كتب

الاستثناء التونسي بين سطح الواقع وقاعه من منظور علمي

كتاب يسلط الضوء على التعاطي التونسي الرسمي مع جائحة كورونا- (عربي21)
كتاب يسلط الضوء على التعاطي التونسي الرسمي مع جائحة كورونا- (عربي21)

الكتاب: سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا: الخوف- الهشاشة- الانتظارات
الكاتب: ماهر حنين 
الناشر: المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تونس
الطبعة الأولى نيسان (أبريل) 2020
(104 صفحة من القطع الكبير).

لا يزال وباء كورونا المستجد "كوفيد-19"، الذي ظهر لأول مرَّة في الصين نهاية العام الماضي، يحصد آلاف الأرواح البشرية في كل أصقاع الكرة الأرضية، ويسبّب هذا الوباء تداعيات خطيرة جدا على القوى العاملة في العالم. 

 

كورونا ليس الأول

فوباء فيروس كورنا المستجد يُعَدُّ وباء عالميًا جديدًا، لكنّه ليس الأول، بل إنَّ التاريخ البشري شهد العديد من الأوبئة العالميّة التي اجتاحت العالم أجمع أو معظم الكرة الأرضيّة، ووصلت إلى معظم التجمعات السكانيّة، وأصابتها في مختلف جوانب حياتها،لا الصّحّية فحسب بل وكانت لها تداعيات تاريخية جذرية لجهة التغيير في الجوانب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة والفكريّة السائدة أيضًا، وفي تغيير موازين القوى العالمية، سواء لجهة اندثار دول امبراطورية قديمة، أو لجهة ولادة دول امبراطورية جديدة.

أما بالنسبة لوباء كورونا في القرن الحادي والعشرين، فإنَّه عرى إفلاس النظام الرأسمالي الليبرالي العالمي، القائم، على جميع المستويات الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية والعلمية! فقد تهاوت قيم ومبادئ كثيرة قام عليها النظام الرأسمالي الليبرالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، مثل التضامن بين الدول والحكومات الغربية، إذ عادت الشوفينية الوطنية في أبشع صورها، وتم الدوس على حقوق الإنسان في الدول المفروض أنها راعية هذه الحقوق وحاميتها، بل وشهدنا السقوط الأخلاقي المدوي للإنسانية، عندما كانت تتم التضحية بكبار السن لإنقاذ من هم أصغر سنا فقط بذريعة قلة المعدّات الطبية!

تترافق مع كل ذلك محاولات أولية للتحليل والفهم والاستشراف ينخرط فيها كتاب وفلاسفة ومختصون نفسانيون وعلماء اجتماع. وإذ كان الاهتمام العالمي مركزًا في الوقت الحاضر على دور الطب والبحوث المخبرية والسريرية للتصدي للوباء وبحثًا عن علاج أو لقاح، فإن ما ذهب إليه الباحث التونسي ماهر حنين، في كتابة الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: "سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا: الخوف ـ الهشاشة ـ الانتظارات"، الصادر بتونس عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، نيسان (أبريل) 2020، والذي يتكون من مقدمة عامة يطرح فيها الباحث، الإشكالية، والإطار النظري والمفهومي، وعناصر المنهج، ومن أربعة فصول كبيرة، ويقع الكتاب في 104 صفحة من القطع الكبير.

 

يحيل مفهوم الهامش جغرافياً ومجالياً في المقام الأول إلى الولايات (المحافظات) الداخلية للجنوب التونسي ولايات (محافظات) الوسط والشمال الغربي التي تؤكد كل مؤشرات التنمية حجم الهوة التي تفصلها عن باقي البلاد، ويحيل أيضاً إلى الأحياء الشعبية الضخمة حول المدن الكبرى وخاصة تونس العاصمة

 



ما ذهب إليه الباحث ماهر حنين، هو التناول السوسيولوجي للواقع هنا وكما ذهب إلى ذلك بورديو ليس تناولاً محايداً أو تناولاً بارداً بل هو في عمق التحولات الغائرة التي تخترق الجسم الاجتماعي برمّته، فالفعل التنظيري لا يتم في سماء الأفكار المعلقّة بل في مغارس المعيش والنظريات لا تصاغ ولا تكتسب قوّتها التفسيرية أبداً من فراغ اجتماعي، فهي تنسج في سياق خصوصي يصعّد إلى سطح العالم جملة الإشكاليات الجديدة. 

مهنة عالم الاجتماع تغدو عند بورديو بهذا المعني دراسة علمية للعلاقات الاجتماعية والأفعال والتمثّلات التي من خلالها يتشكل المجتمع، هي الحقل المعرفي الذي يركّز على فهم الكيفيات التي يسير ويتغير بها الجسم الاجتماعي، وعلى العلاقات بين الأفراد والمجتمع، والعمل والحركات الاجتماعية،والفئات والطبقات والعائلات والشبكات والأصدقاء، والتنظيمات والمدارس والمؤسسات، من خلال جوانبها الثقافية والاجتماعية والتكنولوجية والسياسية والاقتصادية وبنفحة ماركسية نقدية مجدّدة يهتم بورديو بكلّ آليات تملك رأس المال (الاقتصادي والثقافي والرمزي) وبآليات إنتاج وإعادة إنتاج الهيمنة داخل كلّ نسق اجتماعي.

يقول الباحث ماهر حنين: "منطلقنا لهذه الدراسة هو إدراكنا أننا قد دخلنا مرحلة حاسمة وجديدة لشنّ حملة نقدية عميقة للخيار الليبرالي والرأسمالي الذي يحكم العالم وهي حملة لابدّ أن تتغذى من كل ماهو محلي وخصوصي ومجهري حتى تكون قرائننا دامغة ومجدية. وغاية هذه الدراسة السوسيولوجية التي فرضها امتلاء اللحظة الاجتماعية بالدلالات والمعاني وتداخل فيها الخطاب الإعلامي الآني والعلمي والسياسي والأمني، هي توجيه الاهتمام إلى نقطة عمياء في كل نظرة كلية للأزمة وكلّ تصوّر كلي للحلّ وهي مجتمع الهامش في زمن الوباء بمعنى هي محاولة للإجابة عن السؤال المركزي التالي كيف عاش مجتمع الهامش والهشاشة في تونس هذا المنعطف؟ كيف تمثل الأزمة وتداعياتها؟ هل كان يتملّك وسائل التوقّي والحماية اللازمة المادية منها والمعنوية؟ ثمّ ماهي تطلعاته المستقبلية وهو لا يزال ينتظر منذ عشرة سنوات بعد الثورة حقيقة التغيير في حياته اليومية؟ (ص 7 من المقدمة ).

الاستثناء التونسي بين سطح الواقع وقاعه من منظور علم الاجتماع

شكلت تونس الاستثناء عندما نالت المنظمات الأربع الراعية للحوار الوطني، جائزة نوبل للسلام، فقد منحت الشرف لتونس، ولكل فعاليات المجتمع المدني وعموم التونسيين الذين آمنوا بقيمة السلم الأهلي ودافعوا عن حقوقهم المدنية بكل شجاعة، وقد غلب على تلك المرحلة جدلآ عموميًا طغت عليه مفاهيم ومصطلحات "الثورة" و"الانتقال الديمقراطي"، و"الحداثة"، و"الهوية"، و"الدولة الدينية"، و"الدولة المدنية:، والمواطنة"، غير أنَّ ما لم يصعد بوضوح كامل إلى سطح الاهتمام هي فاعلية الحركة الاحتجاجية والاجتماعية لمجتمع الهامش التونسي، والتي طورت خلال السنوات الأخيرة أدوات تعبئتها ونضالها وضغطها، وتدرّجت لتصبح فضاءً مفتوحًا لفرض أولوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية استنادًا إلى وعي حاد، بمعنى المواطنة الاجتماعية وعلى أرضية الدستور الجديد وقيم العدالة الاجتماعية والمساواة الضامنة لكل ديمقراطية فعلية. ورغم تواصل وصم هذه الحركات سلبياً واتهامها بتعطيل النمو الاقتصادي ظلت هذه الأصوات المرتفعة شاهداً على معاناة لا يحسّها إلا من يعيشها في "اللحم الحيّ".

ويحيل مفهوم الهامش جغرافياً ومجالياً في المقام الأول إلى الولايات (المحافظات) الداخلية للجنوب التونسي ولايات (محافظات) الوسط والشمال الغربي التي تؤكد كل مؤشرات التنمية حجم الهوة التي تفصلها عن باقي البلاد، ويحيل أيضاً إلى الأحياء الشعبية الضخمة حول المدن الكبرى وخاصة تونس العاصمة والتي يقطنها خاصة الوافدون من المدن الدّاخلية بحثاً عن العمل وهروبا من الريّف ويأسا من الحياة في مناطق نائية، الدّلالة الأخرى التي يتخذها مفهوم الهامش تحيل أيضاً إلى كلّ تلك الفئات الهشة من معطلين وعملة وقتيين ومتقاعدين محدودي الدخل ومهاجرين ومن ذوي الحاجيات الخصوصية.

يقول الباحث ماهر حنين: "خيارنا تساوقا مع بحوث وأعمال سابقة إبراز هذا المجتمع التحتي والمجهري والمغيب في مثل هذا الظرف، وهو خيار ينطلق من موقف نظري للتناول السوسيولوجي للحياة الاجتماعية، حيث أن الاهتمام بالملارئيين les invisibles الاجتماعيين هو في جوهره اعتراف بوجودهم لأن اللامرئية الاجتماعية كما يتناولها أكسيل هونيث هي التجلي العملي للموقف الاستعلائي إزاء الآخر ورفض الاعتراف بوجوده وهي في بعض وجوهها فعل إرادي وهو أيضاً اهتمام بجهد من تسميتهم بيتلر" فاقدي الوجه " les sans visage أي أولئك الذين لا تريد سلطة المهيمنين أن تراهم فهم بسعيهم أن يكون لهم "وجه" إنما يبحثون عن حضور مادي في الفضاء العام ضاغط على الآخرين فارضاً عليهم يقظة ايتيقية سريعة يلحقها برنامج سياسي بديل للنهوض الاجتماعي"(ص 9 من الكتاب). 

حين نطرح المسألة من منظور ابستيمولوجيا علم الاجتماع فإننا نضع وجهاً لوجه خيارين لممارسة البحث السوسيولوجي: الأول هولستي holiste يهتم بالكلي بالبنية وبالمحددات الكبرى لسلوك الأفراد، والثاني يولي اهتماماً بالفردي والجزئي والمجهري. هذا التقابل يعكس هاجس الباحثين في الحقل التونسي على المراوحة بين نماذج تفسيرية تولي الأهمية إلى الكليات الاجتماعية وتلك التي تعطي الأولوية للبنيات المجهرية، ولا ترى إمكانية لفهم المجتمعات ودراستها إلا من خلال الانكباب على معالجة الأشكال المجتمعية الصّغرى فالوقائع الاجتماعية في مختلف مجالات الفعل تتقاطع بالضرورة مع كل الأطر الاجتماعية بدءاً بالأطر المجهرية وصولاً إلى الأطر الفيضية (الهولستية). 

من هنا يأتي اهتمام الباحث ماهر حنين بدراسة واقع المهمشين والمغيبين أو اللاّمرئيين في سياق الاعتراض على هذه الهيمنة وخوض الصراع من أجل الاعتراف بهم لا من جهة كونهم فقط ضحايا يستحقون الشفقة، بل باعتبارهم مواطنين يحق لهم التمتع بكل الحقوق ودون تمييز. أولها أن يكون لهم صوت في الفضاء العمومي الذي لا تريده نانسي فرايزر حكراً على الطبقات المهيمنة أي فضاء برجوازي.

في سياق هذا الأفق النظري تتبلور العدة المفهومية اللازمة التي استخدمها الباحث ماهر حنين لتأطير التقصي المرتقب لموضوع هذا الكتاب، مستندا في دراسته لظاهرة التهميش الاجتماعي في الواقع التونسي على مصطلح الاستبعاد الاجتماعي في الحقل السوسيولوجي الفرنسي بعد ظهور مؤلف لونوار وفيه استخدام موسع لدلالة المستبعدين ليشمل كل الأفراد الذين يعانون مشكلات اجتماعية ولا يتمتعون بأي حماية اجتماعية ولا تأمين اجتماعي، ويتسع استخدام هذا المفهوم ليشمل لدى عديد الباحثين لا فقط ضعف الأسباب المادية والفقر ومحدودية الدخل ليتعلق بكل المعوقات التي تمنع فرداً أو مجموعة من الأفراد أو فئة من الاندماج في المجتمع هنا يصف بوركهارت الاستبعاد الاجتماعي بأنه "عدم المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والأساسية ويتضمن أربعة أبعاد هي:
 
ـ عدم الاستهلاك (التمكن من شراء السلع و الحاجيات و الخدمات و الحصول على سكن لائق).
ـ عدم حيازة نظام توفير من قبل امتلاك مدخرات وراتب تقاعدي و ملاذ وقت الأزمات.
ـ العجز عن المشاركة في الأنشطة الاقتصادية و الاجتماعية من خلال فرص العمل القار وضمان الدخل والحصول على التعليم والنفاذ للخدمات العامة.
ـ عدم المشاركة السياسية والمساهمة في صنع القرار على المستويين المحلي و الوطني و بالتالي ضعف التفاعل مع المجتمع المحلي والوطني.

العمل السوسيولوجي الذي سعى إليه الباحث ماهر حنين من أجل اقتحام عوالم الهشاشة وتملك آليات تفكيك خطابها وتصوراتها كمهمة بحثية وكمدخل لتملك أدوات التأثير في الواقع لتغييره، كان يقوم على منهجية البحث الموّجه التي تنخرط ضمن المقاربة الكيفيّة، وتسعى إلى فهم الواقع الاجتماعي بالاستناد إلى تمثّلات الفاعلين ومقولاتهم وسلوكهم في بيئتهم المخصوصة. وقد تعزز هذا الخيار الأتنوغرافي مع مدرسة علم الاجتماع بشيكاغو حين تناولت دراسة واقع وثقافة الأحياء الشعبية في هذه المدينة الأمريكية مستخدمة عدة تقنيات لجمع الملاحظات والمعطيات والشهادات والسير الذاتية.

يقول الباحث ماهر حنين: "الأتنوغرافيا التأويلية كخيار منهجي واع تنظر إلى الحياة الاجتماعية كنص حامل لمعنى وقابل للتأويل، فحين يؤكد جيرتز أن الأتنوغرافي، ومهما فعل من تجميع وتنظيم للبيانات المتعلقة بثقافة ما، سوف ينخرط في نهاية المر في عملية "وصف مكثف" فثقافة المجموعات البشرية تتكون من أنسجة متشابكة من الدلالات يخيطها الفاعلون ومن ثمّة سيكون تحليله في المنتهى ليس علماً تجريبياً يبحث عن قانون بل فعل تأولي وهو ما يجعل عمله ملائماً لخصوصية الظاهرة الإنسانية وخصوصية البحث العلمي المرتبط بها.

الإتنوغرافيا النقدية بشكل أكثر تفصيل هي نوع مخصوص من البحث الإتنوغرافي يدافع فيه أصحابه عن تحرير الجماعات المهمشة في المجتمع والباحثون النقديون يتبنون قناعات سياسية، ويتطلعون إلى اتخاذ موقف معارض لعدم المساواة والهيمنة وللتغاضي عن احتياجات المجموعات الضعيفة التمثيل والأهداف المعلنة للإنتنوغرافي النقدي، هي تمكين الناس من فاعلية أعلى ومنحهم مزيداً من السلطة، وتحدي الوضع الراهن، ومناقشة الشؤون المتعلقة بالقوة و السيطرة وذلك بالتطرق لموضوعات مثل القوة و التمكين و الظلم و اللاّمساواة و الهيمنة و الفساد" (ص 13 ـ 14 من الكتاب).

التعليقات (0)