرضهم على الشاشات وهم يرتدون "يونيفورم" السجن.. لن يحولهم ذلك لمجرمين، ومهما صدرت ضدهم من أحكام ستظل الحقيقة واضحة لكل ذي بصيرة، فالمجرم هو "الفاسد" الذي يرتدي "يونيفورم" القاضي والضابط وصولا إلى أعلى المناصب.. وهؤلاء (أعني المتهمين زورا) هم الأبطال الشرفاء الذين يدافعون عن الوطن. ولو أن الأمور بجوهرها لا بمظهرها، لوجدت هؤلاء القضاة والضباط (الفاسدين) في قفص الاتهام يرتدون زي المساجين، ولرأيت هؤلاء المتهمين (أو من هو مثلهم) يرتدون زي القضاة ويحاكمونهم بعدل حقيقي.. وليس بالهوى والانتقام.

* * *

وهذا ما يستطيع أي شخص منصف أن يراه. لقد تحولت كثير من مؤسسات الدولة إلى ما يشبه عصابة تستولي على أرزاق الناس، وسلاحها موجه لصدور الشعب، مهمته فضّ التظاهرات السلمية، ولا يقتل إلا المدنيين..

حين تتحول المؤسسات إلى إقطاعيات خاصة، لطبقة مصالح بعينها، ينتهي الأمر، وتصبح هذه المؤسسات في مجملها بلا عقيدة، وليس بينها وبين الناس أي رابط أخلاقي أو ديني أو وطني، بل غاية ما في الأمر أن هذه المؤسسات مسؤولة عن حماية أهل الحكم، وتتقاضى مقابل ذلك مناصب ومرتبات وامتيازات، ويصبح كل من يرتدي هذا "اليونيفورم" مجرد ترس في هذه الآلة الضخمة التي تفرط في كل الثوابت الوطنية والثروات القومية (أكرر للمرة الثالثة.. ليس معنى ذلك أنه لا توجد استثناءات بين الأفراد، أو أنه لا يوجد أمل، بل العكس هو الصحيح).

 

يصبح كل من يرتدي هذا "اليونيفورم" مجرد ترس في هذه الآلة الضخمة التي تفرط في كل الثوابت الوطنية والثروات القومية

من العبث أن أذكر القارئ الكريم بجريمة سد النهضة، أو بـ"تيران وصنافير"، أو بجريمة التنازل عن مياهنا المصرية وما فيها من ثروات في شرق المتوسط.. وغيرها من الجرائم التي يشيب لهولها الولدان.. هذه الجرائم المخزية لم يرتكبها إلا هؤلاء الذين خطفوا مؤسسات الدولة وارتدوا زيّها الرسمي.

مصر تعيش تحت تهديد أكثر من مئتي رأس نووي إسرائيلي منذ عشرات السنين، مع صواريخ طويلة المدى، قادرة على استهداف كل شبر في البلاد.. ولم يتحرك أي أحد من هؤلاء المختالين بنياشينهم لضبط معادلة الردع المتبادل.. بل كانوا دائما عونا للأعداء لمزيد من التفوق!

وبنفس هذا المنطق.. تُركت العلاقات مع دول أفريقيا عامة، ومع دول منابع النيل خاصة، حتى تفاقمت المشكلة.. هذه المصيبة لا يمكن علاجها الآن، وحلها الحقيقي كان بتولية أشخاص مؤهلين، ولو كان في دولاب الدولة أصحاب كفاءة (ناهيك عن الوطنية)، لتحركوا منذ ثمانينيات القرن الماضي لمنع هذا الأمر من الحدوث أصلا..

* * *

لا حرب قادمة.. وكل ما سنراه في الأيام القادمة سيتضح أنه مجرد "استعراض"!

وفي جميع الأحوال.. نحن مع جيش بلادنا.. الجيش الوطني الذي يقوم بمهمة حفظ الأمن القومي المصري.. ولا ندعم من يعمل ضد أمننا القومي لمجرد ارتدائه "يونيفورم"، وحين يتحرك الجيش المصري الحقيقي ويقوم بمهمته الوطنية.. سنكون أول الداعمين.

أما ابتزاز الجماعة الوطنية بخدعة تافهة ساذجة مثل خدعة "اليونيفورم" فهو أمر مرفوض.. مصالحنا الوطنية واضحة.. وأمننا القومي معروف.. ولم يهدر مصالحنا سوى هؤلاء الذين يختالون بالزي الرسمي،  ولم يبع أمننا القومي إلا هم.

* * *

ختاما: أراد أبٌ أن يُسعد طفله الصغير في العيد، فاشترى له زيّ "سبايدر مان".. هل تصدق عزيزي القارئ أن هذا الطفل سيكتسب قدرات خارقة بمجرد ارتدائه هذه البدلة؟

تخيّل أن هناك من يطالبنا بتصديق ذلك!

twitter.com/arahmanyusuf

موقع الكتروني: www.arahman.net

التعليقات (1)
"اليونيفورم"! أم الزي الرسمي؟
الأحد، 19-07-2020 04:31 م
لو لم يكن المقال بقلم شاعر وكاتب ضليع في اللغة العربية، لربما لم اكن لأثير هذه الملاحظة. فاللغة العربية بحمد الله تعالى غنية بما يكفي للاستغناء عن معظم المفردات الأجنبية التي تظل برأسها في بيئتنا، أولاً عن طريق وسائل الإعلام ثم وسائل التواصل الاجتماعي. وقد ضرب لنا جهابذة اللغة المثال في عدمم ترددهم في إطلاق أسماء عربية على كثير من المفردات الأجنبية في القرن العشرين، مثل الطائرة والدبابة، والدواوين والمصالح والأجهزة، وما إلى ذلك. ولذلك، أعتقد أن الكاتب لم يُوقَّق في استخدام كلمة "اليونيفورم" خاصة وأن الأغلبية الساحقة من الناس في بلداننا العربية لا يعرفون معنى هذه الكلمة، وبالتالي يكون الكاتب قد سعى إلى حشر لفظة أجنبية في لغتنا الجميلة، في حين أن الجميع يعرفون تعبير "الزي الرسمي". فلغة الضاد تحتاج منا إلى نصرتها والذود عن حياضها.