كتب

متطوع مكة.. رحلة من تأصيل الإحسان إلى دليل التطوع العلمي

العمل الإغاثي والإنساني من منظور إسلامي.. شهادة ناشط مغربي-  (عربي21)
العمل الإغاثي والإنساني من منظور إسلامي.. شهادة ناشط مغربي- (عربي21)

الكتاب: متطوع مكة
المؤلف: جلال عويطة
منشورات: مركز يقين الرباط- المغرب
الطبعة الأولى 2020
عدد الصفحات: 316

ليس من عادة الناشطين في المجال الإغاثي ـ لاسيما في العالم العربي ـ أن ينشغلوا بتأليف الكتب، فكثافة الأعمال التي يفرضها هذا العمل وثقلها وازدحامها لا يترك لهم مجالا للكتابة، لاسيما في المجال الذي  تفرغوا للعمل فيه. لكن، بالنسبة إلى الأستاذ جلال عويطة، الذي رأس مؤسسة عطاء الخيرية الذائعة الصيت لسنوات، فإن الأمر يختلف، فقد فضل أن يخوض هذه التجربة، وأن يخصص فترة طويلة من التأمل في المصادر الشرعية وفي سيرة الرسول صلى الله وعليه وسلم والصحابة والسلف الصالح، ليس من أجل تأصيل العمل الطوعي، ولا من أجل الحث عليه، أو التوجيه التربوي للإقناع بأهمية التطوع وفائدته الإحسانية، وإنما لهدف أكبر، يتمثل في تلمس روح التطوع في هذه المرجعية، والنفس الذي تشعه النصوص الشرعية والمواقف الإنسانية العظيمة المبثوثة في التراث الإسلامي الواسع.

هي تجربة مثيرة، كونها لم تكتب بقلم عالم ولا مفكر ولا مثقف يتقن فن التأصيل أو التحليق الفكري أو الترف الثقافي بين يدي هذه القضية الإنسانية الرفيعة، إنما هي تجربة مشتغل بالعمل الطوعي، ذائق لحلاوته وصعوباته، ومهتم بهمومه وانشغالاته وآلامه وآماله، مشتغل عاش كل تجارب العمل الطوعي والإغاثي بمختلف مشمولاته الإنسانية، منقب عما يقوم به من عمل من داخل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح، يلتمس جدوره وأصوله، ومعانيه ودلالاته، وفوق هذا وذاك، يحاول التماس الروح التي تسكن هذه المواقف، والتي تجد شرعيتها في نصوص القرآن ومقاصده العليا.

كتاب "متطوع مكة" الذي صدر مؤخرا عن مركز يقين، بفضل سعيه إلى لم كل مشمولات العمل التطوعي، وبحثه عنها داخل التراث الإسلامي الواسع، لاسيما في مرجعيته الأساسية، الكتاب والسنة وسيرة الرسول عليه السلام وسيرة السلف الصالح، يمكن أن يرشح ليكون دليل المتطوع وزاده العملي في رحلة إنسانية رحبة.

 

فضل جلال عويطة أن يسمي كتابه "متطوع مكة" تذكيرا بالوجهة والقبلة من جهة، وتأكيدا على أن مرجعيته الأساسية في استلهام فلسفة التطوع النظرية والعملية هي القرآن والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم،


والحقيقة أن نخل عويطة للتراث الإسلامي من خلال مصادره الأساسية، ليس بالعمل الأكاديمي الذي يتطلب وصل النصوص بقواعد فهمها وضوابط تفسيرها، فقد فضل الابتعاد عن هذه المنهجية، وتبني مرجعية أخرى، لا تلتزم الصرامة المنهجية، وتقترب من التماس الأبعاد الإنسانية والرسائل المرهفة في فعل التطوع والإحسان، وتبني الكتاب بمنهجية حديثة يعتمد فصولا مرتبة بشكل عفوي على الطريقة الأمريكية في الكتابة السلسة، يسهل على القارئ قراءة متقطعة لفصوله من غير ملل.

الرسول إمام المتطوعين

فضل جلال عويطة أن يسمي كتابه "متطوع مكة" تذكيرا بالوجهة والقبلة من جهة، وتأكيدا على أن مرجعيته الأساسية في استلهام فلسفة التطوع النظرية والعملية هي القرآن والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يخفي في أول فصول كتابه هذه المرجعية، ويؤكد أن الرسول الأعظم يمثل بالنسبة إليه إمام المتطوعين وقدوة المتبرعين وقائد المحسنين، ومعلم الناس الإيثار والتضحية والإنفاق والبذل والعطاء وكل ما هو جميل. 

وكان التفاتة جلال اعويطة إلى المرأة جد قاصدة، لبيان استواء الجنسين في حمل فلسفة التطوع النظرية والعملية، فإذا كان الرسول الكريم هو المثل الأعلى والقدرة الحسنة والنموذج الأكمل في التطوع والبذل والإحسان، فإن لمسات زوجته خديجة رضي الله عنها، لا تخفى في صناعة متطوع مكة، فقد نبهت الرسول الكريم لحظة التوتر الذي عاناه من شدة نزول الوحي عليه في بدايته الأولى، إلى ضرورة الاطمئنان، واعتبرت البذل والعطاء والتطوع سببا موجبا لهذه الطمأنينة والسكينة وعدم الخوف والحزن.

 

اليتم والترمل شرخان عاطفيان غائران يحتاجان لدعم ومواساة دائمة من جميع فئات المجتمع


ومن لطيف الإشارات التي سجلها جلال عويطة في هذا الموقف الإنساني الصادر عن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، أنه اعتبره درسا نفسيا وواقعيا يرشح أن يكون قاعدة للتفكير، إذ انتبهت أم المؤمنين قبل ورود النصوص الشرعية إلى الارتباط التلازمي بين الإنفاق وبين تيسير الأمور والنجاة من المهالك وتبديد الصعاب.

كما التفت اعويطة إلى مركزية اليتامي والأرامل في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماعية، وكيف كان يربط تماسك المجتمع وصيانة كرامته بالعناية باليتامي والأرامل ورفع الهشاشة عنهم، إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفصل في رؤيته بين العدل وبين إحاطة الفئات الهشة بالعناية اللازمة، فبين اعويطة أن الرؤية المحمدية كانت تنطلق من قاعدة أن الفوارق الاجتماعية تحول دون تطوير الأفراد لقدراتهم ومساهمتهم كأعضاء منتجين في المجتمع.، وأنه لهذا الغرض، اتجهت السياسة المحمدية أول ما اتجهت إلى تقليص الفوارق الاجتماعية ووضع هذه الفئات الهشة في مركز العناية، وعدم السماح لمزيد من تهاويها في سلم المجتمع وقاعه.

يستعيد اعويطة بهذا الخصوص تجربته في العمل الإغاثي، ويعتبر أن اليتم والترمل شرخان عاطفيان غائران يحتاجان لدعم ومواساة دائمة من جميع فئات المجتمع، منعطفا بعد ذلك إلى التجربة النبوية للتأكيد على أن العطف على هذه الفئات يعود على المرء بملأ قلبه بالجوانب الإنسانية التي أضحت غائبة أو ضامرة عن واقعنا المعاصر.

التطوع صناعة ربانية

من جميل الإشارات التي التفت إليها جلال اعويطة في كتابه تأمله لمهمة الأنبياء، وكونهم نذروا أنفسهم للدعوة من غير استحقاق لأجر دنيوي، وأن رسالتهم كانت تطوعية، بل كان أساس دعوتهم وبرهان صدقهم هو التطوع لأداء مهمة الرسالة من غير طلب أجر، فالتمس قصة موسى عليه السلام، ليضيف إلى هذه الإشارة بعدا آخر، يتعلق بالصناعة الربانية، فالرسول الذي نذره الله للقيام بوظيفة الدعوة ويتطوع من أجلها، يخضع لصناعة ربانية، فيكون التطوع بهذا المعنى صناعة ربانية، إذ يخضع الرسول المتطوع لتكوين من نوع خاص، ليقتحم الصعاب ويخوض صراعا مع فساد الفطرة وذلة الاستعباد وخساسة الرذائل ونذالة الطغيان وخشونة الظلم وظلمات الأمية والجهل، وليبني أسس مجتمع متماسك راق يقوم على شحذ المعاني الإنسانية، ركيزته الأساسية العلم والمعرفة وتوحيد الله عزل وجل، وأنشطته اليومية التعاون والإخاء والبذل والعطاء وإحلال الأمن والاستقرار الاجتماعي.

ويدخل المؤلف في سياق وقائع السيرة، ويورد نموذج خيمة أم مبعد التي استضافت النبي صلى الله عليه وسلم وكانت رمزا للعطاء والبذل، وكيف نزلت البشائر النبوية على هذه الخيمة، كما يورد قصة حلف الفضول قبل الإسلام، وكيف شكل أول منظمة حقوقية تطوعية، تهدف إلى تدشين مرحلة جديدة لنصرة المظلومين والقطع مع الظالمين وحفز الكل للتطوع لإقامة مجتمع العدل الذي تحفظ به الحقوق وتصان فيه العلاقات وتُقام فيه الحياة المتوازنة.

 

من جميل الإشارات التي التفت إليها جلال اعويطة في كتابه تأمله لمهمة الأنبياء، وكونهم نذروا أنفسهم للدعوة من غير استحقاق لأجر دنيوي،


كما يستعرض من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وقائع الهجرة، وطريقة استقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف وقف أحياء ألأنصار كلها متطوعين بديارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ونساء، وكيف ابدى أبو أيوب اعلى معاني التطوع، واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة سبعة أشهر حتى اكتمل بناء المسجد وبنيت حجرات الرسول عليه السلام فيه.

ثم يستعرض مشاهد كثيرة من وقائع الهجرة، وكيف هب الجميع للتطوع من اجل بناء مؤسسات دولة المدنية، وفي مقدمتها المسجد، ولا يماد يغفل أي جانب من جوانب السيرة ليبحث عن المواقف الإنسانية العالية المرتبطة بالبذل والتطوع والعطاء إلا سجلها في هذا الكتاب بطريقة تركز على النفس والروح التي يبثها الإسلام في الفرد والمجتمع لصناعة المتطوع فردا ومجتمعا.

فلسلفة التطوع أو دليل التطوع العملي

والحقيقة أن الجانب الأكثر أهمية في كتاب جلال اعويطة ليس هو التأصيل أو البحث عن أصول التطوع والبذل والعطاء في نصوص الشرع ومواقف الرسول الأكرم، وإنما هو ما أشار إليه من أساسيات في منهج التطوع ودليله، ومنها التفاته إلى قضية احترام التخصصات، ووضع كل شخص في المجال الذي يتقنه، إذ لم يكن العمل التطوعي النبوي في معناه الشامل بمعزل عن مراعاة التخصص، وتقديم الأولويات، وعدم الإقدام على المرجوح وترك الراجح، كما أشار اعويطة إلى خصوصيات الهندسة المحمدية للتكافل الاجتماعي، إذ انطلق المؤلف من حديث الأشعريين ليرتب عليه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لرسالة أممية عالمية إنسانية، تدعم فعل الوحدة والاتحاد واقتسام الوفرة والندرة على قدم المساواة، كما ذكر بهذا الخصوص بالرسائل الإنسانية المتضمنة في خطبة وداعه، والتي وضعت اساسيات فلسفة التطوع ودليله العملي، وبسطت مشمولاته، من العناية بالجار واٌلأقرباء وترسيخ ثقافة الإحسان والاهتمام بتماسك الأحياء والتطوع من أجل تكريس جماليتها وتحضرها.

 

التطوع الذي أسست له المرجعية الإسلامية لم يكن مؤطرا بخلفية طائفية أو دينية تحصر ثمراته في المسلمين


كما أشار اعويطة ضمن فلسفة التطوع ودليله العلمي إلى بعض الأوجه الغائبة في ذهن المسلم في العمل الإحساني الإغاثي، وهي ما يتعلق بالتطوع من أجل الممتلكات العامة، إذ حاول الحفر في السيرة لالتماس نماذج من الوصايا النبوية للحث على التطوع وصناعة المتطوعين الذين أعدهم النبي صلى الله عليه وسلم لخدمة المصلحة العامة وتأمين ممتلكات الدولة التي تعود بالنفع على الجميع، وتناول في كتابه بعض الاستراتيجيات التي انتهجها النبي صلى الله عليسه وسلم للتمكين للفقراء، كما أشار ضمن فلسفة التطوع ودليله إلى الأهمية التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم للاجئين، وكيف حول عليه السلام المسجد إلى قبلة لهم، يتلقى أعطيات الناس من أجل توزيعها عليهم لسد حاجاتهم، كما أشار إلى الفلسفة المحمدية في العمل الإغاثي، وكيف توجه إلى خلق تنمية مستدامة، مستندا في ذلك إلى سلوك عائشة رضي الله عنها وكيف كانت تؤهل الفقير للعيش الكريم، وتخرجه من بؤس الفقر وكابوسه إلى كرامة العمل المدر للدخل وإلى الرجل الفاعل في مجتمعه.

ومن الإشارات الدالة التي ركز عليها الكاتب علاقة التطوع باستقرار البيوت وتماسك الأسر، وعلاقته أيضا بتعمق العلاقات الإنسانية بين مكونات المجتمع، كما سلط الضوء على علاقة التطوع بالبيئة ودورها في جمال الطبيعة وإحاطتها بالمساحات الخضراء التي تؤمن لها شروط الحياة، وكيف لعب التطوع في تكثيف عملية التشجير في صدر الإسلام، ولم يغفل الكاتب إلى العلاقة المتينة التي تربط التطوع بذوي الاحتياجات الخاصة في الإسلام، وكيف يبذل التطوع كل الجهد من أجل إشاعة الرحمة بذوي الاحتياجات الخاصة، ورفع الصعاب عنهم وتذليل العقبات في وجههم وتسهيل اندماجهم في المجتمع، وفي التنمية، ومن جميل ما أشار إليه المؤلف في بحثه في التراث الإسلامي التفاته إلى دور التطوع والعمل الإغاثي في القضاء على الجريمة وعلى جذورها في المجتمع، وأيضا دوره في محاربة البغاء ومناهضته ومعالجة أسبابه العميقة. كما لم يفته أيضا الإشارة إلى وضع العبيد في الجاهلية وفجر الإسلام وكيف ساهم التطوع في تحقيق الحرية والدفاع عنها وصيانتها. 

وأشار الكاتب أيضا إلى دور التطوع في إعطاء رسالة إنسانية للطب، وإحاطتها بكل ابعاد الضمير الإنساني.

على أن التطوع الذي أسست له المرجعية الإسلامية لم يكن مؤطرا بخلفية طائفية أو دينية تحصر ثمراته في المسلمين، بل أكد الكاتب بهذا الخصوص على أن فلسفة التطوع ودليله في الإسلام يشمل الإنسان، كل الإنسان بما في ذلك الكفار. بل يشمل كل المخلوقات بما في ذلك الحيوانات والطيور، ويضرب لذلك مثلا بالوقف الإسلامي الذي يعتبره الكاتب سيد التطوع في الإسلام بدون منازع، وكيف وصلت مخرجاته إلى النساء واليتامي والأطفال والرضع وذوي الاحتياجات الخاصة والمطلقات والأرامل والطيور والحيوانات وغيرها، وكيف أبدع المتطوعون في مسار الإسلام الطويل اشكالا من الوقف التطوعي التي تظهر تشعب الفعل الإغاثي في الإسلام وشموله وسعته. 

المعاني الخفية في التطوع

مع كل الجهد الذي بذله اعويطة في إخراج فلسفة التطوع ورسم معالم دليل عملي للمتطوع في العمل الإغاثي، فإنه ركز في المقابل على الجانب الخفي والباطني في التطوع، أو الشيء الذي يكون ثاويا خلف فلسفة التطوع، وهو الارتباط بالله والنية الخالصة لوجهه، و التماس القبول منه، تلك النية التي تجعل الإسلام يحيط التطوع بجملة من الضوابط التي تصون كرامة المتطوع له، وفي الوقت ذاته، تختبر نية المتطوع ومقاصده الخفية، فركز الأستاذ اعويطة على قضية القبول، ومدار الفعل التطوعي عليه، وأن أعظم قاعدة في فلسفة التطوع ودليله أن القبول هو اختصاص إلهي حصري، والا أحد يضمنه، وأن التطوع إنما ربط بالنية، وبالقبول، حتى يبقى مستمرا ومتجددا لا ينقطع. 

التعليقات (0)