كتب

الدولة الوطنية العربية والعصرنة السياسية.. قراءة في كتاب

الكاتب التونسي عادل اللطيفي يشرح متطلبات مرحلة الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي (عربي21)
الكاتب التونسي عادل اللطيفي يشرح متطلبات مرحلة الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي (عربي21)

الكتاب: الدولة والثورة والحداثة ـ من الاستثناء العربي إلى الخصوصية التونسية
الكاتب: د.عادل اللطيفي 
الناشر: مسكيلياني للنشر والتوزيع ـ تونس ـ الطبعة الأولى، كانون ثاني (يناير) 2020.
(412 صفحة من القطع الكبير).

عرّف عدة مؤلفون العصرنة السياسية بطرق متعددة أيضاً، لكن معظم هذه التعريفات تركز على الاختلافات بين مايفترض أنها صفات مميزة لنظام الحكم العصري ولنظام الحكم التقليدي، ويقول صموئيل هانتنتون في هذا الصدد: من الطبيعي اعتبار العصرنة السياسية على أنها الانتقال من واحد إلى آخر، استناداً إلى هذا الطرح، بالإمكان تصنيف الوجوه الأهم في العصرنة السياسية تحت ثلاثة عناوين عريضة.
 
أولاً: نفترض العصرنة السياسية عقلنة السلطة، واستبدال عدد كبير من السلطات السياسية التقليدية والدينية والعائلية والعرفية بسلطة سياسية قومية علمانية واحدة، هذا التغيير يعني ضمناً أن الحكم من نتاج الإنسان، لا من نتاج الطبيعة ولا هبة من الله. وأن مجتمعاً حسن التنظيم يجب أن تتوافر فيه مرجعية بشرية هي المقدر للسلطة النهائية، وأن إطاعة قوانينه الوضعية تفوق من حيث الأهمية سائر الواجبات. تفترض العصرنة السياسية التوكيد على السيادة الخارجية للدولة القومية لمواجهة العوامل المؤثرة من خارج حدودها القومية، والسيادة الداخلية للحكم القومي لمواجهة القوى المحلية والاقليمية، إنه يعني الاندماج القومي ومركزية النفوذ أو حصره في مؤسسات قومية تشريعية معترف بها.

ثانياً: تفترض العصرنة السياسية التمييز بين الوظائف السياسية الجديدة وتطوير بنى متخصصة لتنفيذ هذه الوظائف. وتصبح المجالات مفتوحة للكفاءات الخاصة ـ القضائية والعسكرية والإدارية والعلمية ـ منفصلة عن المجال السياسي، وتظهر أدوات مستقلة ومتخصصة، ولكن تراتبية لإنجاز هذه الأعمال، تصبح الهرمية الإدارية أكثر تفصيلاً وتعقيداً، وتنظيماً، ويصار إلى توزيع المراكز والنفوذ حسب المنجزات بالانتساب.

 

في تونس، أسقطت الانتفاضة الشعبية ـ الثورة رأس النظام السابق وبالوسائل السلمية، ومن دون عون خارجي، لكننا اكتشفنا مقدار البون الشاسع الذي يفصل حالة مابعد سقوط النظام فيها، أي مرحلة الانتقال الديمقراطي، عن معنى الثورة .

 

ثالثاً: تفترض العصرنة السياسية المشاركة المتزايدة في السياسة من قبل فئات اجتماعية من المجتمع ككل، وقد تسهم المشاركة الموسعة في السياسة في تعزيز سيطرة الحكم على الشعب، كمافي الدول الكليانية أو أنها قد تسهم في تعزيز سيطرة الشعب على الحكم، كما يحدث في بعض الدول الديمقراطية. لكن في كافة الدول العصرية يصبح المواطنون معنيين مباشرة بشؤون الحكم وتحت تأثيرها، إن السلطة العقلانية والبنية التفصيلية والمشاركة الجماهيرية هي إذا ما يميز أنظمة الحكم العصرية عن أنظمة الحكم السابقة.

لقد بقيت الدولة الوطنية العربية في شتى أشكالها التقليدية الموالية للغرب، أو "الثورية العسكرية"، التي انتهجت سياسة تعديل شروط العلاقة مع الامبريالية، دولة تفتقد إلى العقلانية مطبقة في السياسة ـ ولا زالت سياسة الدول العربية هذه غير متحررة من المطلقات، وذات بنية تقليدية من حيث الجوهر، ولا ترتكز سياستها على خدمة المصلحة القومية أولاً، ولا على التمييز بين الحقيقة الواقعية والمعتقد ثانياً، ولا على مبدأ سيادة الأمة ثالثاً.

الثورة في تونس وتداعياتها العربية

لم تكن الثورة الشعبية التي أطاحت حكم بن علي البوليسي مُؤطرةً من قبل الأحزاب والحركات الأيديولوجية التقليدية (الماركسية والقومية والإسلامية)، التي لم تستطع أن تركب موجة الحراك الاجتماعي وأن تقود المتظاهرين في شوارع المدن التونسية، وهنا تكمن فرادتها الحقيقية مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي و العشرين، إذ أنها ثورة غير أيديولوجية بالمعايير التي نعرفها عملياً ونظرياً.

فهذه الثورة اندلعت بسبب، ارتفاع أسعار الغذاء، وزيادة الفقر، وارتفاع متوسط معدل البطالة للفئة العمرية من 15 إلى 24 سنة فى تونس إلى نحو 35 فى المائة، مقابل متوسط معدل عالمى 14.4 فى المائة، وتجاهل الدولة البوليسية التونسية هذه المشكلات ذات الطابع التنموى والاجتماعي، تأثيراتها الأمنية والسياسية.. فالبطالة تتجاوز آثارها بكثير الشق الاقتصادى والاجتماعي، لأنها إذا كانت تعنى بالأساس تعطيل قوة بشرية فى سن العطاء، وهم فئة الشباب الجامعي، القادرة على إحداث التنمية والتقدم والدفع ببلدانها إلى الأمام؛ فإنها تشكل تربة خصبة للثورة الاجتماعية و السياسية.

إِنَّ القوة التي لعبت دور المحرك الرئيس في هذه الثورة، وفي قيادتها حتى سقوط الرئيس بن علي، هي الحركة الشبابية ـ أي تلك الفئة الاجتماعية المتكونة من طلاب الجامعات والخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل، بسبب البطالة الضاغطة التي يعاني منها الآلاف من الشباب ذوي المؤهلات العلمية، وتعاظم الإحساس بالظلم الاجتماعي الناجم من حالة الفساد التي عرفتها تونس واستئثار حفنة قليلة من المستفيدين من نظام بن علي البوليسي بجزء هام من الاقتصاد الوطني في قطاعات متنوّعة مثل البنوك والصناعة والعقارات. فهذه الفئة الاجتماعية وليدة النظام التونسي، ووليدة عجزه في آن معاً.

في سيرورة النضال تحولت هذه الانتفاضة الاحتجاجية إلى ثورة شعبية وشبابية، هي ثورة مدنية لا عسكرية ولا إسلامية، رغم التحاق إسلاميي حركة "النهضة" بها بعد اندلاعها. وهي أيضاً، ليست ثورة يسارية، رغم انضمام عناصر تنظيمات يسارية صغيرة، وبينها حزب العمال الشيوعي التونسي، وتنظيم الوطنيين الديمقراطيين، والمجموعات القومية الراديكالية، بها بعد اندلاعها.

بعد أن تحول ما اصطلح على تسميته في الخطاب العربي والدولي بـ "الربيع العربي" إلى شتاء قارس، كان الحدث التونسي بوصفه المفجر الأساس للعديد من الانتفاضات الشعبية في أكثر من بلد عربي، محورمراجعات نقدية علمية، هل ما جرى في تونس يمكن أن نطلق على تسميته ثورة؟ أم انتفاضة شعبية؟

 

هذا الإسلام السياسي يختلف عن الإسلام المقاوم الذي تؤمن به الشعوب في منطقة المغرب العربي


ففي تونس، أسقطت الانتفاضة الشعبية ـ الثورة رأس النظام السابق وبالوسائل السلمية، ومن دون عون خارجي، لكننا اكتشفنا مقدار البون الشاسع الذي يفصل حالة مابعد سقوط النظام فيها، أي مرحلة الانتقال الديمقراطي، عن معنى الثورة .

المعضلة الكبرى التي تكمن في تونس، أن العديد من الأطراف السياسية والفئات الاجتماعية أسقطت رغباتها على مَا اصْطُلِحَ تَسْمِيتَه ُبـ "الثورة التونسية" من المُهِمَّاتِ والاِنْتِظَارَاتِ الجسام، ما تعجز هي ـ ذاتياً وموضوعياً ـ عن تحقيقه لتواضع إمكانياتها. فرغم أن "الثورة التونسية" أسقطت رأس النظام السابق، ونخبته الحاكمة، وحلَت البرلمان السابق، وحلّت أيضا حزب النخبة الحاكمة السابقة، وكتبت دستوراً جديداً، ونظمت انتخابات برلمانية ورئاسية على مقتضى قانون انتخابي جديد، فإن كل هذه الإجراءات لم تفض إلى ثورة حقيقية تحدث تغييراً راديكالياً في البنى والعلاقات الاجتماعية ـ الاقتصادية، وهو مايترافق مع تغيير جذري لعلاقات السلطة وتركيبها الطبقي المناسب لنوع العلاقات الاجتماعية السائدة. 

فالثورة التونسية لم تمس نظام العلاقات الانتاجية ومواقع السيطرة فيها، بل أبقت على تلك العلاقات، واكتفت بالتبديل في علاقات  السلطة والسيطرة، داخل المنظومة الاجتماعية ـ الاقتصادية عينها التي كانت سائدة في عهد الديكتاتورية.

يقول الباحث المغربي الدكتورعبد الإله بلقزيز: لا يجوز، إذن، ابتذال معنى الثورة واستخدامه على غير أصوله.. كما أنه من نافل القول إنّ ما حدث من انتفاضات، وما يحدث من حروب، لا يقع تحت مفهوم الثورة بمعناها الحقيقي، مع فارق لا يجوز جَهْلُه ُ بين انتفاضات وحركات احتجاجية مدنية بلغت مبتغاها كُلاً أو جزءًا (تونس، مصر، المغرب، سلطنة عمان)، وبين تحركات مسلحة أدخلت نفسها في نفق حروب داخلية لا يتبين ضوءٌ في نهايته،وقدّمت لأنظمتها لاستخدام أقسى أنواع العنف.

الثورة، أوالتغيير الثوري، ليست حالة مشهدية، جموعية، يحتشد في نطاقها الناس ("الجماهير") ليمارسوا ـ بالعنف السياسي المدني أو بالعنف المسلح ـ عملية تغيير للنخبة السياسية الحاكمة. إسقاط سلطة حاكمة ليس، بالضرورة ثورةً أو يفتح طريقًا إلى الثورة، بل قد تُنجزُ طبقةٌ حاكمةٌ ثورةً، هي نفسُها، أو تشترك مع غيرها من الطبقات و الفئات في إنجاز الثورة سلميًا من دون قطيعة دموية مع عهد سابق (ماذا حصل في بريطانيا غير ذلك؟)... والثورة ليست، قطعًا، امتشاق السلاح ونهج طريق التغيير بالعنف المسلح، إلاّ في مواجهة المحتل الأجنبي، أمّا في الداخل فتوسُلُهُ آيلٌ بالبلد إلى الفتنة والحرب الأهلية واستباحة الوطن أمام التدخلات الخارجية.فالثورة ليست هذاولا ذاك، هي ـ في مفهومها النظري ـ تغيير شامل للبنى والعلاقات الاجتماعية ـ الاقتصادية، وهو ما يترافق مع تغيير علاقات السلطة وتركيبها الطبقي المناسب لنوع العلاقات الاجتماعية ـ الاقتصادية السائدة.

يقول الكاتب عادل اللطيفي: "ما الثورة؟ نستعمل المصطلح هنا بمعنى لحظة الاحتجاج الواسع التي تفضي إلى هزّ سلطة الحاكم. أي ما يسمى في علم الاجتماع السياسي باللحظة الثورية وهي لحظة المواجهة المباشرة بين جماهير المحتجين والحاكم ما يؤدي إلى ازدواجية السلطة. فالثورة تتمثل في ذلك الحراك الاحتجاجي الشعبي الذي ينتج قطيعة تحمل إمكانات للتغيير وشروطا جديدة للتطور على مستوى المجتمع و الدولة. وحدوثها يكون فجائيًا ومقترنًا بتغيرات عميقة في ظرف وجيز يستحيل معها أي توقع مسبق"(ص 296 من الكتاب).

متطلبات مرحلة الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي 

إن المدخل الواقعي لإعادة بناء الوحدة الوطنية في الدولة العربية، هي الصيغة التي تتحدد في ضوئها مهمات بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، وهي مهمات معقدة ومتداخلة، آثرنا أن يكون تحويل الدولة القطرية ديمقراطياً وقومياً مدخلاً إليها. وإذا كان من الضروري إيضاح الخطوط الرئيسية لاستعادة بناء الدولة الوطنية، فإن هذه الخطوط هي:
 
أولاً: تحقيق التحول الديمقراطي في الدولة الوطنية، والتحول الديمقراطي في الدلالة اللفظية المرحلة الإنتقالية بين نظام غير ديمقراطي ونظام ديمقراطي، فالنظام السياسي الذي يشهد تحولاً ديمقراطيًا يمر بمرحلة انتقالية بين نظام غير ديمقراطي في اتجاه التحول إلى نظام ديمقراطي. 

وبناء على ذلك فالنظام الديمقراطي هو النظام الذي يسمح بمشاركة سياسية واسعة في إطار الميكانيزمات الإنتخابية، والإعتراف بمبدأ التداول على السلطة والمشاركة في عملية إتخاذ القرارات، فمفهوم الديمقراطية يتضمن فكرة جوهرية وهي قدرة السياسات العامة على الإستجابة لمطالب الجماهير، وذلك عن طريق هياكل أساسية تقوم بتعبئة المصالح..

وتأسيسًا على ذلك فإنّ التحول الديمقراطي هو مجموعة من المراحل المتميزة تقوم على ظهور ديمقراطية حديثة تسعى لترسيخ نظامها السياسي، وتعكس هذه العملية إعادة توزيع القوة بحيث يتضاءل نصيب الدولة منها لصالح مؤسسات المجتمع المدني بما يضمن نوعا من التوازن بين كل من الدولة والمجتمع، بما يعني بلورة مراكز عديدة للقوى وقبول الجدل السياسي. وعليه فالتحول الديمقراطي هو عملية تهدف إلى إعادة النظر في خارطة القوة على مستوى النظام السياسي، والعمل على إعادة التوازن بين القوى الرسمية المتمثلة في الدولة والمؤسسات غير الرسمية متمثلة في منظمات المجتمع المدني.

ثانياً: إن عملية الإنتقال من أنظمة تسلطية إلى أنظمة ديمقراطية ،يتم فيها حل أزمة الشرعية والمشاركة والهوية والتنمية، لا تتم إلا من خلال إنتهاج الديمقراطية كأسلوب لممارسة الأنشطة السياسية، فالتحول الديمقراطي يعني تغييرا جذريا لعلاقات السلطة في المجال السياسي وعلاقات التراتب في الحقل الإجتماعي.

ثالثا: المقدمة الأولى للدولة الوطنية وضمانة تحولها إلى دولة ديمقراطية، تكمن في تحقيق الاندماج القومي في كل بلد عربي على حدة، وفي الوطن العربي بوجه عام، ونقصد بالاندماج القومي تصفية البنى والعلاقات ماقبل القومية، والانتقال من مفهوم الجماعة إلى مفهوم المجتمع المدني، ومن مفهوم الملّة الديني إلى مفهوم الأمة العلماني والديمقراطي، ومن وضعية التكسر المجتمعي وتحاجز فئات المجتمع إلى الوحدة المجتمعية السياسية ـ وسيرورة الاندماج القومي هذه هي ذاتها سيرورة نمو المجتمع المدني العلماني، وسيرورة بناء الدولة الوطنية وفق مقتضيات العقل ومطلب الحرّية.

 

المقدمة الأولى للدولة الوطنية وضمانة تحولها إلى دولة ديمقراطية، تكمن في تحقيق الاندماج القومي في كل بلد عربي على حدة

 
رابعاً: الدولة الوطنية هي التي تتبنى العلمانية، بفتح العين، وهي التنمية المنطقية والتارخية للإنسانوية، تعني على المستوى الوجودي، رفض أي سلطة على عقل الإنسان وضميره سوى سلطة العقل والضمير. وتجلى ذلك في رفض سلطة المؤسسة الدينية، لا رفض الدين، أي رفض سلطة مؤسسة "الدين الوضعي" التي كانت ولا تزال تؤسس الاستبداد الديني وتعززه وتؤازر الاسبداد السياسي و تعززه. وعلى هذه القاعدة لا يحق لأي جماعة أن تفرض عقيدتها الدينية أو الدنيوية على المجتمع، ولا يحق لها كذلك أن تغض من شان المعتقدات والمذاهب الأخرى. العلمانية بهذا المعنى هي التجسيد العملي للمساواة.

خامسًا: الدولة الوطنية هي التي تتبنى العمومية، فتكون الدولة بهذا التعريف، دولة جميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز،لادولة طبقة رأسمالية أو بروليتارية و لادولة جماعة إثنية أو عشيرة أو جماعة إسلامية، ولادولة حزب ولا دولة طغمة تحتكر السلطة والثروة والقوة.المجتمع المدني هو الذي ينتج الدولة السياسية أي الدولة الوطنية، تعبيراً عن كليته ووحدته التناقضية، بما هو مجتمع الأفراد المختلفين والجماعات المختلفة والطبقات أو الفئات الاجتماعية المختلفة ذات المصالح المتعارضة.

سادساً: الدولة الوطنية هي التجسيد الواقعي لدولة القانون

يقول الكاتب عادل اللطيفي: "ضمن هذا السياق المعقّد يدخل الإسلام السياسي على الخط ليغيّر المعادلة جذريًا، فما حدث في تونس مثلاً من ثورة هي إفراز لمسار تطور الدولة، انتهت إلى صعود قوي ما قبل الدولة إلى الحكم ممثلة في حركة النهضة باعتبارها تجمع أكبر طيف من أطياف الإسلام السياسي...هكذا تراجع الاهتمام بالشأن العام وأصبحت السياسة والانتخابات والحياة البرلمانية تدور على التحالفات وعلى مكوناتها لا على البرامج والمشاريع التي تخدم الانتقال الديمقراطي... بينت موجة الثورات العربية وخاصة في تونس بأن الطابع الإحيائي يبقى السمة المميزة للإسلام السياسي وذلك على حساب التجديد بالرغم من تبني خطاب الديمقراطية علنا" (ص 401 من الكتاب).

الدولة الوطنية وإعادة بناء المشروع العربي الديمقراطي

 يظل الانتصار على الإرهاب في بعده الاستراتيجي مرهونًا بإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في العالم العربي على أسس جديدة ،على أن تستثمر هذا الدولة الوطنية في العروبة بوصفها الخيار الأيديولوجي والمشروع الثقافي للأمة العربية في القرن الحادي والعشرين، والهوية الثقافية المميزة للعرب عن غيرهم من الأمم والشعوب، والهوية السياسية المؤسسة لسياسة ودولة فاعلة في النظام الدولي العالمي، عبر تبني المفاهيم القائمة على التعددية الفكرية والسياسية ،وفكرة المواطنة، وبناء دولة القانون، أي دولة المؤسسات الدستورية وإعادة تثمين الوطنية المحلية الدستورية، والتأكيد على مرجعية احترام حقوق الإنسان، والحريات الشخصية والاعتقادية، والديمقراطية.

فالمشروع العربي الديمقراطي، هو الخيار العروبي الوحيد للدولة الوطنية، الذي من خلاله يمكن للشعوب العربية، أن يبنوا مستقبلهم السياسي والاقتصادي والثقافي، وأن يؤسسوا عبره وحدتهم الوطنية والقومية الحقيقية، بعيداً عن الانقسامات المذهبية والطائفية: سواء تمثلت في صعود الانقسامات المذهبية داخل الدين الواحد أو تنامي العصبيات الجماعية على أساس ديني بين أصحاب العقائد المختلفة. فالطائفية تعبر عن إخفاق السياسة القومية في بناء إطار تضامنات فعلية وطنية ما فوق طائفية.

 

هناك قطاعات من العرب تنزع إلى نكران عروبتها أو تجاهلها أو عدم إعطائها قيمة ومعنى، أحيانا لأسباب أيديولوجية، أو لأسباب سياسية


لا تزال العروبة تشكل موضوع نقاش محتدم ومتجدد داخل المدارس الفكرية والسياسية العربية، بسبب القراءات المتناقضة بشأن مضمونها، بين دعاة التجديد والتجاوز للمفاهيم والأطر الأيديولوجية التي سجنت العروبة في قوالب جامدة، ودعاة التشكيك في معناها ووجودها. فالأولون يرون أن العالم  العربي الممتد من المحيط إلى الخليج العربي، يتكون من شعوب عربية متوحدة في المصالح والمشاعر والتطلعات الواحدة، لكن تعيش بين ظهرانيها أقليات دينية وعرقية مختلفة أخفاها الدين الواحد واللغة الواحدة التي ارتبطت به، وهي في طريقها لأن تستعيد وعيها بذاتها وهويتها الخاصة، خلال العقود الأخيرة، حيث رأت الأقليات المحصورة سابقاً كثيراً في فرصها الاستراتيجية بالنسبة لعلاقة قوى غير مؤاتية ونطاق مؤسسي ثابت وصارم، دفعة واحدة يتسع إلى ما لا نهاية في مجال الممكنات.

وهناك قطاعات من العرب تنزع إلى نكران عروبتها أو تجاهلها أو عدم إعطائها قيمة ومعنى، أحيانا لأسباب أيديولوجية، أو لأسباب سياسية، فلا شك في أن حركات الإسلام السياسي، أو قسماً كبيراً منها، تنفر من العروبة لأنها تخشى أن تكون بديلاً للانتماء الديني الأوسع، ترى بعضها فيها "عصبية جاهلية"، ومثل ذلك كان يفعل الكثير من أصحاب الأيديولوجيات القطرية المتمحورة حول الدولة بعامة في الماضي القريب، والحداثيون أو العلمانيون الذين ينظرون إلى العروبة على أنها أيديولوجية قومية، وهي "لا تبدو أبداً أمراً بديهياً" حسب رأيهم.

ومع صعود حركات الإسلام السياسي بعد هزيمة الحركة القومية العربية، تعمقت أزمة العروبة، بسبب العلاقة المتوترة بين العروبة والإسلام. وفي ظل مرحلة ما بات يعرف بالربيع العربي الذي احتلت فيه حركات الإسلام السياسي جزءاً كبيراً من الفضاء الذي كانت تشغله العروبة القومية في عقود مضت، فإنّ هذه الحركات التي تسعى إلى الحلول محل العروبة، من دون آفاق ولا مرتكزات سياسية وثقافية عميقة، لن يكتب لها النجاح. إن هذا الإسلام السياسي المنفصل عن العروبة وجه ضربة قوية للعروبة التي نهضت في إطار التحرر من الاستعمار، وكانت ولاتزال لها مضامين مناهضة للهيمنة الغربية والصهيونية.

ولذلك، فإنّ هذا الإسلام السياسي يختلف عن الإسلام المقاوم الذي تؤمن به الشعوب في منطقة المغرب العربي، ويؤدي دوراً مهماً وكبيراً في مواجهة ومحاربة الكيان الصهيوني.كلما انخرط الاسلامويون في الكفاح من أجل الاندماج في العصر، أي التفاعل بنجاعة وفعالية معه، وتحقيق السيادة والاستقلال السياسي والثقافي والفكري، والانخراط في إدارة الدولة وتسيير الاقتصاد، سيجدون أنفسهم مضطرين إلى التراجع إلى موقع العروبة وخندقها، وإعادة بناء عقيدتهم أو مرجعيتهم الإسلامية بالترابط معها. فهي وحدها التي تستطيع أن تستوعب عصرنة المجتمعات الإسلامية أو تحديثها، من دون أن تخاطربالانفصال عن الإسلام أو الوقوف في مواجهته.

 

إقرأ أيضا: الدولة القومية في الغرب انبنت على فكرة الأمة

 

إقرأ أيضا: الدولة العربية سجينة الموروث في الفكر السياسي الإسلامي

 

إقرأ أيضا: العرب.. من قيام الدولة الوطنية إلى الثورة





التعليقات (0)