هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يصر المفكر والفيلسوف الجزائري، موسى معيرش، على وجود نظريات وليس نظرية سياسية واحدة للدولة الاسلامية، ويرى أن المشكلة الأكبر، هي في غياب الرغبة في تحويل هذه النظريات إلى آليات للحكم في الدول الإسلامية، وفي عجز النخب عن فرضها، على الرغم من إقراره بعدم وجود شكل محدد في الإسلام لنظام الحكم هذا، كما لم توجد في تاريخ المسلمين دولة إسلامية كاملة، وإنما توجد دول تحكم المسلمين وتجعل من الشريعة الإسلامية مصدر دستورهم الأول.
ويركز البروفيسور موسى معيرش في حواره لـ "عربي21" على فكرة أن ازدهار عملية التفلسف يتبعها انبعاث حضاري، باعتبارها (الطريقة التي تميز الأمم المتحضرة عن تلك المتوحشة).
ويعد الدكتور موسى معيرش، أحد أكثر المفكرين غزارة في الإنتاج الفكري، لعل من أبرزها لا الحصر: "الفكر الإسلامي في المغرب العربي"، المدينة الفاضلة عند أبي الأعلى المودودي"، "المعرفة والبحث العلمي"، "النظام السياسي في اليهودية والإسلام"، "نظام الحكم في اليهودية"، "الجدل الديني والسياسي في اليهودية والإسلام بين المقدس والمدنس"، "فلسفة القيم: مفهومها/طبيعتها"، "تصنيف القيم بين الدين والفلسفة"، "القيم في الفلسفة الشرقية إشكاليات وأعلام"، "فلسفة الفلسفة"، " "قضايا الفلسفة العامة".. وغيرها من الأبحاث العلمية داخل الجزائر وخارجها.
ويعد البروفيسور موسى معيرش مظلوم إعلاميا، على الرغم من كل هذا الإنتاج الفكري الغزير، وعلى الرغم من كونه شغل مناصب علمية عليا في الجزائر على غرار: رئيس مجلس علمي، خبير في الندوة الجهوية لجامعات الشرق الجزائري، رئيس مشروع دكتوراه فلسفة الأديان، رئيس عِدة مشاريع بحثية داخل الجزائر وخارجها، نائب عميد مُكلف بالدراسات العليا والبحث العلمي والعلاقات الخارجية. علاوة على كونه أستاذا بروفيسورا بجامعة قسنطينة، وقد أشرف على العشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه.
عن الفكر والثقافة وأسئلة الحرية والثورة والكرامة والعلاقة بالآخر يدور هذا الحوار:
س ـ هل ارتبط الانبعاث الحضاري الإسلامي بانبعاث الفلسفة والفكر النقدي فعليا منذ العصر الأموي قبل أن يصل أوجه في العصر العباسي، أم إن الأمر يتجاوز ذلك؟
ـ الفلسفة ميدان خصب من ميادين المعرفة، بل إنها أم العلوم والمعارف جميعا، وهو ما عبر عنه القدماء والمحدثون على السواء، رغم محاولات النكران التي أرادها البعض، وهذا ما أشرت إليه بوضوح في كتابي فلسفة الفلسفة، عندما حاولت إعادة الاعتبار لفعل الفلسفة والتفلسف، وهي كما يذهب أحد كبار الفلاسفة، الطريقة التي تميز الأمم المتحضرة عن تلك المتوحشة.
وإذا ما تتبعنا تاريخ الأمم والشعوب نجده يعبر عن حقيقة جلية واضحة، وهي أن ازدهار عملية التفلسف يتبعها انبعاث حضاري، وهذا ما نجده في بلاد اليونان بعد ظهور الثلاثي: سقراط، أفلاطون وأرسطو، بعدما وحده الاسكندر المقدوني تلميذ هذا الأخير(أرسطو)، والقائل عنه: إذا كان فليب أنجبني لهذه الدنيا، فأن أرسطو علمني العيش فيها.
هناك أكثر من نظرية سياسية للدولة الاسلامية، إنما المشكل في عجز النخب على فرضها
ـ تعود علاقاتي بفلسفة القيم إلى سنوات عديدة خلت، عندما استوقفتني موضوعاتها واستهوتني مباحثها، فقررت أن أغوص فيها، خاصة أنني لاحظت أن مشكلة العالم ككل، هي مشكلة اختلاف في القيم وتناقض في تفسيرها واستخدامها، فعملت على أن أصدر فيها مجموعة من الأعمال ذات الصبغة الحضارية، حتى تكون مقدمة لمشروع فلسفي أشتغل عليه، فأصدرت: فلسفة القيمة: مفهومها وطبيعتها، تصنيف القيم بين الفلسفة والدين، القيم في الفلسفة الشرقية إشكاليات وأعلام، القيم في الفلسفة اليونانية مشكلات وأعلام، وأنا الآن بصدد تحضير ثلاثية في الموضوع تغطي فترة العصور الوسطى: اليهودية، المسيحية، الإسلامية.
وبالعودة لسؤالك الذكي، فقد تعددت النظرة للقيم، وتعددت تصنيفاتها، غير أن المؤكد أن المقدمات لابد أن تنسجم مع النتائج كما يقول المناطقة، حتى يستقيم القياس الحملي، ولهذا فقد وجدنا تنوعا في هذا الأمر، ومع هذا فإننا نرى أن صحيح النقل لا يمكن أن يتناقض مع العقل السليم القائم على رؤية نقدية ومعرفية لا تنطلق من الافكار المتحجرة والمسبقة، ولا تنفصم عن روح الانسان سليم الفطرة.
وعليه فلا نرى فائدة من إحداث قطيعة بين ما هو معرفي عقلي، وما هو معطى نقلي.
س ـ هل يمكن اجراء مقارنات معقولة بين نظام الحكم في الإسلام، و"نظام الحكم في اليهودية" الذي هو عنوان لكتاب أصدرتموه؟ وأين تبرز الفوارق ضمن دائرة مبدأ "الحاكمية لله"؟
ـ مثلما اهتممت بالقيم، فقد اهتممت بفلسفة الدين والسياسة، وهذا ما تجلى في عدة أعمال أصدرتها في الميدان، أهمها: نظام الحكم في اليهودية، النظام السياسي في الإسلام واليهودية، المدينة الفاضلة عند أبي الأعلى المودودي، جدل الديني والسياسي في اليهودية والإسلام، وأنا بصدد أن أصدر نظام الحكم في الإسلام.
ومن خلال محاولات المقاربة والمقارنة بين نظام اليهودية السياسي، وجدت أن كثيرا من النقاط يشترك فيها نظام الإسلام مع نظام اليهودية، وإذا كان الإسلام يقر بأن هذا التشابه يعود لوحدانية المصدر الإلهي، فإن الغريب أن بعض منتقدي هذا النظام يرفض الرؤية الإسلامية ولكنه لا يستنكر الرؤية اليهودية رغم التشابه الكبير في هذا المجال، بل إننا نجد في الأولى تطويرا حتى تكون منسجمة مع العقل المسلم، كما هو شأن مصدر السلطة وحدودها، وطبيعة التشريع.
س ـ تناولتم كذلك في منشوراتكم "الفكر الإسلامي في المغرب العربي"، هل يمكن تلخيص أهم خصائصه، وما الذي يفرقه عن الفكر الإسلامي في المشرق؟
ـ الفكر الإسلامي في المغرب العربي، محاولة للغوص في خصوصية العقل الجزائري، بعد أن خصصت موضوعاته للحديث عن بعض المفكرين الجزائريين، أمثال : سعدالله، مالك بن نبي، مصطفى الأشرف، عبدا الله شريط، عبد الرزاق قسوم وغيرهم، وبالعودة لسؤالكم، فالفكر الجزائري متميز بمنطلقاته وخصوصيته الفكرية والتاريخية، الذي تميزه عن الفكر في تونس والمغرب ومن ثم الفكر العربي في المشرق العربي.
فهو وليد جملة من العوامل التاريخية التي صبغته بالطابع الثوري، والوسطية التي يتسم بها المذهب الأشعري الذي يستمد منه الجزائري عقيدته الدينية.
س ـ هل صحيح أن دول المغرب العربي باتت اليوم مصدرا للأفكار الملهمة ناحية المشرق بعكس ما كانت عليه في السابق، وما هي علامات ذلك؟
ـ بالفعل، فالمغرب العربي بمختلف أقطاره، قطع شوطا كبيرا في التفكير الفلسفي، بعدما ظهرت مشاريع فكرية كبيرة، منها: مشروع الجابري، طه عبد الرحمن، جعيط، المرزوقي وغيرهم، وأصبحت هذه المشاريع الفكرية مصدر إلهام لكثير من المفكرين في المشرق العربي، وهذا خلافا لما سبق تاريخيا، عندما كان المشرق يؤثر في المغرب ولا يتأثر، وقد انقلبت هذه المعادلة من فترة طويلة، ذلك أن مغرب ابن خلدون ليس كسابقه.
س ـ غياب النظرية السياسية للدولة الإسلامية، ربما عمق في الجدل القائم بين ما هو ديني وما هو سياسي، فهل يمكن تصور حلول نهائية لمثل هذه النقاشات الفكرية غير المنتهية؟
ـ دعني أختلف معك هذه المرة حول غياب نظرية سياسية إسلامية، بل إنه بدلا من وجود نظرية واحدة، فإن هناك عدة نظريات في هذا الشأن لمفكرين مسلمين في مختلف العصور بدأ من الماوردي وصولا إلى يومنا هذا الذي نجد فيه عدة نظريات سياسية، منها النظرية التي قدمها أبي الأعلى المودودي، وهي التي أوضحناها في كتابنا: المدينة الفاضلة عند أبي الأعلى المودودي، وتلك التي قدمها عبد القادر عودة في كتابه الإسلام وأوضاعنا السياسية، ومالك بن نبي في العديد من كتاباته، وغيرها من النظريات، غير أن الغائب الأكبر هو غياب رغبة في تحويل هذه النظريات إلى آليات للحكم في الدول الإسلامية، وعجز النخب على فرضها نتيجة، والصراعات البينية بين أقطاب ما يسمى بالحركات الإسلامية التي وصل الحال ببعضها للتحالف مع أعدائها التقليديين الدائمين ضد بعضهم البعض رغبة في تحقيق مكاسب شخصية، كما يحدث اليوم في الجزائر عند تحالف بعض الإسلاميين مع العلمانيين المتطرفين.
وهذا التشرذم وضيق الأفق أحدث شرخا بين الديني والسياسي، وعمق التناقض بينهما، فصار مرجعنا في هذا الشأن العقل الأوروبي المختلف بدل العقل المسلم الأقرب لفهم التكامل بينهما.
س ـ تهميش دراسات التاريخ الملاحظ في عالمنا العربي، في مقابل الاهتمام المتزايد الذي توليه أمم أخرى لهذا العلم، خلق هوة كبيرة بين ماضي الأمة وحاضرها وربما مستقبلها، أحدث حالات التخبط الراهنة من محاولات تطور مقطوعة عن جذورها، كيف يمكن تجاوز هذه الإشكالات؟
ـ ظاهرة تهميش التاريخ في بلاد المسلمين سياسة متبعة مدروسة، غايتها إخراج أجيال من المسلمين لا يعرفون تاريخهم، أو يتلقونه مشوها برؤية المستشرقين، خلافا لبقية الدول الغربية وإسرائيل، حيث يخصص له حجم ساعي معتبر، ومعامل كبير، ولعلك تذكر في نهايات الثمانينات عندما رُفع في الجزائر شعار "التاريخ إلى المزبلة"، واليوم يرفع بعضهم شعار العودة لما قبل آدم، ومن هنا تشعر أن الغاية من تجاهل التاريخ، هو تجاهل فترة تاريخية معينة، وهي المرحلة الاسلامية.
وهذا ما ولد كما قلتم قطيعة تاريخية كبرى بين حاضر الأمة وماضيها، ويرهن مستقبلها نحو المجهول، ويزيد من حالة الاحتقان التي نراها اليوم.
س ـ ماهية الدولة الإسلامية، من ناحية الوجود أولا، والآليات ثانيا، بما فيها مفهوم "تطبيق الشريعة الإسلامية"، يشكل عقدة العقد، في أوطاننا العربية والإسلامية، بين من يراها قائمة بذاتها، وبين من يعتبرها جدلا لاهوتيا زائفا.. ما مقدار الصواب في الرؤيتين؟
ـ ما يجب توضيحه هنا، أنه ليس هناك شكل محدد في الإسلام لنظام الحكم، وما عرفه المسلمون في هذا الشأن لا تزيد على كونها اجتهادات بشرية، ومحاولة ربطها بالشريعة الإسلامية، وهذا يحسب للمسلمين والإسلام وليس العكس، فأنظمة الحكم تتطور وتتبدل نتيجة للظروف السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وما يصلح لفترة لا يمكن أن يصلح لغيرها، فنظام البيعة الذى أنجب الخلافة الراشدة في صيغته الأولى أي ما بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم توافق مع طبيعة المرحلة، لكنه لم يعد قادرا على حكم المسلمين فيما بعد، وما قيل عن نظام الراشدين يقال على نظام الملك عند الأمويين والعباسيين ونظام السلطنة عند العثمانيين، ولهذا يجب النظر لهذه المسألة بموضوعية ودون حساسية تقديس ما هو غير مقدس، وإهمال المقدس الحقيقي.
*الفكر الجزائري متميز بمنطلقاته وخصوصيته الفكرية والتاريخية عن الفكر العالم العربي
ـ المشكلة ليست في الإنتاج الفكري، وإنما في غياب نقاد وصحافة ثقافية من شأنها أن تقدم هذا الإنتاج والتعريف به.
س ـ إذا استثنينا أسماء قليلة من أمثال الجابري (بدعوته إحياء العقل العربي) ومالك بن نبي (وفكره التغيير من الذات)، فإن المشاريع النهضوية الفلسفية العربية في عمومها، لا تزال للأسف تستورد الأفكار بدل صناعتها، الأمر الذي عطل مشاريع التنمية في بيئتها العربية، كيف تفصلون في ذلك؟
ـ المشاريع التي تقوم على استيراد الأفكار والتنكر لقيم وموروث الأمة، لا يمكن لها أن تنجح، فهي وإن نجحت في أماكن ظهورها، فهي فاشلة في بيئة مغايرة لها، وهذا ما تنبه إليه مالك بن نبي في كتابه المسلم في عالم الاقتصاد انتقد فشل خطة الدكتور شاخت للنهوض خارج ألمانيا في حين نجحت نجاحا باهرا.
والحقيقة أننا لا نكاد نجد مشروعا واحدا استطاع أن يلقى طريقه للتنفيذ في بلاده ويحقق النجاح المطلوب، باستثناء مشروع مالك بن نبي الذي حقق نجاحا يستحق التنويه في ماليزيا وإندونيسيا، بينما لم يلق ذلك الاهتمام في الدول العربية بما فيه الجزائر.
أما بقية المشاريع فلم تزد على كونها تصورات عقلية بما فيها مشروع الجابري نفسه، رغم ما بذل فيه صاحبه من جهد في مختلف مجالاته، وما يجب التنويه به هنا، أن المشكلة لا تعود لصاحب المشروع أو حتى للمشروع في حد ذاته، وإنما نتيجة لغياب نخبة سياسية ودينية وثقافية تقف خلفه وتدفعه للإمام.
س ـ سبق وتحدثتم عن أن ثورات الربيع العربي التي لم تنظر لها النخب العربية، رغم رفعها شعارات الحرية، تعد في الواقع امتدادا وتكرارا لثورات الشريف حسين التي انتهت بفرض إسرائيل في فلسطين، هل يعني أن التطبيع بات حتمية اليوم تتجاوز السودان إلى كافة الدول العربية؟
- لقد أحسنت الوصف أستاذ حسان، فثورة الشريف حسين لم تكن إلا خيانة للدولة العثمانية وللعرب والمسلمين جميعا، فرغم الشعارات التي رفعتها، والهادفة في مجملها إلى إقامة دولة عربية ومحاربة الاستبداد التركي، ولكن لورنس العرب ومن كان خلفها، كان هدفهم هو القضاء على الدولة العثمانية تمهيدا لمنح فلسطين للصهاينة، وتقسيم تركة الرجل المريض لفرنسا وبريطانيا، وتنصيب أقزام بدرجة ملوك على هذه التركة، وهو نفس السيناريو يتكرر في السنوات الأخيرة أي بعد قرن كامل من ثورة الشريف حسين، فتظهر ثورات بدون سابق إنذار في العديد من الدول العربية التي ما تزال تقاوم الغرب مثل: اليمن، ليبيا، سوريا، مصر، السودان، الجزائر، هدفها الظاهر المناداة بالدولة المدنية لكن حقيقتها التخلص مما تبقى من كرامة واستقلالية، والإطار الذي كان يحمى سيادة الدول، وانتقاما من ثوارت التحرر الحقيقية التي كان ضد الاستعمار الغربي، وإذا جاز لنا القول بأن الفيروسات أمثال: كورونا، أنفلونزا الطيور، انفلونزا الخنازير وليدة مخابر معينة تسعى لكسب المال من خلال نشرها، فإن عديد هذه الثورات وليدة مخابر تشرف عليها أجهزة مخابرات معينة هدفها القضاء على هاته الدول وتعيين حكومات عميلة كما هو شأن ما حدث في السودان.
ولهذا فقطار التطبيع وبيع قضية فلسطين، رغم انطلاقاته القوية بعد هذه الثورات، إلإ أنه سيسقط لا محالة، ومثلما صنف التاريخ ابن العلقمي مسلم بغداد للمغول ضمن الخونة ولعنه، فإنه سيصنف المطبعين ضمن هذا الإطار، ونأمل في ما تبقى من نخوة في هذه الأمة حتى تبطل صفقة القرن وأمثالها.