كتب

قراءة تاريخ توسعة الاتحاد الأوروبي في ظل العولمة الليبرالية

كتاب يشرح الأسباب البعيدة والمباشرة لعدم إقدام الاتحاد الأوروبي على تشكيل قوة عسكرية (أنترنت)
كتاب يشرح الأسباب البعيدة والمباشرة لعدم إقدام الاتحاد الأوروبي على تشكيل قوة عسكرية (أنترنت)

الكتاب: الإتحاد الأوروبي في القرن الواحد والعشرين أوروبا والبحث عن دور
الكاتب:عاطف أبو سيف
الناشر: الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، 2019.
(355 من القطع الكبير)

لم يكن الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي هو الأزمة الوحيدة التي يواجهها الاتحاد في الوقت الحالي، فقد انضافت له أزمة انتشار وباء كورونا، الذي استحالت معه بعض الدول الأوروبية إلى واحدة من أهم بؤر هذا الوباء، الذي راح ضحيته أكثر من مائتي ألف إنسان حتى الآن.

ويتوقع المراقبون، أن العالم برمته مقبل على تغيير كبير بسبب تداعيات جائحة كورونا، وأن الاتحاد الأوروبي واحد من أهم التكتلات المرشحة للتغيير..

الكاتب والباحث التونسي في تاريخ الفكر السياسي توفيق المديني، يعرض لكتاب صدر حديثا عن الاتحاد الأوروبي، للكاتب والسياسي الفلسطينيعاطف أبو سيف، يتناول بالدراسة والتحليل قيام الاتحاد الأوروبي ككيان وتسعه إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن، وآفاقه.  

لم يتجاوز نموذج الدولة القومية

في نطاق هذه العولمة الليبرالية تم تعزيز أقلمة الاتحاد الأوروبي الذي أصبح يضم 15 عضواً، لكنه لم يتجاوز نموذج الدولة القومية Etat-nation بوصفه شكلاً من أشكال التطور السوسيو تاريخي للرأسمالية. وبذلك تحول الاتحاد الأوروبي إلى أحد أهم أقطاب الاقتصاد العالمي إلى جانب منظمة "ALENA" من حول الولايات المتحدة وآسيان"ASEAN" من حول اليابان. 

إن كون هذا التجمع يأتي ضمن برنامج ليبرالي معلن يقلل من وسائل التقنين التقليدية للدولة الإقليمية دون تحويلها إلى سلطة إقليمية مسيرة. فبروكسيل إدارة بيروقراطية عديمة الشخصية إلا أنها تعمل وفق قوانين "بريتون وودز" المستلهمة من قوانين السوق.

منذ بداية عقد الخمسينيات من القرن العشرين، يعمل الاتحاد الأوروبي، الذي كانت شركة الفحم والصلب لبنته الأولى في عملية هذا البناء العملاق، على بناء السلطة الفعلية في الاتحاد الأوروبي، التي يمكن أن يكتب لها العمر الطويل وسط التحديات الكبرى. لذا عمل الاتحاد الأوروبي الذي يضم الآن 28 دولة، على انتهاج استراتيجية التوسع لاستقطاب أعضاء جدد من الدول الأوروبية في صفوفه، منذ أن كان في إطار الجماعة الأوروبية في عقد الستينيات من القرن الماضي، والتي اقتصرت على عضوية ست دول. 

ثم شهدت الجماعة الأوروبية أول توسعة لها في عام 1973، بدخول ثلاث دول لها، من بينها واحدة من أكبر وأهم الدول الأوروبية، بريطانيا، أما الدولتان الأخريان فهما أيرلندا والدانمارك.

يقول الباحث عاطف أبوسيف: "كان الزعيم الراحل شارل ديغول مؤسس الجمهورية الخامسة في فرنسا عام 1958، من أشدِّ المعارضينَ لدخولِ بريطانيا إلى الجماعةِ الأوروبيةِ. وبشكلٍ عامٍ يمكن تَلَمُّسُ ثلاثة أسباب وراء الرفضِ الديغولِي :

1 ـ رغبة ديغول بأن تظل فرنسا القوة الأولى في الجماعة الأوروبية.
2 ـ تميز ديغول بنبرته المختلفة عن حلفائه الأمريكيين،وكان يخشى أنْ تشكل بريطانيا موطئ قدمٍ للولايات المتحدة داخل الجماعةِ الأوروبيةِ.
3 ـ يعتقد ديغول أن بريطانيا غير جادة في موضوع الوحدة الأوروبية وقد تكون ترغب في دخولها لإفشالها (ص 79 من الكتاب).

أما التَوْسِعَةُ الثانية التي شهدتها الجماعة الأوروبية، فقد كانت خلال الفترة الممتدة من عام 1981 ـ 1986، إِذْ دخلتْ خلال هذه الحقبة ثلاث دول من الضفة الأوروبية للبحر المتوسط، وهي اليونان، وإسبانيا، والبرتغال. وهي البلدان التي حكمتها أنظمة ديكتاتورية عسكرية لعقودٍ طويلة بعد الحربِ العالميةِ الثانيةِ،وانْتَقَلَتْ فيما بعد إلى الديمقراطيةِ .

وبعد نهاية الحرب الباردة، وانهيار المنظومة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي، سقط النظام الدولي ثنائي القطبية، وحل محله النظام الدولي الجديد الأحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وصار ثابتا أن الاتحاد الأوروبي لا يشكل طرفا في أي صراعٍ، لذا تقدمت ثلاث دول ديمقراطية، كانت بالأساس محايدة في عصر الحرب الباردة، إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي. فشهد الاتحاد الأوروبي توسعته الثالثة عام 1995، عبر انضمام ثلاث دول، هي بالأساس ديمقراطية، وهي السويد، وفنلندا، والنمسا، حيث لم تشكل هذه الدول لا عبئًا اقتصاديًا على الاتحاد الأوروبي، ولامسؤولية سياسية.

ومع انهيار"المعسكرالاشتراكي" وسقوطِ جدارِ برلين عام 1989، الذي تمَّ نقله وترويجه بصورٍ مبالغةٍ عبر وسائل الإعلام والذي قدّمَ كحدثٍ تأسيسيٍ لعصرٍ جديدٍ معلنا عن "نهاية التاريخ" ـ تلاشتْ الضغوطاتِ التي كانتْ تؤثرُعلى التنافسِ بين النظامينِ وبدتْ إثر ذلك الرأسماليةَ منتصرةً. وتحررتْ الليبراليةُ أخيراً من نظيرتها الاشتراكية وأصبحتْ نيوليبراليةً أو بعبارة أخرى ليبراليةً حرّةً وطليقةً من قيودهَا.

وبزوال آثار "السد" الذي مثله البديل الاشتراكي لم يعد هناك داعٍ للتحفظ والحيطة وأصحبت النيوليبرالية ـ الشكل المعاصر للرأسمالية ـ الفكر المهيمن في زمننا، وتحرر قوى السوق بات الهدف المنشود للاتحاد الأوروبي، التوسعة باتجاه بلدان أوروبا الشرقية التي كانت خاضعة طيلة الحرب الباردة لهيمنةالاتحاد السوفياتي، وأصبحت بعد تفكك المنظومة السوفييتية السابقة، تواقة إلى  التحول نحو تبني  الديمقراطية، واقتصاد السوق. فشهد الاتحاد الأوروبي توسعته الرابعة في سنة 2004، وهي أكبر توسعة مثيرة للجدل بانضمام عشر دول دفعة واحدة إلى عضويته، ثماني دول من أوروبا الشرقية، وهي: بولندا، وهنغاريا، والتشيك، وسلوفاكيا، وبلغاريا، ورومانيا، وسلوفينيا، ولاتفيا، وليتوانيا، واستونيا، ودولتيت  متوسطتين: قبرص ومالطا. 

 

تمكنت أوروبا من دخول السياسة الدولية بصورة مختلفة. على المستوى الفكري ارتبط هذا بظهور محاولات مفاهيمية للتأصيل لأنماط القوة الجديدة التي شملت تصنيفات مثل القوة المدنية والقوة الناعمة والقوة غير القاسية والقوة المعيارية (أو الأخلاقية) دون أن تغيب للحظة واحدة عن النقاش الصورة المقابلة لكل تلك التصنيفات: القوة العسكرية.

 



لم يتم قبول هذه الدول داخل الاتحاد الأوروبي، إلا بعد أن وافقت على جملة من الشروط:

1 ـ أن تكون (تصبح) دولة ديمقراطية مستقلة تحترم حقوق الإنسان و سيادة القانون وحماية حقوق الأقليات داخل أراضيها.
2 ـ أن يكون اقتصادها مبنيا على السوق الحر.
3 ـ أن تطبق مجموع القوانين العامة و المعايير و السياسات التي تشكل مجمل القوانين المنظمة لعمل الاتحاد الأوروبي ،وتقوم بدمج هذه القوانين في قوانينها المحلية.

وبشكل عام ، فإنه يمكن تسجيل الملاحظات التالية حول أهمية هذا التوسع:

1 ـ هذا أول توسع للاتحاد الأوروبي خارج أوروبا الغربية بمفهوم الحرب الباردة.
2 ـ جغرافيًا باتت روسيا على حدود الاتحاد الأوروبي.جزء مما يعنيه هذا هو انزياح في سياسة الاتحاد الخارجية.
3 ـ أن يصبح الاتحاد الأوروبي 25دولة ، فهذا يتطلب إصلاح مؤسساتي في الاتحاد الأوروبي ليتسنى ضبط عملية اتخاذ القرار في أكبر مؤسسة بيروقراطية في العالم المعاصر. وهو ما فعله الأوروبيون في اتفاقية لشبونة.

يقول الباحث عاطف أبو سيف: رغم أن الدول العشر الجديدة تضم دولاً كبرى في السكان وفي الوزن السياسي مثل بولندا ودولاً متوسطة الحجم والحضور السياسي مثل التشيك و هنغاريا، فإن أغلب هذه الدول هي دول صغيرة في تعداد السكان، إذ إن تعداد سكان دولتينمثل قبرص ومالطا، بالكاد يصل إلى مليون نسمة.إن هذا العدد الكبير من الدول الصغيرة سيزيد من قوة الدول الصغرى الأخرى مثل البرتغال و السويد و أيرلندا ولوكسمبورغ وغيرها، والتي تشعر بهيمنة الدول العملاقة مثل ألمانيا وفرنسا و بريطانيا على الاتحاد الأوروبي"(ص 80 من الكتاب).

كان من المفترض أن تنضم كل من بلغاريا ورومانيا إلى الاتحاد الأوروبي في مطلع العام 2004، إلا أن المفوضية أرجأت انضمامهما لاستيفاء المعايير الأوروبية المتبعة داخل الاتحاد. ولم تقبل عضوية كل من بلغاريا ورومانيا إلا في سنة 2007. وشهد الاتحاد الأوروبي توسعته السادسة في سنة 2013، بانضمام كرواتيا رسميا للاتحاد.وبذلك أصبحت كرواتيا العضو الثامن و العشرين في الاتحاد الأوروبي. وظلت خمس دول مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكن لم يتم قبولها لغاية الآن،رغم تقديم طلباتهاللعضوية منذ سنوات، وهذه الدول هي: أيسلندا (2009)، وتركيا (1987) وصربيا (2013)، ومقدونيا (2009)، ومونتنيغرو(2012).

السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي

ولدت تجربة التكامل الأوروبية في رحم الحرب الكونية التي كانت أوروبا مشعلتها، وعلى أرضها دارت أشرس معاركها، والمحقق بأن الكثير من الأفكار المتعلقة بالتكامل والوحدة الأوروبية، والتي رأت النور أو حتى تلك التي لم تره، كانت مدفوعة بتجربة الحرب المدمرة سواء من جهة المسبب أو من جهة الغاية وراءها. وإذا ما استذكر المرء المداولات الأولى لفكرة الوحدة الأوروبية والدوافع المختلفة لمواقف الدول التي صارت عضواً في الاتحاد الأوروبي، فسيجد بأن جميع هذه المواقف كانت مدموغة بختم الهاجس الأمني والصراع المسلح في الماضي. لم تكن تجربة أوروبا المريرة مع الحروب صدفة الحربين الكونيتين، بل إن أوروبا ومنذ مطالع القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين شهدت سلسلة طويلة من الحروب الشرسة بين محاور وتكتلات مختلفة ومتقاطعة داخل القارة الأقوى عسكرياً في ذلك الوقت والأكثر تقدماً وتسلحاً. لقد مثلت الحروب النابولونية والتحالفات والثورات والاقتتال بين الدويلات وحركات التوحد والتوسع بجانب حروب الاستقلال العلامة الأبرز للتاريخ الأوروبي الحديث خلال القرن والنصف الذي سبق اندلاع الحروب العالمية. وهو صراع عادة ما عكس نفسه في ساحات أخرى من العالم خاصة في مستعمرات الدول الأوروبية في أفريقيا وآسيا.

وقد تمكنت أوروبا من دخول السياسة الدولية بصورة مختلفة. على المستوى الفكري ارتبط هذا بظهور محاولات مفاهيمية للتأصيل لأنماط القوة الجديدة التي شملت تصنيفات مثل القوة المدنية والقوة الناعمة والقوة غير القاسية والقوة المعيارية (أو الأخلاقية) دون أن تغيب للحظة واحدة عن النقاش الصورة المقابلة لكل تلك التصنيفات: القوة العسكرية.

يقول الباحث عاطف أبو سيف:"لم يكن شيء يقلق آباء التكامل الأوروبي أكثر من الروح الوطنية العالية التي قد تولد الرغبة في الصراع مرة أخرى. كما أن المشروع الوحدوي كما أسلفنا في الفصلين السابقين وفي مقدمة هذا الفصل ارتكز على عدم تكرار تجربة الحرب ، التجربة التي كان لألمانيا تحديداً دور كبير في تأجيجها، الرغبة الأساسية كانت في ضرورة احتواء ألمانيا ضمن مشروع أوروبي متكامل. إلا أن مثل هذا المشروع لا يجب أن يعطي ألمانيا دوراً قيادياً خاصة في المجال الدفاعي، وبالقدر الذي كانت هناك حاجة لكبح جماح ألمانيا وجدت حاجة لضرورة شملها في أي مشروع تكاملي حتى لا تنزع لتصرفات فردية"(ص 158 من الكتاب)..

كانت أوروبا تنعم بالحماية الأمريكية وبالردع الأمريكي المحتمل لأي نية سوفييتية بالهجوم على أوروبا الغربية، هذه الضمانة الأمريكية ربما أعفت أوروبا من التفكير الجدي في تطوير قدرات عسكرية خاصة بها باستثناء القدرات النووية الفرنسية والبريطانية المحدودة.

فالاتكال الأوروبي على الحماية الأمريكية، بجانب انشغال الأوروبيين بتطوير مشروعهم الاقتصادي والوحدوي، وإيمانهم بأن القوة العسكرية هي التي قادت إلى تدمير قارتهم وخوفهم من ارتباط النمو العسكري بالمشاعر القومية والوطنية، شغلهم عن التفكير في تطوير قدراتهم العسكرية ومنعهم من الإنفاق بسخاء على تطوير الآلة العسكرية الخاصة بهم. 

لكن يجافي هذا التحليل المنطق في افتراضه أن الأوروبيين كان بمقدورهم تطوير قدرات عسكرية موحدة. فلم يشهد التاريخ الأوروبي وحدة عسكرية أوروبية وأوروبا لم تكن "واحدة" وبالتالي فإن المشروع الوحدوي الأوروبي لم يكن يهدف لتوحيد القوة الأوروبية بقدر طموحه لتجنب هذه القوة. وبعبارة أخرى فإن التكامل الأوروبي ليس إلا محاولة لوأد أي طموح أوروبي لتطوير قدرات عسكرية عند الدول الأعضاء. ولم تكن الأفكار التي راودت بعض القادة الأوروبيين بشأن تطوير قوة أوروبية موحدة إلا أحلاماً مبالغاً فيها إذا ما تم مناقشتها في سياقها التاريخي.

 

كانت أوروبا تنعم بالحماية الأمريكية وبالردع الأمريكي المحتمل لأي نية سوفييتية بالهجوم على أوروبا الغربية، هذه الضمانة الأمريكية ربما أعفت أوروبا من التفكير الجدي في تطوير قدرات عسكرية خاصة بها باستثناء القدرات النووية الفرنسية والبريطانية المحدودة.

 


 
على العكس من أوروبا، كانت الانتصار الأمريكي وقدرة الولايات المتحدة على حسم الحرب، والخوف من الخطر الشيوعي حافزاً لزيادة تطوير القوة الأمريكية عبر الإنفاق بسخاء وتكثيف البحث العلمي في المجالات التكنولوجية والعسكرية والنووية، وهو ما زاد الهوة في قدرات الطرفين وزاد من اتكال أوروبا على أمريكا.

يقول الباحث عاطف أبوسيف:"في مقابل ذلك اكتفت أوروبا بمحاولة حماية نفسها من أي هجوم سوفيتي. تعزز هذا مع انهيار الاتحاد السوفيتي، فبالنسبة للأمريكيين شكل سقوط حلف وارسو وتراجع الطموح العسكري السوفيتي تحدياً جديداً تطلب الحاجة لتعزيز التفوق الأمريكي لمجابهة أي قوة صاعدة قد تقلق مقدرة الأمريكيين على التصرف "بمفردهم". 

في مقابل ذلك لم يعن اندحار التهديد السوفييتي بالنسبة لأوروبا سوى فرصة جديدة لتعزيز السلام في القارة. تمثل ذلك في فتح باب النادي الأوروبي لدول أوروبا المتوسطة والشرقية وتخصيص مليارات الدولارات لتمكينها من تجاوز الفجوة الاقتصادية بينها وبين نظيراتها في أوروبا الغربية. بمعنى شبيه من هذا فإن الأوروبيين رأوا في نهاية الحرب الباردة نهاية للحاجة للقوة في القارة، وهو بالطبع انتصار للمشروع الوحدوي الأوروبي"(ص 167 من الكتاب).

 

إقرأ أيضا: الاتحاد الأوروبي.. قراءة تاريخية في أسباب التأسيس

التعليقات (0)