اليونان هي النجم القادم في حوض المتوسط، تلك الدولة الأوروبية القابعة في موقع استراتيجي حساس على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا وأفريقيا. فهي تحتل موقعا بالغ الأهمية في الحروب الجيو-سياسية القادمة إلى المنطقة، لا سيما حروب
الغاز في حوض المتوسط بكل أشكالها العسكرية والدبلوماسية والسياسية.
تقع اليونان في موقع الطرف الجنوبي من شبه جزيرة البلقان، مشتركة في الحدود البرية من الشمال الغربي مع ألبانيا ومقدونيا الشمالية وبلغاريا من الشمال، وتركيا في الشمال الشرقي، مما يجعلها مع الأتراك في مواجهة؛ إما لتجمعهما كطريقين أساسيين للغاز القادم من كل دول حوض المتوسط نحو جنوب أوروبا وما بعدها، وإما تكون مفتح حرب إقليمية بين دولتين جارتين لدودين بينهما صراع عسكري دام على مدى عقود مضت.
إن المتابع للتصعيد الحاصل بين الدولتين يجد أن كل الخيارات باتت مفتوحة، خاصة إذا ما نظرنا إلى ما يجري في
تركيا منذ تصاعد أزمتها مع أمريكا- دونالد ترامب وما عصف بالاقتصاد التركي، وصولا إلى التشنج الدائم مع الأوروبيين في أمور الشراكة التركية الأوروبية، إضافة إلى مسألة اللاجئين. وبين الأمرين لا ننسى الجفاء مع سوريا ومصر والخليج ما عدا قطر. فالسلطان التركي مضى بخطوات جريئة نحو روسيا منذ حادثة سقوط الطائرة الحربية الروسية، مرورا بصفقة صواريخ "أس-400" الروسية الشهيرة، وصولا للتصعيد الكلامي اليومي من خلال الموقع الجغرافي لقبرص التركية ودفاعه عن ثرواتها، إلى أن وصلنا إلى الاتفاق بين الحكومة التركية وحكومة الوفاق الليبية أو ما يعرف بحكومة السراج، مع احتمالات تدخل تركيا العسكري في ليبيا على أعين ومسمع كل دول حوض المتوسط الحليفة والمعادية على حد سواء.
لقد قال الرئيس التركي بوضوح في التاسع من كانون الثاني/ يناير، بحسب شبكة "تي آر تي" التركية، إن بلاده لن تتردد في مواجهة أعدائها، مؤكداً أنها ستكون موجودة في أي مكان لحماية مصالحها. وأضاف: "من أجل حماية مصالح تركيا سنكون أينما يجب أن نكون، ولن نتردد في مواجهة مَن علينا مواجهته". وأشار أردوغان إلى أن "تركيا ستواصل الدفاع عن حقوقها ومصالحها في العراق وسوريا والبحر الأبيض المتوسط حتى النهاية". بالتالي فإن تصعيد لغة الخطاب التركي أفضت إلى معادلة سياسية وعسكرية ودبلوماسية جديدة على الأتراك من جهة، وعلى كل دول حوض المتوسط من جهة أخرى.
أما في المقلب الآخر، فإن اليونان ومعها مدها الجغرافي في خاصرتها قبرص اليونانية؛ بدت جاهزة لأدوار لم تلعبها في السابق. فبعد قربها المتين مع القاهرة في مواجهة أنقرة تمددت نحو السعودية بإرسالها سفنا حربية، حيث كشفت صحيفة يونانية أن السعودية استعانت بأثينا لنشر صواريخ باتريوت المضادة للطائرات في المملكة؛ لتأمين أجوائها من الصواريخ الباليستية التي يطلقها الحوثيون على منشآتها الحيوية.
ثم إن اليونان تمددت نحو تل أبيب، بحيث وقعت قبرص واليونان وإسرائيل، في العاصمة أثينا، على اتفاق خط أنابيب "إيست ميد"، الذي يمثل أهمية جيوسياسية، وسط توتر بين أثينا وأنقرة حول استغلال موارد الغاز في شرق المتوسط، حسب وكالة الصحافة الفرنسية. وتم التوقيع رسمياً على الاتفاق إثر محادثات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس، ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس.
ويُتوقع أن يجعل المشروع من الدول الثلاث حلقة وصل مهمة في سلسلة إمدادات الطاقة في أوروبا، ويَحول دون محاولات تركيا بسط سيطرتها على شرق المتوسط.
إلى ذلك، شن مجموعة من الساسة اليونانيين هجوما حادا على أنقرة، على رأسهم رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس الذي قال: "أبلغت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (خلال حديثهما حول ليبيا وتركيا) بأننا مستعدون للحرب"، وذلك بسبب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وطرابلس.
وأكد وزير الطاقة والبيئة اليوناني كوستيس هاتزيداكيس، من جهته، لقناة "أنتينا" التلفزيونية اليونانية، أن خط الأنابيب يعد مشروع تعاون في شرق
البحر المتوسط رغم التهديدات التركية، وبذلك أرسل رسالة للجانب التركي بأن اثينا جاهزة لكل الاحتمالات.
إن العلاقة التركية الأمريكية تمر في فترة حرجة تبدأ مع الاقتصاد التركي وتقلباته، مرورا بالملف السوري في إدلب وحلب والشمال السوري ومسألة الأكراد، وصولا للاتفاق مع روسيا على مشروع السيل لتركي الذي وصفه أردوغان، حسب وكالة الأناضول مؤخرا، بأنه "مشروع تاريخي في ما يخص العلاقات الثنائية مع روسيا وخارطة الطاقة في العالم"، وتاليا تعزيز العلاقات الروسية التركية.
أمام هذا المشهد المعقد في حوض المتوسط، وفي ظل تعزيز العلاقات بين اليونان من جهة وأمريكا وحلفائها في منطقة المتوسط من جهة أخرى، وفي ظل التصريحات المحمومة على الحوض المشتعل كلاميا حتى اللحظة، ومع خارطة منتديات ولقاءات الطاقة المتعددة دولا وانتماءات ومصالح، هل تُحتوى صراعات حوض المتوسط في اتفاقيات إقليمية برعاية دولية ومباركة أمريكية- روسية– أممية؟
إننا مع قرب حمى الانتخابات الأمريكية وفي ظل توترات المنطقة نسأل: هل تكون أثينا حصان طروادة لتُدخل الولايات المتحدة حوض المتوسط بصوت البارود والنار؟ إن تاريخ 15 أيار/ مايو من العام 1915 ليس ببعيد، يومها نزلت أثينا بثقلها من خلال عشرين ألف جندي يوناني في إزمير بدعم من الحلفاء، فهل يعيد التاريخ نفسه؟
إن الفرصة ما زالت سانحة لتدخل دولي يلجم الجميع عن تهديد سوق الطاقة العالمي وإمدادته، والذي يكفيه ما يعانيه من تقلبات ومشاكل تنعكس على الاقتصاد العالمي برمته، وعلى كل موازنات الدول المصدرة والمستوردة للنفط والغاز. وما يجري من فنزويلا إلى إيران ليس ببعيد.