هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: الإسلام الحنبلي
المؤلف: جورج مقدسي
المترجم: سعود المولى
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر/2017
هذا الكتاب هو ترجمة لأربع محاضرات ألقاها جورج إبراهيم مقدسي، المستشرق الأمريكي من أصل لبناني، في الكلية الفرنسية (كوليج دو فرانس) في العام 1969، يناقش فيها موقع المذهب الحنبلي في الإسلام، والطريقة التي تناولته بها الأعمال والدراسات الإسلامية الأولى، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي قدمت صورة غير دقيقة عن مكانته وتأثيره ودوره بسبب اعتمادها في الأساس على مصادر منحازة ضده مثل المصادر الأشعرية، التي يرى مقدسي أنه لا يمكن قراءتها من دون مقارنتها بمصادر حنفية وشافعية وحنبلية، الأمر الذي "لا غنى عنه لإنارة الحركة الحنبلية كما تاريخ الحركة الأشعرية أيضا".
تأثرت هذه الدراسات الأولى بالظروف والأجواء التي كانت سائدة في ذلك الوقت، حيث كان الغرب يعرف الإسلام من خلال تركيا التي ارتبطت معه بعلاقات دبلوماسية منذ زمن السلطان سليمان القانوني والملك فرنسوا الأول. وبالنظر إلى طبيعة العلاقة التي ربطت بين الأتراك والوهابيين، "وأيضا بسبب الاتجاه الحنبلي للعقائد الوهابية من خلال ابن تيمية، (فقد) ظهر ابن تيمية المجهول، وكأنه خصم للغزالي، المعروف جيدا في الغرب منذ العصور الوسطى..".
وقد أثر هذا المنظور كما يقول مقدسي على عملية اختيار الوثائق المستخدمة في كتابة التاريخ الديني الإسلامي، وهي الوثائق التي كانت لفترة طويلة الوحيدة، تقريبا، المتاحة للدارسين، والمطبوعة أيضا. وفي أغلبها تظهر الحنابلة على غير حقيقتهم.
الرد على غولدزيهر
في محاضراته هذه يرد مقدسي بشكل أساسي على آراء واستنتاجات المستشرق الهنغاري، وأحد مؤسسي علم الدراسات الإسلامية الحديث في أوروبا، إغناتس غولدزيهر(1850 ـ 1921) حول موقع المذهب الحنبلي والعقائد السلفية والحنبلية عند أهل السنة، والذي يتهم الحنابلة بأنهم مجسمون ومتعصبون وغير متسامحين،" ويأخذ عليهم أنهم أخروا نجاح الأشاعرة المزعوم". الأشاعرة الذين يرى غولدزيهر أنهم يمثلون"الأرثوذكسية الإسلامية"اي الدين القويم.
يقول مقدسي إنه "لولا الاهتمام الذي حملته الحركة السلفية في مصر للحنابلة، ولولا وهابية العربية السعودية، لهبطت الحنبلية ولفترة طويلة جدا من الزمن إن لم يكن إلى الأبد في وعي وفكر علماء ودارسي الإسلاميات، إلى مستوى المذاهب الموصوفة أنها لا تستحق الذكر".
ويتابع: "إن قلة عدد أتباع المذهب الحنبلي كانت إذن مصدر أفكار خاطئة عن هذه المدرسة، مما أعطى سندا للمفهوم السائد حول الحنبلية باعتبارها قد تجمدت على هامش السنية، وهو مفهوم كان له أثر في صرف حديثي العهد والمبتدئين عن إجراء دراسة جدية للمدرسة وأتباعها".
يؤكد مقدسي أن الحنبلية أبعد ما يمكن عن أن تكون على هامش الإسلام، بل هي في" قلب الجماعة المسلمة"، وتقف "على رأس حركة أهل الحديث، والتي نجد فيها علماء من كل المذاهب" وليس أدل على ذلك من العبارات الدالة والمتكررة في كتب السير والتراجم التي تعرف فلانا من العلماء بأنه "شافعي في الفقه حنبلي في العقيدة" على سبيل المثال، حيث انتمى أنصار مدرسة أهل الحديث والأثر إلى مختلف مذاهب الفقه السني.
الدين القيم
يشير مقدسي إلى أن "الأفكار الجاهزة" عن ماهية الدين القيم (الأرثوذكسية) في الإسلام هي التي دفعت دارسين وعلماء مثل غولدزيهر لافتراض وجود مقابل إسلامي للتجربة الغربية. "ولإيجاد هذه الأرثوذكسية جرى البحث عن لاهوت، الذي ترجم إلى مصطلح علم الكلام. وكان الكلام الوحيد الموجود هو كلام الحركة الأشعرية لأن الكلام المعتزلي كان قد سقط وانتهى بعد حكم الخليفة المأمون.. ولم يكن بالإمكان إيجاد كلام ينافس الكلام الأشعري.
وبالتالي فقد جهل البعض أنه في ترتيب الأشياء في الإسلام فإن اللاهوت السلفي التقليدي (الأصول عند أهل السنة والجماعة ) يتورع أن يسمى كلاما، وان الاسم المفضل عنده لوصف هذا اللاهوت هو أصول الدين.. أي أنه لاهوت أو فقه مؤسس على النص من كتاب وسنة. وكان السلفيون يضعون هذا اللاهوت(أصول الدين)..ضد الكلام الذي هو لاهوت عقلي منطقي".
لولا الاهتمام الذي حملته الحركة السلفية في مصر للحنابلة، ولولا وهابية العربية السعودية، لهبطت الحنبلية ولفترة طويلة جدا من الزمن إن لم يكن إلى الأبد في وعي وفكر علماء ودارسي الإسلاميات، إلى مستوى المذاهب الموصوفة أنها لا تستحق الذكر
في تقديمه لترجمة المحاضرات هذه يقول الباحث رضوان السيد: إن الاهتمام الأساس لغولدزيهرفي كتابه "العقيدة والشريعة في الإسلام" كان الحديث عن "الأرثوذكسية الإسلامية"، أي الأشعرية، التي صارت التيار الكلامي الرئيس عند أهل السنة منذ القرن الخامس الهجري. ويوضح أن غولدزيهر كان ربينيا منتميا إلى الأرثوذكسية اليهودية أو التيار الديني التقليدي في اليهودية الذي كان يمتلك المرجعية في شرق أوروبا، وهو أمر ترك أثره على غولدزيهر وعلى بحثه حول العقيدة الإسلامية السنية الكلاسيكية فبدا وكأنه يقيس هذه على تلك.
لكن السيد يلفت أيضا إلى أن غولدزيهر على شهرته وعلمه كان يمثل أقلية بين المستشرقين أنذاك، وهي "القلة التي كانت لا تزال ترى في الأشعرية حيويات وإيجابيات. أما زملاؤه ورصفاؤه فقد كانوا يعتبرون أن الأشعرية جامدة.. وهي سبب رئيسي في الانحطاط الذي نزل بالإسلام بعامة، والإسلام السني على وجه الخصوص".
من جهة أخرى يرى السيد أن مقدسي كان محقا في النظر إلى الحنبلية باعتبارها تقع في أصل تكوين أهل السنة والجماعة، لكنه يشير أيضا إلى أن تطورات ثلاث حصلت بعد وفاة أحمد بن حنبل (241 هجرية): "الأول سيطرة مجموعة من المتشددين الحرفيين (=أهل الحديث) على جيلي المدرسة الحنبلية الثاني والثالث، بحيث نبزهم خصومهم بالتجسيم والتشبيه والحشوية، وبحيث ظهر اتجاه داخل المدرسة ينقد ذاك التشدد، وهذا الاتجاه هو الذي فصل بين أحمد بن حنبل والجيلين اللاحقين وليس الأشاعرة، كما ذهب لذلك مقدسي. أما التطور الثاني فهو دخول الكلام والتأويل على أهل السنة والذي لم ينج منه الحنابلة أنفسهم.. فظهر ابن فورك وظهر الباقلاني وظهر الجويني وبلغ الأمر ذروته مع الغزالي. وقد ظل هؤلاء ينتسبون إلى أحمد بن حنبل باعتباره رمزا لأهل السنة، لكنهم دخلوا في التقليد الكلامي الكلاسيكي الذي طوره خصومهم المعتزلة... أما التطور الثالث فهو الانفصال التدريجي بين الكلام والفقه، بحيث صار ممكنا أن تكون فقيها شافعيا كبيرا لكنك سلفي في العقيدة".
الحنبلية والصوفية
يرفض مقدسي النظر إلى الحركات الدينية في الإسلام أو المذاهب باعتبار كل واحدة منها تمثل كتلة صلبة متجانسة تقف في مواجهة الأخرى، ويرى في ذلك "انتهاكا" لفردانية العلماء المسلمين، الذين، كغيرهم من المفكرين، "لا يقبلون الاختزال إلى مقام مشترك". ويجد أن قلة الدراسات "المونوغرافية" دفعت الكثير من الباحثين إلى استسهال إطلاق التعميمات، فيكتفى بتوصيف فلان من العلماء "بناء على انتمائه لهذه الحركة أو تلك، كما لو أنه كان عصيا عن التأثر بمؤثرات أخرى".
يورد مقدسي هذا الكلام في مقدمة محاضرته حول الصوفية والحنبلية. ويؤكد مرة أخرى على أن الاختلاف في الآراء والمواقف لا يكون فقط بين العلماء من نفس الحركة، وإنما أيضا في الآراء المتتالية للعالم نفسه خلال مراحل مختلفة من حياته.
والمذهب الحنبلي الذي نظر إليه على أنه حركة متجانسة وصلبة "كان له أيضا نصيبه في هذا المجال". يتحدث مقدسي في هذا السياق عن "الأفكار الجاهزة" حول علاقة الحنبلية بالصوفية ويذكر على سبيل المثال الفكرة التي تقول أن الغزالي صالح بين الصوفية والتقليدية السنية، والفكرة التي تقول أنه لا يمكن للفقيه أن يكون صوفيا، وفكرة أن الحنبلية هي ألد أعداء الصوفية. بحسب غولدزيهر فإن الغزالي كان له الفضل في "تخليص التصوف من الموقع المعزول الذي انحشر فيه بالنسبة إلى التفكير الديني السائد" وجعل منه شأنا عاديا في الحياة اليومية للمسلمين.
لا يمكن إنكار وجود اثنين من كبار المتصوفة الحنابلة هما الأنصاري الهروي وعبد القادر الجيلاني" ورغم قول البعض أن نفورهما من "سفسطة المتكلمين" هو ما دفعهما إلى الانتماء للمذهب الحنبلي
يقول مقدسي إن هذا الموقف تبناه دارسون آخرون غير غولدزيهر "فالبنسبة إلى كارل بيكر لم يفعل التصوف غير سد الفجوة التي خلفها الفقه والكلام، وكان رد فعل على هذين الحقلين من حقول الدين"، لكن في المقابل فإن لكتاب السير والتراجم رأي آخر، فالسبكي على سبيل المثال يذكر عدة شخصيات كانت من الفقهاء والمتصوفة في آن واحد، منهم أبو نعيم الأصبهاني، وأبو خلف الطبري.
يقول مقدسي: "من المهم أن نشير إلى أن هذين الفقيهين الصوفيين من المذهب الأشعري عاشا وماتا قبل قيام الغزالي بالمصالحة المزعومة بين التصوف والإسلام السني التقليدي".
ويوضح في موقع آخر أن الوثائق والمخطوطات المتوفرة تكشف عن علاقة وثيقة بين الحنبلية والتصوف. وعلى سبيل المثال "لا يمكن إنكار وجود اثنين من كبار المتصوفة الحنابلة هما الأنصاري الهروي وعبد القادر الجيلاني" ورغم قول البعض أن نفورهما من "سفسطة المتكلمين" هو ما دفعهما إلى الانتماء للمذهب الحنبلي، إلا أنه لا يمكن كذلك تجاهل "المشاعر الإيجابية التي أعلنها هؤلاء المتصوفة تجاه الحنبلية، مثل أقوال الأنصاري الذي كان يتغنى بحنبليته شعرا ويتوجه إلى زملائه المتصوفة بنصيحة أن يتحنبلوا جميعهم: وصيتي للناس أن يتحنبلوا".
يتساءل مقدسي: كيف أمكن لهؤلاء المتصوفة أن يجدوا ملجأ لهم داخل المذهب الحنبلي لو أن هذا المذهب كان فعلا معاديا للتصوف؟!.
يورد مقدسي في هذا المقام أيضا محاولات الدارسين إرجاع الأفكار الصوفية عند الحنبلي ابن قيم الجوزية إلى تأثره بالغزالي، بينما يرى مقدسي أن أفكاره حول حب الله ربما يكون قد تعلمها أصلا من شيخه ابن تيمية.
يقول: "نملك الآن نصا يصف فيه ابن تيمية عبادة الله على أنها تتضمن حبا خالصا كاملا له" وفي مقطع من تعليقه على كتاب "فتوح الغيب" لعبد القادر الجيلاني يقول ابن تيمية: "العبادة تتضمن كمال الحب وكمال التعظيم وكمال الرجاء والخشية والإجلال والإكرام". كما أنه يصف الجيلاني وحماداً الدباس بأنهما شيوخ صوفية من أهل السنة والجماعة.
يقول مقدسي في ختام كتابه محاضراته: إنه من الضروري إعادة النظر بالنسبة للباحثين والدارسين في فكرتهم عن "الأرثوذكسية الإسلامية" فالأرثوذكسية "الوحيدة المتفق عليها في الإسلام هي إجماع الأمة، إنها الأرثوذكسة السنية.. التي تمثلها المذاهب الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية). لم تكن هناك أرثوذكسية أخرى أبدا اعترف بها غالبية المسلمين..".